مسلسل "تشيرنوبل".. حربٌ باردة جديدة قبل نهاية العالم

د. هاني حجاج


سعادة الشيطان بصرخات الأرواح المُعَذَّبة في أقبية هيدز، يهديها غباء الإنسان بدعوى الأمان، وهو يندفع في إصرار أحمق نحو ديستوبيا لا مرد لها. على أن مسلسل (تشيرنوبل Chernobyl) لا يعرض يوتوبيا معكوسة، كما هو معتاد في أدبيات نهاية العالم (ما بعد المحرقة)؛ ثمة شهادة توثيقية واقعية بدرجة مرعبة، مع انفتاح السيناريو ليشمل عدة خطوط تخرج من مركز المفاعل وقلب الكارثة، كخيوط العنكبوت ليهيمن الخوف على كل شيء: دراما المصائب الطبيعية تأخذ بُعدها القاتم من حقيقة أن الانهيار بفعل فاعل/ دراما الصراع السياسي عن طريق إدانة الكيان السوفييتي، الذي كان يأكل بعضه بعضاً، فانشغل بغروره الشيوعي عن أبسط قواعد إدارة الأزمة/ دراما التاريخ (حدث بالفعل) في إطار من دراما المحاكم، حيث يُعاد تمثيل كل شيء كما حدث فعلاً، بالاعتماد على أكبر قدر من المعلومات الدقيقة، وملفات أجهزة المخابرات، وتكرار المحاكمة لتحقيق عدالة أقرب للإنسانية.
 


بدأت شبكة (HBO) الأمريكية في عرض أولى حلقات مسلسلها الجديد (تشيرنوبل Chernobyl)، عقب آخر حلقات الموسم الثامن والأخير من مسلسلها الأكثر شهرة (لعبة العروش Game of Thrones)، وكانت الحلقة قوية بما يكفي؛ كي يغْفِر المشاهد كل ذلك القدر من الخفة والسذاجة التي انتهت بها ملحمة العروش، أو فلنقل؛ إنه انشغل بفزعه الخاص إزاء صراع عروش معاصر لا ينتهي بمعركة سيوف، بل بِتنينٍ نووي قادر على أن ينفث لهيبة فَيفْنى كل شيء قبل أن نفهم ماذا يحدث! في خمس حلقات فقط، استطاع المسلسل الجديد أن يقبض القلوب ويشد العيون، فيلتف الجماهير في حلقة بامتداد العالم أمام شاشات التلفاز في الدول الكبرى، وتحميلات إعصار التورنت في بلدان العالم الثالث، الذي تهلهلت معالمه بالرغم من كون أهله كانوا الأقل صدمة أمام الحقائق المتكشفة في كواليس السياسة؛ ربما لأنهم أكثر من عانى العنت والكبت وفنون الطمع والقمع.

(تشيرنوبل) يطلب الحقيقة ويسأل عن الذي حدث فعلاً، أو هو يعرفه ويؤكد حدوثه. الحكومات في الدول الكبرى تكذب وتتجمّل بصفاقة؛ إنهم لا يقولون كل شيء، وربما لا يعترفون بأي شيء رغم الطنطنة الزائدة عن الشفافية وديمقراطية العالم الحر، أمريكا ليست ليبرالية كما تقول، والاتحاد السوفييتي لم يكن متماسكاً إلى هذا الحد. أما الشعوب فترزح تحت وطأة قوانين ظاهرها الحق وباطنها الحمق والعناد، فلا تعرف الجثة متى ماتت ولأي سبب. وفي المسلسل تخبر أولانا خوميوك (اميلي واتسون)، الرفيق بوريس (ستيلان سكارسجارد) أن زوجة الإطفائي قد نجت؛ لأن جنينها تلقى بدلًا منها كامل الصدمة الإشعاعية، تقول له: (نحن في بلد تموت فيه الأطفال لإنقاذ أمهاتهم).

في بريبيات شمال أوكرانيا، أواخر أبريل 1986 حدثت أفظع كارثة نووية في التاريخ؛ المولِّد غير مستقر، والخبراء بلا خبرة! أصحاب صنائع معينون بالسخرة أو بالوساطة تحت إشراف مهندسين من أهل الثقة لا الكفاءة، كديدن الأنظمة الاشتراكة الفاسدة، بالطبع تُتخذ إجراءات فادحة خرقاء، فتسقط أعمدة الجرافيت في قلب المفاعل فترتفع الحرارة بدلاً من العكس، لتشتعل الغازات المسربة وينفجر كل شيء.

من خلال سرد ديكتاتوري تبدأ الأحداث بانتحار العالم الروسي فاليري ليجاسوف (جاريد هاريس)، بعد أن سجَّل شهادته سراً ليخبر العالم من بعده عن الذي حدث وكيف حدث، والمشاهد لا يعرف أكثر من الذي يريد (كريج مازن)، صانع العمل، قوله ليزداد يقيناً بأنه لا يعرف أي شيء فعلاً، حتى تأتي الذورة التالية وهي وقوع الكارثة. ويقول العالم المنتحر: "السذاجة من شيم العلماء، نصب كامل تركيزنا في البحث عن الحقيقة فيفوتنا النظر في قلة عدد من يريدنا أن نجدها، لكن الحقيقة موجودة دائماً سواء شئنا أم أبينا، لا تهتم الحقيقة برغباتنا ولا احتياجاتنا، لا تهتم بحكوماتنا ولا بعقائدنا، ستبقى متربصة أبد الدهر، وهذه –أخيراً- هي هدية تشرنوبل". ويخرج الإعلام الروسي لينفعل كأنها حرب باردة جديدة (بالرغم من زيادة نسبة الإقبال السياحي على المدينة المنكوبة بفضل المسلسل)؛ لأن إدارة بوتين على ثقة أن الأمريكيين يحملون نيّات شريرة مستمرة لفضحهم.

وزير الثقافة الروسي قال بديبلوماسية: إن العمل لم يقدم الحقيقة كاملة، الحزب الماركسي قال كلاماً لم نسمعه من الستينيات عن التلاعب الإيديولوجي لشيطنة الاتحاد السوفييتي، المحلل السياسي أناتولي فازيرمين أعلن بثقة: "ما دامت أمريكا صنعته، فهو خاطئ!"، أما صحيفة البرافدا فقالت: إن الموضوع كله كاريكاتيري لا يستحق النقد!

المشاهد الروسي أحب صور البطولة والتضحيات في المسلسل. قامت بدور ليودميلا إجناتنكو الممثلة جيسي باكلي، أولانا خوميوك (إميلي واتسون)، أناتولي دياتلوف (بول ريتر)، أوكسانا (لورا إلفينستون). الأحداث جذّابة ومخيفة فعلاً؛ لأنها غير منقطعة عن الذي يثار عالمياً عن حرب ثالثة، والاحتباس الحراري وعلامات القيامة. المؤلفة الموسيقية هيلدور جونادوتير انتقلت إلى أطلال مصنع طاقة محطم في ليتوانيا، لاستلهام وتسجيل الموسيقى التصويرية للمسلسل، بعد تفريغ ساعات من العزف المنفرد في الجو الرمادي المشؤوم.

الحقائق الواردة في المسلسل كلها صحيحة، اعتمد المؤلف كريج مازن على شهادات موثقة للناجين من الحادث، وإمعاناً في الدقة طلب أن يكون الحوار كله بالروسية؛ لكنه غير فكرته بعد أول مؤتمر صحفي كشف له أن هذا سوف يشتت أداء الممثلين، وكانت كل حلقة تختتم بتسجيل وثائقي كاشف، فالأرقام الحقيقية لعدد ضحايا تشيرنوبل غير معلومة حتى الآن؛ لأن الكريملين في 1988 منع الأطباء من إعلان أن الوفيات حدثت بسبب تسرب إشعاعي!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها