من قصص الرواية إلى أحداث السينما؟!

سنة أولى حب "نموذجاً"

عبد الهادي شعلان

 


 

مـا لم يحدث في الفيلم

في مفتتح الرواية ظهرت روح فكاهية واضحة، ومداعبات تكشف خِفَّة دم الشباب وعدم استجابتهم للعلم والتعليم، كشفتْ عن جدلية بين القديم والجديد، فالمدرس غيور على اللغة العربية والتلاميذ في حالة تشبه الاستهتار الواضح، وحدثت بعض المداعبات الظريفة. هذا المدخل هو بداية التعرُّف على بطل الرواية محمد عبد الكريم، والذي تخبرنا الرواية بأنه متميز في كتابة موضوعات التعبير، الرواية تؤكد براعته في اللغة والكتابة التي سيرتكز عليها عمله كصحفي فيما بعد، فقد كتب موضوع تعبير عن المعرض الزراعي الصناعي دون أن يذهب للمعرض، لقد التقط مشاهدات زملائه، وصاغ منها موضوع التعبير "إن بعض زملائه الذين يعرفون إجادته الكتابة لجأوا إليه ليكتب خطاباتهم الغرامية" [ص: 9]، "وهكذا أصبح محمد عبد الكريم هو الكاتب العمومي للهوى والغرام في المدرسة السعدية" [ص: 12].

الفيلم أغفل هذه المقدمة في الفصل الدراسي، واعتمد على مشهد وحيد ليدلِّل على قدرته الكتابية، والتي ستكون ركيزة لما سيقوم به فيما بعد، الرواية في هذه المنطقة كانت أَوْقَع، فقد أفاض مصطفى أمين في علاقة محمد عبد الكريم بمن يكتب لهن الخطابات، في حين أن هذه أيضاً تكشف دواخله النفسية التي أغفلها الفيلم إغفالاً كاملاً "إنه يحسّ أنه أسعد زملائه العشرة جميعاً، كل واحد منهم يحب امرأة واحدة،و هو وحده يحب عشرة نساء معاً" [ص: 23].
فهذه النقطة تكشف التكوين الخيالي والنفسي لمحمد عبد الكريم، الذي يتذوَّق الشفاه على الورق "إن البستاني لا يملك حديقة الورود التي يزرعها، ولكنه يحب كل وردة فيها أكثر من مالك الحديقة كلها" [ص: 35].

أيضاً في الرواية نجد أن محمد عبد الكريم عمل مدرساً للغة العربية لبنت كمال باشا وزير الأوقاف السابق، عن طريق استدعائه لمكتب الناظر، كان هذا أيضاً أَوْقَع مما حدث في الفيلم، والذي لجأ لأن رشحه للعمل زميله إبراهيم.

في الرواية حدثت نقطة فارقة لم تحدث في الفيلم، فقد طلبتْ نجوى من محمد عبد الكريم أن يكتب لها خطابات لإبراهيم كي يخبره بمشاعرها، خطابات حب ملتهبة، تعبر عن حبها كي تجعل إبراهيم يشتعل من الحب، ولم تكن تعلم أن محمد يكتب خطابات إبراهيم لها، كيف سيتمكن إذن أن يكتب خطابات إليها ثم يرد على نفسه؟! هل سيكون كمن يكلم نفسه ويعشق نفسه؟! "خرج محمد ليكتب لنفسه خطاباً غرامياً" [ص: 84]. هذه نقطة أهملها الفيلم كان يمكن أن تمثل مساحة من التعبير عن دواخله الشخصية، التي تعاني من الوقوع كعاشق بين عاشقين، هو من يكتب خطابات عشق بحرارة لها، ويرد على نفسه "أتكون جريمته أنه أحب من غير طبقته؟ هل الحب كالتشريفات الملكية فيه أسبقية وفيه برتوكول، وفيه عين لا تعلو عن الحاجب كما يقول أبوه" [ص: 88].

قرأنا في الرواية أن زبيدة دخلتْ مستشفى الأمراض العقلية، وظهر موقف زوجها عوني في غاية السلبية، فقد كان يخاف على سمعته، وهذا يكشف حقيقة مشاعره نحوها، هذه الحادثة لم يتم التلميح إليها في الفيلم على الرغم من أهميتها في مسار شخصية زبيدة.

في الفيلم بدا محمد عبد الكريم نافراً من نجوى، ولم نر أي علامة حب أو عشق في ملامح تمثيل دوره، هذا جعل شخصية محمد عبد الكريم في الفيلم أحادية بعيدة عن المشاعر الإنسانية الطبيعية.

الاختلافات بين الرواية والفيلم

نجد أن محمد عبد الكريم في الرواية طَرَحَ علاقته بنجوى كأنه خبير نساء حتى إنه حكى لها كل قصص زملائه التي كان يكتبها وكأنه صاحبها، كان هذا أوقع من الخجل الواضح في شخصيته التي أظهرها الفيلم "وتركها محمد وهي مبهورة بما تسمع، وانصرف وهي تُلِح عليه أن لا ينسى أن يحضر في نفس الموعد ليبدأ دروسه مع أخيها فؤاد" [ص: 55]. بدا في الفيلم ساذجاً، في حين أنه في الرواية كان يريد أن يفخر بشبابه وعلاقته، وكان في الفيلم واضحاً صريحاً، وفي الرواية "خرج محمد مذهولاً بما فعل! لم يعرف ما الذي جعله يكذب كل تلك الأكاذيب؟ شعر بتأنيب الضمير كأنه أشبه بالمحتال الذي يدعي صفة ليست له" [ص: 56]. في حين أن الفيلم اختار أن يصنع من محمد عبد الكريم شخصية تسير على مبدأ لا يتغير، في هذه الجزئية كانت الرواية أقرب للروح البشرية لهذا الشاب محمد عبد الكريم؛ حتى إن صورة نجوى بدأت تطارده في الرواية وهو يكتب بضعة أسطر في خطاب لزميله، وهذا طبيعي "اكتشف أنه يكتب لنجوى لا للطالبات في مدرسة الراهبات، كان يجد صورة نجوى منطبعة على الورقة البيضاء" [ص: 59]. هذا لم يحدث في الفيلم إلى جانب أنه عنصر أساسي في تأسيس الشخصية، عنصر نفسي مهم، فهو في الرواية مشغول بها "أيكون قد أصبح يغار من إبراهيم على نجوى"؟ [ص: 60]، فالرواية تنتصر لمشاعر الشاب "وقرر أن ينقطع عن الذهاب إليها، وفي نفس الموعد في اليوم التالي كان يطرق باب بيتها من جديد" [ص: 75].

جعل صُنَّاع الفيلم شخصية محمد عبد الكريم لصالح القيم والأخلاق بعيداً عن مشاعره كشاب، فلم يظهر عمق الشخصية الإنسانية للشاب في الفيلم، أما في الرواية فقد كانت شخصيته أقرب للحياة "إنه لا يحتاج إلى سجادة صلاة، إنه يحتاج لنجوى الأخرى، المليئة بالإثارة والفتنة والأنوثة والإغراء" [ص: 77]. في الموقف الذي أعطت نجوى البدلة لمحمد، ظهر في الفيلم الأمر عادياً، أما في الرواية فقد بدت نفسيته في اضطراب.

أيضاً هذه الجرأة التي حدثت منه في الرواية حين طلب منها أن تخلع ملابسها فخلعتها، ثم طلب منها أن ترتديها بسهولة، هذا لم يلمح إليه الفيلم، فهي أيضاً نقطة محورية في العلاقة بين محمد وبين نجوى، وهذا الموقف في الرواية بدا موقفاً مفتعلاً، يكاد يشرخ جدار العلاقة في الرواية ويهرب بها من الواقعية، فكيف يطلب منها أن تخلع ملابسها في بيتها ثم ترتديها.

أيضاً في الفيلم عرضت نجوى عليه السفر للخارج فرفض، أما في الرواية فكان موقفه مغايراً تماماً فقد "اغتبط محمد لأنه سيسافر إلى سوريا ولبنان وهو الذي لم ير بعد مدينة الإسكندرية" [ص: 109]. هناك تغيير واضح في الشخصية بين الفيلم والرواية، لم يلتزم صُنَّاع الفيلم بالخط النفسي للبطل الذي اتخذته الرواية؛ وإنما تم اختيار ما هو متناسب مع الأخلاق الذي يريد الفيلم أن يتم التوجُّه إليها. نحن نتعامل في الفيلم والرواية مع محمد عبد الكريم كشخصيتين مختلفتين نفسياً، وهذا حدث من جراء انتقاء مواقف معينة لتمثيلها في الفيلم، وإغفال مواقف أخرى. على الرغم من اتفاق الفيلم والرواية في الأحداث التي جرت لمحاولة قتل عوني باشا على يد محمد عبد الكريم، إلا أن سرد الرواية أقنعنا أكثر، فقد أعطانا المبرر النفسي الكافي لتحوُّل محمد عبد الكريم لحالة قتل، فمساحة الرواية وكثرة أحداثها كانت أوفى في شرح معطيات ومبررات الأحداث عموماً، أكثر من الفيلم الذي اعتمد على المشاهد المتسارعة المتلاحقة لإدراك أكبر مساحة من الرواية، فالراوية لا تجعلك تتساءل عن أسباب الفعل الذي تتساءل عنه وأنت تشاهد الفيلم.

عندما أطلق محمد عبد الكريم الرصاص على عوني، وجد امرأة منتقبة في الطريق، في الرواية هو من طَلَبَ منها أن تُخَبِّئ المسدس معها في حقيبة يدها وأن تقابله في جبلاية القرود، أما الفيلم فقد نحا نحواً آخر حين جعل المنتقبة هي من تطلب أخذ المسدس وتخبئه وتطلب اللقاء في جبلاية القرود، الرواية كانت أقرب لقبول هذا الفعل، فنحن كنا نتساءل أثناء المشاهدة لماذا فعلت المنتقبة ذلك؟

أيضاً في الرواية كان سبب لقاء محمد عبد الكريم بالدكتور ماهر أنه ذهب بالمكوى بنفسه كصبي مكوجي لبيت الدكتور ماهر وتم بينهما اللقاء، أما في الفيلم فقد وجد محمد محفظة الدكتور ماهر وذهب بها ليعيدها له، وكانت الرواية أوقع من الفيلم.

نجد في الرواية [ص: 500] عوني يشرح لزبيدة المذكرة المذكور بها الشكوى المقدمة من معالي كمال باشا وزير الأوقاف السابق والد نجوى، بأن محمد عبد الكريم حاول أن يغتصب كريمته بالقوة، هنا سقطتْ زبيدة وأُغْمَى عليها، في الفيلم سقطتْ حين أخبرتها نجوى نفسها عن وجود وَحْمَة على فخذ محمد، وأنها بالفعل حامل منه.

في الرواية أثناء الكلام عن عوني "لم يلبث أن سمع الأقدام تتحرَّك من جديد وتتجه إلى باب غرفة المكتب، وسمع زبيدة تقول لعوني: ألا تريد أن تدخل الحَمَّام"؟ [ص: 780]، فأخبرها أنه لا وقت لديه للحّمَّام، في حين أن نفس الفعل حدث في الفيلم ودخل عوني الحمام، ولم ير محمد عبد الكريم الذي كان داخل الحمام نفسه، وهذا غريب في الفيلم على شخصية عوني الحذرة.

كان والد محمد عبد الكريم وهو الأسطى حنفي في الرواية يقول معظم جُمَل حواره كأمثال شعبية، حتى صارت سمة في شخصيته، لقد كرَّر أمثالاً شعبية كثيرة من صفحة 968 إلى صفحة 971، ولم نلحظ هذه الشخصية في الفيلم بهذا التكوين، كان تكوينه مختلفاً.

أيضاً لم تظهر في الفيلم دلالات حالة الفقر الشديد لأسرة محمد عبد الكريم، والتي ظهرت في الرواية بعنف لدرجة تجعلك تشعر أن الفقر يمشي على الورق.. أيضاً في الرواية كان عوني يعلم أن زبيدة تمكث كثيراً في البدروم، تجلس لفترات طويلة، وفي الفيلم لم يكن يعلم.

الصحفي بين الرواية والفيلم

نلاحظ في الرواية أن مصطفى أمين استخدم بعض الأشياء ككونه صحفياً بالأساس، فقد جعل بطل الرواية يتجه للعمل بالجرائد والكتابة للصحافة، ومهد لذلك منذ البداية بأسلوب البطل المميز في اللغة التي كان يكتب بها الخطابات، وبالتالي فوجود صحفي في الرواية سمح لمصطفى أمين أن يلج دهاليز الصحافة عن علم وعن دراية، وسَرَدَ في الرواية حكايات أهل الفن، وصَنَعَ عن طريق محمد عبد الكريم لقاءات وحوارات مهمة مع عزيزة أمين صاحبة أول فيلم مصري في تاريخ مصري، أيضاً كانت هذه فرصة لأن يلتقي مع الشاعر الشهير أحمد شوقي في دار الجهاد، [ص: 532]، أيضاً كان هناك اتصالاً بأم كلثوم وحوارات معها [ص: 533] في حديث طويل، ومن اللافت أن مصطفى أمين يذكر عَرَضاً "إن مستر تشرشل أحد زعماء حزب المحافظين في إنجلترا يهاجم الآن مستر بولدوين رئيس حزب المحافظين ويعارض قرارات الحزب، ومع ذلك لم يفكر الزعيم في أن يفصله من حزبه" [ص: 958]. ما فعله مصطفى أمين هو دخول مبكر لدمج أشياء واقعية حقيقية في الرواية، وجعل الرواية مساحة لتقبُّل أشياء تحدث في الواقع، كخبر أو لقاء صحفي.

المفاجآت في الرواية والفيلم

من المواقف التي حدثت في الفيلم والرواية بفعل المفاجأة البحتة، والتي غالباً لا نجد لها تفسيراً سوى الغرض من الحدث، تشعر أن هذا الحدث وقع من أجل أن تستمر الأحداث الدرامية، فقط دون تسلسل درامي طبيعي مُقْنِع، كلقاء زبيدة بمحمد عبد الكريم في الطريق مصادفة عندما أطلق محمد النار على عوني، فإذا لم يحدث هذا الحدث كان مسار الرواية والفيلم سيختلف تماماً، الصدفة البحتة هي من أظهر شخصية زبيدة التي تحوَّلت لبطلة في الفيلم والرواية.

أيضاً لو لم تكن زبيدة نفسها زوجة عوني والتقى محمد بامرأة أخرى في الطريق كان مسار الأحداث سيختلف، فمن أين كانت الرواية ستستمر في كشف ألاعيب عوني القذرة السياسية؟ لقد تم وضعها في طريق محمد لتسير الرواية وفق خطة موضوعة لبناء الرواية.

أيضاً عمل محمد عبد الكريم كصبي مكوجي عن تعمد درامي؛ فإذا لم يقم بهذا العمل لم يكن ليلتقي مع دكتور ماهر، لقد كان هذا اللقاء مرتَّباً درامياً؛ أن يلتقي محمد عبد الكريم بالدكتور ماهر لتسير الرواية في اتجاه الصحافة، وليقابل زبيدة بالصدفة في بيت عوني، وهنا تكون الحبكة الدرامية المصنوعة قد أدت الغرض منها، ومن وجود زبيدة في طريقه عند ما أطلق النار على عوني، وربما نتساءل لماذا زبيدة بالتحديد كانت تسير في الوقت الذي كان زوجها يركب السيارة، لم نعرف أين كانت!

فالأَوْفَى أن نقرأ الرواية من منطقة الكتابة، وأن نشاهد الفيلم من منطقة سينمائية، وأن نأخذ كلاً منهما داخل وسيطه بمعطياته الخاصة في عزلة عن الآخر، وهذا سيقودنا لتفسير عمل واحد من منطقتين للطرح تساعدنا في توسيع مساحة الرؤية لرواية سنة أولى حب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها