الأديب الياباني يوكيو ميشيما..

حكاية روائي سيئ الحظ

ترجمة: عبدالله بن محمد

​توماس غراهام By Thomas Graham


أطلّت الشخصية الصغيرة النقيّة من على الشرفة.. كما لو كانت خشبة مسرح، تناشد الجيش المتأهّب في الأسفل.. ذلكم هو يوكيو ميشيما Yukio Mishima، واسمه الحقيقي كيميتاكي هيراوكا. كان الروائي الأشهر في اليابان عندما اقتحم في الخامس والعشرين من نوفمبر 1970 قاعدة عسكرية في طوكيو، وخطف القائد، وجمع الحامية في محاولة لتدبير انقلاب. كان مستاء من دولته ودستورها المدعومين من الولايات المتحدة، فوقف يوبّخ الجنود على استسلامهم ويحثّهم على إعادة الإمبراطور المخلوع إلى مكانه قبل الحرب كإله حيّ وزعيم وطني. كان الجمهور في البداية هادئًا متأدّباً، أو ربّما صامتاً في ذهول، لكن سرعان ما تعالت عبارات السخرية. حينها تراجع ميشيما إلى الداخل وقال: "لا أعتقد أنهم سمعوني". ثم جثا على ركبتيه وقتل نفسه بسيبوكو، طقوس انتحار الساموراي.

صدمت وفاة ميشيما الجمهور الياباني. لقد كان من أبرز مشاهير الأدب، رجوليًا واستفزازيًا ولكنه أيضًا شخصية سخيفة إلى حد ما، ربما يشبه نورمان ميلر في الولايات المتحدة، أو ميشيل ويلبيك في فرنسا اليوم. لكن تهديده تحوّل فجأة إلى حقيقة مؤلمة.

كتب الفيلسوف الياباني هيدي إيشيجورو في مقال عام 1975 في New York Review: "اعتقد البعض أنه أصيب بالجنون، واعتبرها البعض الآخر الحلقة الأخيرة من سلسلة أعماله الاستعراضية، وتعبيراً عن الرغبة في الصدمة التي اشتهر بها". وأضاف: "اعتبر عدد قليل من المنتمين لليمين السياسي وفاته لفتة وطنية للاحتجاج على اليابان الحالية، ورأى البعض الآخر أنها كانت مهزلة يائسة ومخيفة اخترعها رجل موهوب عاش طفولة فظيعة ولم يستطع تحمل العيش في منتصف العمر وفي مستوى متوسط". لكن الروائي ميشيما قال لزوجته ذات مرة: "حتى لو لم يفهمني أحد حينها، فلا بأس؛ لأن اليابان ستفهمني بعد 50 أو 100 عام".

في عام 1949 برز ميشيما في المشهد الأدبي الياباني بعمل "اعترافات قناع"، ضرب من السيرة الذاتية المنسوجة برقة وعناية كالرواية، أدخله عالم الشهرة في أوائل العشرينيات من عمره. يروي الكتاب قصة صبي رقيق وحسّاس كانت جدته تحتجزه في بيتها. لقد كانت مريضة وكان مُجبراً على رعايتها. وبدلاً من اللعب في الخارج مع الأولاد الآخرين، فقد ظل معها لسنوات في ظلمة غرفة نومها ذات الرائحة الحلوة.

يتطوّر عقل الصبي في تلك الغرفة.. لا يتم الفصل بين الخيال والواقع تماماً؛ الخيال، التوأم الأقوى، يصبح مهيمنًا. بحلول الوقت الذي تموت فيه الجدة ويخرج الصبي للعالم، يكون قد طور تركيزًا على لعب الأدوار، وفهم الحياة كمسرح. لا يستطيع مقاومة طبقات الأوهام للحياة من حوله. يتم إسناد الأدوار للرجال والأولاد، وخاصة الأقوياء منهم، في أحلام اليقظة المفعمة بالحيوية والعنف غالبًا. في غضون ذلك، يصبح مهووساً بانحرافه وكيف يظهر بشكل طبيعي. يتعلّم كيف يتقمّص دوره بإتقان: "لقد بدأت الحفلة التنكرية المتردّدة".

الجمال والدمار

تستمر "اعترافات القناع" حتى نهاية مراهقة الصبي، وتستعرض بالتفصيل التطوّر المتشابك لحياته الداخلية والخارجية وميوله غير السّوي. من نواح كثيرة، إنه المفتاح لفهم حياة ميشيما اللاحقة وأعماله. إنه يكشف عن جذور الإحساس الجمالي، المرتبط كثيراً بحياته الجنسية، التي تبيّن أنها هوس ميشيما ومحرّكه الأساسي. يكتب الراوي أنه: "قبِلَ حسيًا بعقيدة الموت التي كانت شائعة أثناء الحرب"، عندما بدأت إجبارية التجنيد والتضحية بالنفس، لذلك كان ميشيما يركّز دائماً على فكرة أن الجمال يصبح أجمل عندما يكون عابراً - وقبل كل شيء على أعتاب الدمار. تختلط هذه العقيدة مع الإعجاب بالشكل الذكوري، وهو الشكل الذي يفتقر إليه الراوي الضعيف البنية، لإنتاج خيالات المحاربين الشجعان ونهايتهم الدموية. كان هذا العالم الخاص من "الليل والدم والموت" مليئاً بـ"أكثر الأعمال الوحشية تعقيداً وأروع الجرائم"، التي يتم سردها في هدوء.

ولكن بعد ذلك، كانت "اعترافات القناع" توحي أيضاً بالتفاعل اللبق بين الأداء والواقع الذي ميّز كل ما فعله وكتبه ميشيما. لقد أعطى انطباعاً بأن المؤلف يخوض صراعاً مظلماً مع نفسه، بينما يشير أيضاً إلى أنه قد يكون مجرد تلاعب بارع في وسائل الإعلام والدعاية. كانت بوصلة ميشيما في كلا الاتجاهين، أن يفضح المجتمع ويحتفظ بشيء من الإدانة.

لقد نجحت تلك الصيغة؛ وبفضلها أصبح ميشيما "الشقي الرهيب" للأدب الياباني بعد الحرب وأكسبته جمهوراً واسعاً من القرّاء في الداخل. كان -على الرغم من انحطاطه- كاتباً منضبطًا وغزير الإنتاج، كان يخرج رزمًا من الروايات الشعبية جنبًا إلى جنب مع الأدب العالي وعشرات المسرحيات. لقد صاغ بنفسه صورته في مجتمع طوكيو الراقي بنفس التركيز، حيث روّج لصورة مدهشة. وجهه، بعظامه الخشنة وبالعينين الناعمتين، مرسوم بشكل جيد.. كان صديقًا للمكاتب الأجنبية ومراسليها، وكان يحتفي بذاته ويقوم بما في وسعه لتوسيع نطاق شهرته عبر المحيط الهادئ، وحقّق بعض النجاحات. كتب جون ناثان، المترجم وكاتب سيرة ميشيما لاحقًا: "إذا كان أكيو موريتا هو الياباني الأكثر شهرة في الخارج، فقد حلّ ميشيما في المرتبة الثانية".

اتّخذ ميشيما شخصه كموضوع لأعماله، ولكن في الأسلوب، على الأقل، كان يُعتبر الأقرب للفائز بجائزة نوبل ياسوناري كواباتا، الذي يرى أن وظيفة الأدب فنية بالأساس وليست دعائية. يبدو أن الكثير من كتابات ميشيما تنزع نحو هذا الاعتقاد تمامًا، بأسلوبها الرسمي والتقليدي تقريبًا الذي يركّز على الوصف الحسي المكثّف قبل كل شيء. تحوّل هذا التصوير الانتقائي إلى أجساد وملابس ورائحة. "إن التعانق الصادم للنايلون الخالص والأريكة الدمشقية قد أسبغ على الغرفة إحساسًا بالإثارة... وعَقِبَ الهسهسة الحادة لفك الوشاح، مثل تحذير الثعبان.. صوت خافت بينما كان الكيمونو ينزلق على الأرض". (من رواية البحار الذي خسر نعمة البحر، 1963).

ولكن بعد ذلك تغيّر شيء ما.. في الستينيات يمكن القول إن المرحلة السياسية من حياة ميشيما قد بدأت بالفعل، فبعد أن صوّر نفسه كذات جمالية خالصة، ورومانسي منحط، في السنوات العشر الأخيرة من حياته، عاش ميشيما تحوّلاً كبيراً. في ذلك الوقت، واظب على تدريبات كمال الأجسام، حيث كان يمارس الرياضة في صالة الألعاب الرياضية لمدة ساعتين في اليوم لتقوية عضلات جسده الضعيف بطول 5 أقدام و3 بوصات. بدأ أيضاً في التعرّض للشمس، وأنشأ مجموعة من طلاب الجامعات من الجناح اليميني وقادهم في تدريبات روتينية. كان الغرض المعلن للجمعية مساعدة الجيش في حالة قيام ثورة شيوعية.

وراء هذا التحوّل سبب منطقي، برز على الأقل في "الشمس والصلب: الفن والعمل والموت الطقسي"، وهو عمل غامض نُشر في عام 1968، قبل عامين من وفاته. وبالنظر إلى الوراء، أدرك الروائي أن جسده قد تآكل وضعف بفعل فائض الخيال والكلمات، ونقص في الموارد والحركة. كتب ميشيما: "في الشخص العادي، أتخيّل، أن الجسد يسبق اللغة. في حالتي، حلّت الكلمات أولاً؛ ثم - في وقت متأخر، ومع التردّد الشديد، ولُبس المفاهيم - كان الجسد. بالفعل، ودون أدنى شكّ، لقد هلك الروائي بفعل الكلمات". لذلك سعى لإعادة التوازن إلى نفسه وإحياء مفهوم الساموراي القديم، "انسجام القلم والسيف"، وكان يتطلّع لأن يصبح "رجل القول والفعل".

دفعة أخيرة من الإبداع

عندما بلغ ميشيما الأربعينيات من عمره كان مدركاً تماماً لسنّه. كتب في مقال عن الوفاة المبكرة للممثل جيمس دين: "يجب أن يموت الطيبون مبكّراً، ويعيش الآخرون لأطول فترة ممكنة". أدرك ميشيما أن رحلته تمر بسرعة وبدأ التخطيط للفصل الأخير من حياته.

كل واحد منّا، في مرحلة ما، سوف يرى الحياة كمسرحية. لكن قلة يعيشون ويصمّمون حياتهم كمسرح، وهناك عدد أقل ما يزال يستخدم سيبوكو لوضع حد لحياتهم. لكن بالنسبة لميشيما، كان ذلك تتويجاً لخيال مدى الحياة. كانت العناصر موجودة منذ البداية، في "اعترافات الأقنعة": الجنود والموت والدم. التحوّل الذاتي إلى محارب جعله رهينة لرغبته: شيء جميل، شيء يستحق التدمير. وقد تطوّر التركيز على سيبوكو على مرأى من الجميع. حتى إن ميشيما كتب فيلماً قصيراً بعنوان: (الوطنية) وتقمّص دور البطولة فيه، فأتقن الدور بكامل تفاصيله. ربما كان الفصل الأخير لميشيما احتجاجاً سياسياً أيضاً، لكنه بالتأكيد كان الموت كَفَنٍّ.

في صباح يومه الأخير، أرسل ميشيما كتابه الأخير من أربعة أجزاء، "بحر الخصوبة"، إلى ناشره. كانت هذه الأجزاء الأربعة، المكتوبة في اندفاع محموم من الإبداع، تجربة جديدة. ابتداءً من عام 1912 بعد الحرب الروسية اليابانية بفترة وجيزة، وانتهاءً في عام 1975، شهدت هذه الفترة تغييرات استثنائية: من صعود الإمبراطورية اليابانية، مروراً بإبادة الحرب العالمية الثانية، وحتى ظهور اليابان الرأسمالي والاستهلاكي. وقد لخّصتها شخصية واحدة، هوندا -ربما الممثّل البديل لميشيما– والتجسيد المتكرّر لصديق طفولته، روح دائمة محاطة بالتغيير والانحطاط.

بالمقارنة مع أعمال ميشيما المبكرة، يحتوي "بحر الخصوبة" على الكثير من الفلسفة المكثّفة. بعد العمل الثاني، تصبح الأعمال على عجلة.. وصغيرة الحجم بشكل متزايد. كتب ميشيما معظم أجزاء عمله النهائي، "اضمحلال الملاك"، خلال عطلة عائلية على شاطئ البحر في أغسطس 1970. في رسالة مؤرخة 18 نوفمبر 1970 إلى معلمه، فوميو كيوميزو، كتب ميشيما، "بالنسبة لي، الانتهاء من هذا [الكتاب] هو لا شيء أكثر من نهاية العالم". الأسطر الأخيرة من الرواية "اضمحلال الملاك" معبّرة بهدوء تام:
"كانت حديقة زاهية وهادئة، خالية من كل ميزة مذهلة. وكالمسبحة التي فركتها الأصابع، يرتفع صراخ السيكادا. لم يكن هناك صوت آخر. كانت الحديقة فارغة. ظن هوندا أنه جاء إلى مكان ليس فيه ذكريات، لا شيء. وكانت شمس الصيف في الظهيرة تتدفق متوهجة فوق الحديقة الساكنة".


المصدر
 https://www.bbc.com/culture/article/20201124-yukio-mishima-the-strange-tale-of-japans-infamous-novelist
By Thomas Graham

(Image credit: Getty Images)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها