
لقد ساهم الممثل أنتوني هوبكنز بدورٍ فعّالٍ ومميّز في فيلم "جلسة فرويد الأخيرة Freud’s Last Session"، والذي هو عبارة عن دراما تاريخية من إخراج مات براون. الفيلم الذي استوحيت أحداثه من مسرحية مارك سانت جيرمان، يُصور لقاءً خياليًا بين شخصيتين بارزتين من القرن العشرين: سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، وكلايف ستيبلز لويس، الروائي والشاعر المسيحي، الذي أبدع أيضاً في مجالات النقد الأدبي والبحث الأكاديمي وكتابة المقالات، صاحب السلسلة الروائية الشهيرة "سجلات نارينا The Chronicles of Narina". أحداث الفيلم تدور في لندن، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهي إجمالا عبارة عن حوار فلسفي مغلق يجسد مواجهة فكرية بين رؤيتين كونيتين مختلفتين في شكل مكثف وحميمي.
يندرج فيلم "جلسة فرويد الأخيرة" ضمن فئة سينمائية تضم أعمالا أخرى مثل "الساعة الأكثر ظلمة Darkest Hour"، و"خطاب الملك The King’s Speech"، و"نادي الشعراء الراحلين Dead Poets Society"، وهي أفلام تعرض شخصيات تواجه صعوبات كبيرة وتضطر لإثبات نفسها، وفرض حضورها في الغالب من خلال الكلام أو الخطاب. في كل واحد من هذه الأفلام، يلعب التعبير عن الذات أو البلاغة أو إلقاء الخطابات دورًا محوريًا في التغلب على العقبات، وإلهام الآخرين، وإحداث تغيير ملموس، سواء على الصعيد السياسي أو الشخصي أو البيداغوجي. فباعتماد حوارات كثيفة وخلق أجواء تأملية، يستكشف السرد في هذا الفيلم التوترات الأساسية بين ازدواجيات عديدة أهمها: الإيمان والعقل، العلم والروحانية، الموت والإرث الفكري. وعلى الرغم من كون المواجهة بين فرويد ولويس خيالية؛ فإنها تستند إلى أسس تاريخية وفلسفية متينة، ما يمنح الفيلم بُعدًا تأمليًا يتجاوز إطاره السردي بكثير.
بين شخصيتين:
يتمحور الشريط إذنْ حول حوار بين شخصيتين بارزتين من القرن العشرين: فرويد، الذي يعاني من وطأة المنفى ومن إصابته بمرض خطير، يدعو لويس لمناقشة فكره الإلحادي ومجابهته بفكر الكاتب المسيحي المتجدد بالإيمان. تمتد مناقشاتهما حول الإله، والمعاناة والذنب، والحداد على مدار يوم واحد، تقطعها مشاهد استرجاعية تسلط الضوء على ما كابده كلاهما من جروح في الماضي: لويس الذي عاش ويلات الحرب، وفرويد الذي عانى من آلام المرض ومرارة الفقد. هذا التأرجح الزمني المستمر بين اللحظة الراهنة والزمن الماضي، ورغم وظيفته التوضيحية، يؤثر أحيانًا على سلاسة السرد، ويفتقر دمجه إلى التلقائية، مما يضعف توازن القصة ويخلق نوعًا من التباعد العاطفي مع المشاهدين.
بصريًا، يحتفظ الفيلم ببعض العناصر التي تشي بأصله المسرحي: لقطات ثابتة، صورة مقربة، إضاءة خافتة، وألوان داكنة. هذا التقشف في استخدام الأدوات البصرية، والذي يروم من ورائه المخرج إبراز احتدام النقاش، قد يعزز لدى المشاهد أيضًا انطباعًا بالبطء الذي مرده إلى أن أجواء الفيلم قد تبدو ثقيلة، وشبه خانقة، فضلا عن أن البعض قد ينتقد الإخراج لكونه بدا متحفظًا للغاية، بل وصارمًا في الكثير من الأحيان. أما فيما يتعلق بالشريط الصوتي فقد جاء بسيطًا وركز على كلام الشخصيات. وبعض العناصر التاريخية – مثل مقتطفات إذاعية من خطابات هتلر – تذكر بالسياق الجيوسياسي المقلق الذي تجري فيه هذه المقابلة.
حضور أنتوني هوبكنز يهيمن على الشاشة بأداء مركب: حيث يبدو فرويد بفضل هذا الأداء كشخصية متسلطة، لكنها مع ذلك تقع فريسة للشك، وتجعلها الآلام الجسدية والخوف من الموت تبدو أكثر إنسانية. أما ماثيو غود في دور ك. س. لويس، فيركن إلى نوع من التحفظ. إذ تظل شخصيته، رغم مركزيتها في فكرة الفيلم، غير مستغلة بالكامل، وأحيانًا تطغى عليها هيمنة فرويد. بالمقابل، وفي دور أكثر هدوءاً يمكن اعتباره من بين أحد الكنوز الحقيقية التي يزخر بها الفيلم، تتقمص ليف ليزا فرايز شخصية آنا فرويد، الابنة الوحيدة لسيغموند، وهي بدورها محللة نفسية بارزة متخصصة في علاج الأطفال. شخصيتها، التي قد تبدو ثانوية، تضيف إلى الأحداث بُعدًا عاطفيًا عميقًا وشبه صامت. حيث تجسد آنا صورة الابنة اللامعة التي وإن كانت متميزة فكريًا بشكل لا مراء فيه، إلا أنها تظل مكرسة بالكامل لوالدها، خاضعة لأهوائه وأسيرة لسلطته الأبوية. بهذا الشكل، تجسد آنا، من خلال لحظات صمتها وأيضا من خلال حركاتها المتوارية وغير المرئية، الانعكاس اللاواعي لتناقضات فرويد، فعلى الرغم من أنها تكاد لا تنبس بكلمة إلا أن حضورها وحده يكفي لطي اللثام عن الوجه العاطفي والحميمي لهذا المُنظّر الكبير.
مواجهات الأسئلة:
يثير الفيلم تساؤلات جوهرية عديدة دون أن يلتزم بالضرورة بالإجابة عنها: وأول هذه التساؤلات يتعلق بالدين الذي يمثل المسألة الأساسية التي تهيكل الحوار بين الرجلين. حيث يدافع فرويد عن رؤية عقلانية ومادية للعالم، تعتبر بأن الدين ما هو إلا وهم، و"عصاب قهري كوني" يتيح للإنسان أن يتحمّل عبثية الوجود وقسوته. أما لويس، فعلى العكس من ذلك، يرى في الإيمان مصدرًا للراحة وفضاء للعثور على المعنى، ويعتبره الجواب النهائي لمسألة الشر والأخلاق. ويتناول المفكران كذلك مسألة الألم والمعاناة، على اعتبار أن كليْهما قد تأثر بصدمات الحرب وفقدان أشخاص مقربين. إذْ يستحضر فرويد فقدانه لابنته وحفيده ليُبرز عبثية الألم البشري، بينما يتأمل لويس، الذي خاض الحرب بنفسه، في الكيفية التي تجعل الإيمان يمنح للإنسان القدرة على إيجاد معنى للمعاناة. وهكذا يطرح الفيلم تساؤلات حول قدرة الإنسان على تجاوز المحن وإيجاد معنى في عالم يطبعه العنف والموت. مسألة الموت إذن حاضرة بقوة في الفيلم، إذْ إن فرويد نفسه يقف على حافة الهلاك لكونه مصابا بالسرطان. إن مواجهته لفنائه الشخصي دفعته إلى التشكيك في قدرة العقل المطلقة وإلى الاعتراف بوجود جانب من الغموض يظل قائماً في الوجود الإنساني. أما لويس، فيجد في الإيمان المسيحي رجاءً في حياة بعد الموت، وهو ما يجعل رؤيتهما للفناء البشري متعارضة جذرياً. موضوع آخر يناقشه الفيلم ضمن مواضيع أخرى لا يسعنا جردها كلها في هذه السطور وهي إسهامات التحليل النفسي؛ إذْ يؤكد فرويد على دور اللاوعي، والدوافع، وآليات الدفاع في تكوين الشخصية وفي العلاقة مع المعتقدات. كما يحلَّل تجارب الطفولة والعلاقات الأسرية —وخاصة العلاقة المعقدة بين فرويد وابنته آنا— بوصفها عوامل حاسمة في تشكيل قناعاتنا وشكوكنا.
ستجذب هذه "الجلسة الأخيرة لفرويد" إذن عشاق المواجهات اللفظية، ومحبي الفلسفة والتحليل النفسي، والمشاهدين الذين يحبون الاقتباسات المسرحية الحميمة والعقلية. في المقابل، قد يشعر المشاهدون الباحثون عن إيقاع سريع، أو توترات درامية قوية، أو إخراج أكثر حيوية، بالملل. فالفيلم يتطلب إذن قدرة مهمة على التركيز واستعدادًا لا يقل أهمية للمتابعة والإصغاء.
ختاماً، من خلال وقوفه على مفترق الطرق بين المسار الفكري والجانب الحميمي، جاء فيلم "الجلسة الأخيرة لفرويد" بسيطا وعميقا في الآن ذاته. ورغم أنه يفتقر أحياناً إلى الزخم السردي والديناميكية البصرية، إلا أنه قادر على جذب المشاهد بفضل جودة أداء ممثليه وعمق تساؤلاته. فرغم نقله لصورة فرويد كرمز كبير، نجح الفيلم في إبراز نقاط ضعفه، وتحيزاته، والصدى الإنساني لنظرياته.