الثقافة الإسلامية ورعايتها لغير المسلمين

د. جمال عبد اللطيف محمود

اعتبرت الثقافة الإسلامية الآية الكريمة {لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] منطلقاً من المنطلقات الهامة في التعامل مع غير المسلمين داخل المجتمعات المسلمة، وقد بلغت روعة السنة النبوية -بوصفها الجانب الشارح والمفسر للثقافة الإسلامية بعد القرآن الكريم- مداها بأنها منحت حقوق الإنسان للإنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو جنسه، وسعت بخطوات حثيثة إلى أن يحصل هذا الإنسان على حقوقه التي وضعتها له، كما أنها راعت الاتجاهات الدينية له، وذلك حتى لا يشعر أنه مضطر لترك دينه.
 

ويعد التعامل العادل هو المبدأ الذي اعتمدته الثقافة الإسلامية في تعاملها مع سائر أفراد البشرية، بل مع جميع المخلوقات والكائنات على كوكب الأرض؛ فهذا الأصل -التعامل العادل- هو أساس العلاقات التي تقوم بين المسلمين وغيرهم، سواء كانت هذه العلاقة داخل الدولة الإسلامية أو خارجها.

لذلك؛ حرصت السنة النبوية على وضع مجموعة من الحقوق لغير المسلم داخل الدولة المسلمة، والمقصود بغير المسلم هم أهل الذمة من أتباع الديانات السماوية الأخرى وهم اليهود والنصارى، والحقوق التي لهم تسير على غيرهم من اتباع الديانات الأخرى. وقد خصت السنة النبوية هذين الدينين بذلك؛ لأنها كانت أكثر احتكاكاً بهما عن غيرهما من عقائد وضعية، وطالبت السنة النبوية المسلمين بضرورة تحقيق تلك الحقوق؛ لأن تحقيق حقوق غير المسلم داخل الدولة المسلمة هو في حد ذاته دعوة للدين الإسلامي، ويمكن توضيح تلك الحقوق الخاصة لغير المسلم في السنة النبوية كما يلي:

أولاً:  حق غير المسلم في المعاملة الحسنة

لم تنظر السنة النبوية إلى غير المسلمين خاصة من أهل الكتاب على أنهم مواطنون أو بشر من الدرجة الثانية، بل إنها كانت شديدة الحرص على المعاملة بعناية فائقة على أنهم أصحاب كتب سماوية سابقة، وذلك لأن التربية النبوية كانت حريصة على غرس احترام الديانات السماوية السابقة، بل والإيمان بها كجزء لا يتجزأ من اكتمال إيمان الفرد المسلم.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ"1، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى موافقة أهل الكتاب في الأمور العامة التي لم يتنزل فيها شيء من الوحي، حتى لو كان هذا الأمر من أمور العبادة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ. فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم- «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ». فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ2، فشعور النبي بأن الأديان السماوية مكملة في رسائلها لبعضها البعض، حيث دعاه ذلك الشعور إلى أن يأمر بصوم ذلك اليوم، وذلك ليتذكروا حال المؤمنين السابقين لهم والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وما تعرضوا له من تضييق وظلم، كما أن التربية النبوية أمرت بالرفق واللين عند التعامل مع أهل الكتاب.

عَنْ عَائِشَةَ قَالَت اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأَمْرِ كُلِّهِ"، قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ: "قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ"3، فعلى الرغم من سماع النبي صلى الله عليه وسلم ما بدأه اليهود من الكلام بالسام، وهو الموت والهلاك إلا أنه أنكر على السيدة عائشة أسلوبها الشديد في الرد عليهم، حيث إن الرفق في القول هو الشعار الذي كان يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على زيارة المرضى منهم، عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهْوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ"4. إن الغرض النبوي من الزيارة لم يكن في الأساس دعوة الغلام للإسلام، وإن كان ذلك هدفاً أسمى من أهداف السنة النبوية والتي تسعى إلى تحقيقها، إلا أن الهدف الأساسي هو زيارته كمريض، فلو بقي الغلام المريض على ديانته ما أنكر عليه النبي ذلك، والدليل على ذلك أن الفتى ظل على اليهودية وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن حسن المعاملة أيضاً في الثقافة الإسلامية لغير المسلمين أن دعت السنة النبوية أتباعها للوقوف على الحياد فيما يرويه أهل الكتاب من قصص وأخبار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الآيَةَ"5، لم ينكر الرسول على أهل الكتاب أخبارهم التي في توراتهم، كما أنه في نفس الوقت لم يدع المسلمين إلى تصديقهم، وطالبهم بأن يعلموها ولكن يكونوا على الحياد منها فلا يصدقوها ولا يكذبوها، وذلك لأنها من معتقداتهم الدينية التي يقدسونها ومن ثم وجب احترامها، كما أنه في نفس الوقت فإن للمسلمين معتقداتهم الدينية التي يتمسكون بها ويصدقونها، فمن باب أولى بكل فريق أن يعكف على تصديق معتقداته الدينية.

إن هذه الرعاية هي التي دفعت سيدنا عمر بن الخطاب إلى أن يوصي بهم، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ"6. فركز سيدنا عمر في وصايته بأهل الذمة بأمور ثلاثة: أولها الوفاء بالوعود تجاههم وعدم نقضها؛ لأن حسن العهد من الإيمان وكما أوصى بأنه يمكن للمسلم أن يقاتل كجندي خلف أهل الذمة إذا كانوا في معركة وعلى العكس من ذلك؛ فإن المسلم لم يؤمر بأن يقاتل خلف أحد من المشركين، وكذلك أوصى سيدنا عمر بن الخطاب بألاّ يكلف الذمي فوق طاقته حتى لا يشعر بأنه مضطهد في وطنه، وكل هذه الوصايا هي الإنتاج لتربية نبوية صحيحة، قد مارست هذه الأمور بالفعل على أرض الواقع.

ثانياً:  حق غير المسلم في الحماية

لم تكتف الثقافة الإسلامية في رعايتها لغير المسلمين بالأقوال فقط بل انتقل إلى الأفعال أيضاً، داعية إلى حمايتهم داخل المجتمعات التي تحكمها، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِىَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا». أَوْ قَالَ «ذِمَّةً وَصِهْرًا»7.

والهدف من وراء هذه الوصية هي الدعوة إلى حماية غير المسلمين من الأخطار التي يمكن أن يتعرضوا لها.. وقد كان الذمي يدفع الجزية نظير ما تقدمه له الدولة المسلمة من حماية ورعاية، كما أن الجزية لم يكن لها مقدارٌ ثابتٌ من المال، بل كانت تختلف باختلاف الأحوال المادية للأفراد، كما أن التشريع الإسلامي أعفى من دفع الجزية الأطفال والنساء والرهبان والقساوسة، وكل من لا يستطيع العمل بسبب مرض أو عجز فكانت لا تأخذ إلا ممن يستطيع الكسب.

ثالثاً:  حق غير المسلم في الاحتكام إلى دينه

جعلت السنة النبوية احتكام غير المسلم إلى أحكام دينه مبدأً أصيلاً في تعاملاتها مع غير المسلم داخل المجتمع المسلم، فعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أُتِي بيهودي وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى جَاءَ يَهُودَ فَقَالَ "مَا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى". قَالُوا نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا. قَالَ "فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَؤوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِى يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَهْوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا8. فعلى الرغم من أن حد الزنا للمحصن في الإسلام واضح وهو الرجم لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف الحكم الذي يطبقه اليهود في تلك الجريمة، وخاصة أن طرفي القضية من اليهود؛ ولكي يتأكد النبي من صحة الحكم الذي نطقوا به طلب منهم إحضار التوراة ليتأكد من ذلك بنفسه. فلما وجد أن ما يوجد بها مخالفاً للقول، طبق الذي وجده مكتوباً في التوراة عندهم، وعلى ذلك يمكن القول بأنه يحق له الاحتكام إلى دينه في القضايا التي تخص طرفي النزاع كالزواج والطلاق، وغيرها من الأحوال المجتمعية التي تختص بفئتهم دون غيرهم.

أما إذا كان الأمر يتعدى الطائفة إلى تنازع طرف آخر مسلم أو من غير مذهبه الديني، وجب حينذاك الالتزام بالأحكام الصادرة من الإسلام، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"9.

إن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يرجع إلى اليهود ويطلب معرفة حكمهم في القاتل؛ لأن المجني عليه كانت جارية مسلمة ولأن الحكم للمسلمين، وشريعة الله تقضي بأن من قتل يُقتل حكم النبي على اليهودي بعد أن اعترف بجرمه أن يقتل بنفس الطريقة التي قتل بها الجارية.

يتضح مما سبق أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يحتاج إلى الأدلة والقرائن في إصداره للأحكام فلم يكتف باعتراف الفتاة، وإن يعد كافياً لكن الحرص من التربية النبوية على تحقيق العدالة الكاملة دون أدنى شك جعلته يتأكد من ذلك بسؤال اليهودي الذي اعترف دون إكراه بأنه هو القاتل الحقيقي، وكذلك الأمر في المعاملات بين المسلمين وغير المسلمين كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الأدلة ليحكم فيها، قَالَ الأَشْعَثُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ: لاَ، قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}10.

يتضح مما سبق أن السنة النبوية كانت حريصة على أن يحتكم أهل الكتاب إلى دينهم في أمورهم الخاصة، وإلى أحكام الشريعة الإسلامية إذا كان أحد طرفي القضية من غير طائفته الدينية، وذلك حرصاً على أن تتحقق العدالة لكلا الطرفين، وتحقيق العدالة الكاملة دون أن تشوبها شائبة.

رابعاً:  حق غير المسلمين في المحافظة على دمائهم وأموالهم

لقد حرصت السنة النبوية على توضيح هذا الحق بشكل صريح، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا11، فاعتبرت السنة أن قتل الذمي يعد من الكبائر التي يعاقب عليها المسلم بالحرمان من دخول الجنة في الآخرة، وبقتل القاتل في الدنيا؛ لأن شريعة الله هي القصاص أما حديث النبي صلى الله عليه عن أَبي جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ مَرَّةً مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"12، فالغرض من دفع الجزية هو توفير الحماية المالية والنفسية لهم؛ لأنهم أصبحوا من رعايا المسلمين الذين تجب حمايتهم من الأخطار التي تهدد المسلمين.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرص على حماية أبدانهم وعدم تعرضهم للقتل.. كذلك كان للذمي حق في رعاية أمواله ومصالحه المختلفة، عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"13، فتأتي رعاية أهل الذمة كجزء من الرعية الذي يجب على الحاكم المسلم رعايتها.

كما حمت السنة النبوية أهل الذمة من القتل؛ فإنها حمت "أبدانهم من الضرب والتعذيب فلا يجوز إلحاق أي ضرر جسدي بهم، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أنه مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا في الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ فَقَالَ مَا هَذَا قِيلَ يُعَذَّبُونَ في الْخَرَاجِ. فَقَالَ أَمَا إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ في الدُّنْيَا"14، فمطلق لفظ الناس يشمل المسلمين وغير المسلمين، وأن التعذيب من الأمور التي تنهى عنها السنة النبوية.

خامساً:  حق غير المسلم في العمل

سمحت الثقافة الإسلامية لغير المسلمين داخل مجتمعاتها المسلمة بالعمل، وممارسة أعمال التجارة في إطار احترام القوانين وقواعد البيع والشراء الإسلامية فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا15، فالسنة النبوية لم تنكر تواجد أهل الذمة داخل المجتمع الإسلامي، بل كانت حريصة على استخدام طاقات أهل الذمة للاستفادة منها لهم وللمجتمع المسلم، حيث وظفت التربية النبوية هذه الطاقات في المجال الذي تستطيع أن تنتج فيه، دون أن تبخسهم حقهم بأن جعلت لهم نصف ما ينتجون من هذه الأرض فلم تمنع السنة النبوية المسلمين من التعامل مع أهل الذمة بل إن النبي صلى الله عليهم وسلم كان يتعامل معهم بالبيع والشراء، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه- اشْتَرَى طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ"16. إن اختلاف الأديان لم تجده التربية النبوية سبيلاً إلى قطع العلاقات ومنعها، بل إن الاختلاف في كثير من الأحيان يؤدي إلى الإجادة والإبداع فعند التعامل مع أطراف مختلفة عقائدياً؛ فإن كل طرف من المتعاملين يسعى إلى الإخلاص في التعامل مع غيره لبيان النواحي الإيجابية لديه، ومن ثم يعود ذلك بالنفع على كلا الطرفين، كما أن السنة النبوية لم تمنع المسلمين من التعامل مع غير المسلمين ما دام ذلك في حدود الشريعة الإسلامية، ولا يتسبب في أي ضرر لأي طرف من الأطراف عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثِينَ وَمِئَة فَقَالَ النَّبِيُّ هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نَحْوُهُ فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً، أَوْ قَالَ - أَمْ هِبَةً قَالَ: لاَ بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً فَصُنِعَتْ"17. فجعلت السنة النبوية التعامل مع غير المسلم في البيع والشراء أمر عادي لا حرج فيه، بل إنه جزء أصيل من الحراك الاجتماعي والتفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم، فلو أن هناك مانعاً يمنع من التعامل مع غير المسلمين لمنع النبي نفسه من ذلك.

بل إن النبي كان يحكم فيما ينشأ عن اختلاف نزاعات أثناء العمل، عن الأَشْعَث بْنُ قَيْسٍ قال كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ"18، فالشاهد من ذلك الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلجأ إليه اليهود لفض منازعاتهم، كما أنه أيضاً لم يكن يمنع أحداً من المسلمين من مشاركة أهل الذمة أو المشركين في أي عمل من الأعمال الدنيوية، ما دام ذلك في نطاق الأعمال الحلال شرعاً.

لقد حرصت الثقافة الإسلامية على وضع قواعد للعمل مع غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي على الرغم من قلتهم آنذاك؛ فمن هنا كان لزاماً علينا نحن المسلمون أن نطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تقبل الآخر والعمل معه؛ لأنه أصبح جزءاً من نسيج المجتمع المسلم على الرغم من اختلاف العقائد؛ ولأن الثقافة الإسلامية سمحت له بممارسة كافة حقوقه، لكي يحيا حياةً كريمة داخل المجتمع، وكذلك لينتفع المجتمع المسلم من وجوده وألا يكون عطلا على مجتمعه.


الإحالات:  1. البخاري، صحيح البخاري، ج2، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، القاهرة، مكتبة الصفا، 2003م، ص: 186. ┊ 2. مسلم، صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، القاهرة، دار ابن حزم، 2008م، ص: 305. ┊ 3. مسلم، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، مرجع سابق، ص: 618. ┊ 4. البخاري، صحيح البخاري، ج3، كتاب المرضى، باب عيادة المشرك، مرجع سابق، ص: 68. ┊ 5. البخاري، صحيح البخاري،ج2، كتاب تفسير القرآن، باب قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، مرجع سابق، ص: 387. ┊ 6. البخاري، صحيح البخاري، ج3، كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل من وراء أهل الكتاب ولا يسترقون، مرجع سابق، ص: 71-72. ┊ 7. مسلم، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، مرجع سابق، ص: 718. ┊ 8. مسلم، صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الإسلام، مرجع سابق، ص: 481. ┊ 9. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص، والخصومة بين المسلم واليهود، مرجع سابق، ص: 526. ┊ 10. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، مرجع سابق، ص: 527. ┊ 11. البخاري، صحيح البخاري، ج3، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذمياً، بغير جرم، مرجع سابق، ص: 335. ┊ 12. البخاري، صحيح البخاري، ج3، كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر، مرجع سابق، ص: 335- 336. ┊ 13. البخاري، صحيح البخاري، ج2، كتاب النكاح، باب قوا أنفسكم وأهليكم ناراً، مرجع سابق، ص: 581. ┊ 14. مسلم، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق، مرجع سابق، ص: 736. ┊ 15. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة مع اليهود، المرجع السابق، ص: 508. ┊ 16. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب البيوع، باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، مرجع سابق، ص: 452. ┊ 17. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، مرجع سابق، ص: 575-576. ┊ 18. البخاري، صحيح البخاري، ج1، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، مرجع سابق، ص: 527.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها