قديماً أصدر النحاةُ والنقادُ قراراً صارَ مُتنفساً للشعراء في كل العصور.. يتمثل في قولهم: (يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره)؛ يقصدون علاقة الشاعر بالقواعد النحوية، فإنهم تساهلوا مع الشاعر فجعلوا له "ضرورات شعرية". تجيز له أن يخرج عن إطار القواعد النحوية (الثانوية غير الأصيلة)، أما خروج الشاعر عن قواعد النحو الأساسية وضربه بها عرض الحائط، فهذا مستبعد البتة من مدلول هذا القول.
ونقصد بالقواعد الأصيلة تلك التي استقر عليها كلام العرب منذ وُجِدوا، مِن رفعٍ للفاعل ونائبه، والمبتدأ والخبر، ونصبٍ للمفعولات، وجرٍّ للمجرورات.. وإنما قصدوا بقولهم هذا جواز تصرفه في النحويات الطارئة على الكلمة، مثل التخفيف للمشدّد، وتشديد المخفّف، ومنع المصروف، وصرف الممنوع من الصرف، وتسهيل الهمزة، والمد، والقصر... وغير ذلك مما يطرأ على الكلمة، ولا يغير أصل إعرابها.
وقد جمع الزمخشرى (467 هـ/ 538ه) أشهر عشر ضرورات شعرية فى هذين البيتين:
ضرورةُ الشعر عَشرٌ عُدّ جملتها ... قطْعٌ ووَصْلٌ وتخفيفٌ وتشديدُ
مَدٌّ وقَصْرٌ وإسْكانٌ وتَحْرِكةٌ ... ومَنْعُ صَرْفٍ وصرْفٌ ثم تَعْديدُ
والمعنى بإيجاز: إن الضرورات الشعرية التى لجأ إليها الشعراء كثيرة؛ ولكن أشهرها هذه الضرورات العشر المذكورة: القطع والوصل، والتخفيف والتشديد، والمد والقصر، والإسكان والتحريك، ومنع الصرف وصرف الممنوع من الصرف. هذه هي الأشهر، وهذا لا ينفي أن هناك ضرورات أخرى لجأ إليها كثير من الشعراء.
ونقرر أنه لا غضاضة على الشاعر في استخدامه هذه الضرورات، فقد استخدمها كبار شعراء العربية قديماً وحديثاً، بداية من زهير وعمرو بن كلثوم، مروراً بالمتنبى، وانتهاء بأحمد شوقى.. ثم مَن جاء بعده.
ونحن نركز في هذا المقال الموجز على الضرورات الشعرية التي لجأ إليها أمير شعراء العصر الحديث أحمد شوقي (1868م/1932م)، باعتباره رأس الشعر في العصر الحديث... لقد استخدم شوقي ضرورات الشعر كثيراً .. وهذا أمر طبيعي نظراً لغزارة إنتاجه الشعري.. وسَبْحه في ماء الشعر بكل بحوره. ونحن –ومرجعنا الشوقيات– نعرض فيما هو آت بعض الضرورات الشعرية التي لجأ إليها أحمد شوقي مستشهدين بأبيات من شعره.
1- القصر بحذف همزة الممدود
ومثاله قول شوقي في قصيدته: "روحي فداه":
(قولوا له روحي فداه)، وأصل (فداه).. (فداؤه).. فحذف همزة الممدود للضرورة.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله في قصيدته (الموت):
(أرى الموت على الغبرا هو الجامعة الكبرى).. يقصد (الغبراء).
وكذلك قوله في قصيدته (أمينة): (عند البكا والضحك).. يقصد عند البكاء والضحك.
وهذا كثير عند معظم الشعراء.
2- تخفيف المشدد
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (روحي ولذة عيني):
(رضاه غير قليل ... وسخطه غير هَيْن).
يقصد (هيِّن) بتشديد الياء ولكنه خففها لضرورة الوزن والقافية.
3- تسهيل الهمزة
ومثاله من شعر شوقي قوله في قصيدته (الروح ملك يمينه):
(يا ناعماً رقدت جفونه ... مضناك لا تهدا شجونه)
فخفف وسهّل الهمزة في كلمة "تهدأ".. فجعلها (تهدا)
ومثال ذلك أيضاً قوله في قصيدة (يا زينة الإصباح والإمساء):
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري ... حتى أريك بديع صُنع الباري
فخفف همزة ( البارئ ) إلى (الباري) لضرورة القافية .
وكذلك قوله في قصيدته (هزيمة طرناو):
ونادى منادٍ للهزيمة في الملا ... وإن منادي التُّرك يدنو ويقربُ
فقام بتسهيل همزة (الملأ) فقال: (الملا).. وفي الكلمة أيضاً تسكين للمتحرك؛ فأصلها (في الملأِ) بتحريك الهمزة بالكسر، ولكنه سكّنها بتسهيل الهمزة.
وكذلك قوله في قصيدته (نهج البردة):
وصاحب الحوض يوم الرسل سائله ... متى الورود؟ وجبريل الأمين ظمى
فقام بتسهيل همزة (ظمئ) فقال (ظمى) لضرورة القافية.
4- تخفيف ياء النسب
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (الرجل السعيد):
أنِل قدرِى تشريفاً ... وهَب لي قُربك القدسي
عسى نفسك أن تد ... مج في أحلامــها نفسي
فلم يقل: (القدسيّ) بتشديد ياء النسب، ولكنه خففها لضرورة القافية..
وفى رأي بعض النقاد.. أنه يجوز التخفيف في جميع المنسوبات مطلقاً فيقال: البصرِي/ المكي... بلا تشديد.
5- تسكين المتحرك
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته المطولة (كبار الحوادث في وادي النيل):
فإذا راعها جلالك خرّت ... هيْبة فَهْيَ والبساط سواءُ
فبدلا من قوله (فَهِيَ) بتحريك الهاء قام بتسكينها لضرورة الوزن.
ومثاله أيضاً قوله في نفس القصيدة:
كَبُرت ذاتك العليّة أن تُحْ ... صِي ثناها الألقاب والأسماءُ
والبيت –ناهيك عن الشطط والغلو فيه– تبصر فيه استخدام شوقي لضرورتين من ضرورات الشعر؛ الأولى تسكين المتحرك في قوله (تحصي) والأصل (تحصِيَ ) بتحريك الياء بالفتح.. ولكنه سكّنها لضرورة الوزن.. والأخرى قصر الممدود في قوله (ثناها) والأصل (ثناءها) فحذف الهمزة لضرورة الوزن أيضاً.
6- صرف الممنوع من الصرف
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (كبار الحوادث في وادي النيل):
مَن لِرَمسيسَ في الملوك حديثاً ... ولِرمسيسٍ الملوك فداءُ
فكلمة (رمسيس) ممنوعة من الصرف لأنها علم علي أعجمي، وقام شوقي بمنعها من الصرف في الشطر الأول من البيت؛ لكنه صرف نفس الكلمة (رمسيس) في الشطر الثاني من البيت لضرورة الوزن، فنوّنها بقوله (لرمسيسٍ).
ومثاله أيضاً قوله في قصيدته (نهج البردة):
محبةُ الله ألقاها وهيْبته ... على ابن آمنةٍ في كل مُصطَدمِ
فصرف كلمة (آمنة) بتنوينها بالكسر.. وهي في الأصل ممنوعة من الصرف.
7- حذف الهمزة من الفعل تخفيفا
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (كبار الحوادث في وادي النيل)
ذا الذى كنتِ تلتجين إليه ... ليس منه إلى سواه النجاءُ
فحذف همزة (تلتجئين) فقال (تلتجين) لضرورة الوزن.
8- تحريك الساكن
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (نهج البردة):
يا ناعس الطرف لا ذقتَ الهوَى أبداً ... أسْهرتَ مُضناك في حِفظ الهوَى فَنَمِ
فحرّك الميم الساكنة في فعل الأمر (نمْ) فقال: (فَنَمِ) بكسر الميم لضرورة القافية.
9- تحويل همزة القطع إلى ألف وصل
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (الهمزية النبوية):
فَلو انّ إنساناً تخيَّر مِلّةً ... ما اختار إلا دينَكَ الفقراءُ
فحَوَّل شوقي همزة القطع في (أن) إلي وصل فقال (ان) لضرورة الوزن.
10- حذف حرف من الكلمة
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (القلب أصْبَى):
أتجزيني عن الزلفَى نفارا ... عتبتك بالهوى وكفاك عتبا
فحذف الألف من كلمة (عاتبتك) فقال: (عتبتك).. لضرورة الوزن.
11- فكّ التضعيف
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (نهج البردة):
صلَّى وراءَك منهم كل ذى خطَرٍ ... ومَن يفُزْ بحبيب الله يأتَمِمِ
فكلمة (يأتمم).. أصلها (يأتمّ) بتضعيف الميم، ولكنه قام بفك التضعيف وذلك لضرورة القافية.
12- تحويل ألف الوصل إلى همزة قطع
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (نهج البردة):
وأهْدِ خيْر صلاةٍ منكَ أربعةً ... في الصحْب صُحبتهم مرْعيّة الحُرمِ
فقال: (وأهدِ) باستخدام همزة القطع مخالفاً الأصل (واهدِ) على اعتبار أن الفعل فعل أمر من الثلاثي، وألفه ألف وصل لكنه حوّلها إلى همزة قطع لضرورة الوزن.
13- جمع الكلمة جمعا شاذاً لا وجود له في معاجم اللغة
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته: (الربيع ووادي النيل):
وعلى الخواطر رقة وكآبة ... كخواطر الشُّعراء في الأتراح
(الخواطر) الأولى يقصد شوقي بها نوع من النبات اسمه "الخِطْر" مفرده: خِطْرَة.. مثل سِدر وسدْرة، وجمعه (أخطار) ولا يصح جمعه على (خواطر) ولكن شوقي جمعها هذا الجمع لضرورة الوزن.
14- زيادة حرف مد في الكلمة
ومثاله عند شوقي قوله في قصيدته (نكبة دمشق):
لكل لبوءة ولكل شبلٍ ... نضالٌ دون غايته ورشْقُ
فكلمة (لبوءة) صوابها (لبؤة) وهي أنثى الأسد.. ولكن شوقي زاد في الكلمة واوا، فمد حرف الباء بالواو فقال: (لبوءة).. لضرورة الوزن.
ختاماً
بعد هذا العرض الذي يثبت جواز استخدام الشاعر الضرورات الشعرية حيث استخدمها كبار شعراء العربية على مرِّ العصور، وفي مقدمتهم في العصر الحديث أميرُ الشعراء أحمد شوقي، إلا أننا نقول إن الأكمل والأفضل والأولى أن يجمع الشاعر بين البناء الشعري الممتع، وبين الالتزام بقواعد النحو جميعاً.. وأن لا يلجأ إلى الضرورة الشعرية إلا عند الضرورة القصوى.. وفوق كل ذي علم عليم.