لعلّ أشدّ ما يميز الكاتب البرتغالي الأشهر فرناندو بيسوا هو أن أعماله الأدبية المكتشفة بعد وفاته؛ قوامها شذرات ومقتطفات، وقصص ورسائل لا يربط بينها رابط. في سنة 2010 نشرت دار فيشر الألمانية كتابًا جديدًا يضمّ مجموعة كبيرة من الشذرات والفقرات النثرية التي كتبها بيسوا في السنوات من 1907 حتى سنة 1911، وتحديدًا بعد عودته من جنوب إفريقيا، حيث عاش في صحبته والدته وزوج أمه سنوات طويلة، ليعود ويحطّ الرحال في وطنه الأم البرتغال. في هذه الشذرات التي تُنشر للمرة الأولى، واستخرجها المترجم من أرشيف بيسوا المحفوظ في المكتبة الوطنية في البرتغال يتطرّق بيسوا إلى مسألة الجنون وعلاقته بالعبقرية. اللافت أن عنوان الكتاب الجانبي يحمل عنوان: "كتابات عن السيرة الذاتية الفكرية"، وكأن المحرر يشير ضمنًا إلى أن بيسوا الشاب في أثناء كتابة تلك الشذرات والفقرات لم يكن يخلو من العنصرين كليهما: العبقرية والجنون.
اخترتُ للقارئ الشذرات المُطولة التالية:
رحلة روحانية:
✧ يقطع المجنون رحلاتٍ وأسفارًا ليرى الكون على حقيقته ✧
يتمتع المجانين بعقلٍ صافٍ رائق. أما غير المجانين فعقولهم مبلبلة مخبولة.
لو نظرنا بعين التأمل الواعية إلى سرّ الكون، وتعقيدات الحياة، ومستقبل كل فرد منا (....)، وما إلى ذلك من المعضلات فسيؤدي بنا التفكير المنطقي حتمًا إلى الجنون. أما لو نظرنا إلى تلك الأمور بذهن مبلبل، فسنحافظ على سلامة عقولنا. فكل حجر ملقى على الأرض هو لغز قائم برأسه، يستوعبه سـرّ جسدنا استيعابًا غامضًا. ورؤية ذلك رؤية واضحة هو بالفعل أحد أعراض الجنون. جنون الاضطهاد؟ نعم! أليس صراع العالم كله من أجل البقاء حقيقة لا تقبل الجدال؟ ألسنا جميعًا يصارع بعضنا بعضًا، سواء أوعينا ذلك أم لم نكن من الواعين؟ الحقيقة أنّ جنون الاضطهاد هو التفسير الصحيح لشعور العداء الفطري الذي يتملّكني، وأنا أواجه كل الأشياء الغريبة عني.
أتسألون عن الحماسة النقيّة في طبيعتنا؟
نعم، إنّ هذه الحماسة هي الإلهام الأحمق الذي تبثّه في نفوسنا الحياة، فيحلّق في الدماغ تحليقًا لا وعيًا مثيرًا للبهجة مثله كمثل سرب طيور.
أتسألون جنون العظمة؟
نعم، إنه مرادف لشعورنا بالسموّ الإلهي لأننا موجودون في هذه الدنيا، فقط لأننا موجودون.
العبقرية والجنون:
✧ عن العبقرية ✧
كم دارسًا لعلم علم النفس يمتلك فكرة حقيقة عن طبيعة هذا العلم؟ أو ربما يحسن بي أن أسأل: كم إنسان كتب حول هذا العلم أو كَتبَ أطروحة فيه يمتلك تصورًا حقيقيًا لموضوع أطروحته؟ الحقيقة أنّنا لن نُدهش البتة لو علِمنا أنّ عددًا قليلًا فقط من الناس يمتلكون فكرة حقيقية عن طبيعة ما جرى من أحداث الماضي – وهو ما يجعلني أميل إلى تصوّر من يعي ذلك لَهُو علامة على الموهبة، أو ربما دليل على العبقرية.
قد يقف الفنان على مسافة معينة من البشر العاديين، أما العبقرية فهيهات أن تفعل ذلك، ولا ينبغي لها أن تحذو الحذو نفسه. فغاية الفنان النهائية هي خـلق الجميل، وتعزيز الخير لكي يواصل حضوره في هذا العالم، وإنشاء عالم متحضّر يقف أمام عالَم الشر. والشرّ على ثلاثة أنواع: الجهل وسوء الخُلق وإضمار الضغينة. فأما الجهل فيواجه الحقيقة، وأما الفن فيواجـه سوء الخُلُق، وأما الدين فيضع الخير مقابل الضغينة. ومع ذلك فكل الأشياء التي تنزع إلى مناصره الحق، والجمال والخير، فإنها تميل كذلك إلى التقدم والتطور.
العبقرية:
إن الإنسان العظيم المتفوق – أو الإنسان الأعلى Übermensch- هو من يتحلّى بالخصال التالية في أسمى أحوالها: التأمّل، والضمير ومواصلة العمل، وهذه الخصال هي صنو الحالات الثلاث لأعلى درجات الوعي، وهي حالات إنسانية حصرية تقريبًا. ومع ذلك يتحتم القول إنه مع افتراض وجود هذه الأشياء (...) فوجودها ذو طابع مغاير عما لدى بقية البشر؛ فالإنسان المتفوّق يفكر تفكيرًا أكثر دقة، ويشعر شعورًا أشدّ عمقًا، وينفذ إرادته على الفور (...). فالإنسان المتفوّق ذهنيًا ليس بارد الشعور ولا متصلّب الطباع.
على العكس فهو مفكّر دون أن يكون مفكرًا صِرْفًا، وهو رقيق الشعور دون أن يكون حساسًا صِرْفًا، وهو رجل الأفعال دون أن يكون آلة صمّاء. فهو ليس منحطًا مثلما كان نابوليون الذي كان رجلًا ثرّي التأمل (شعوريًا)، قويّ الإرادة، لكنه مفتقر إلى الشعور الأخلاقي افتقارًا تامًا، مثله كمثل مجرم (مصاب بالصرع)، كان الأجدر به ألا يخرج من الملجأ. صحيح أنّ نابوليون كان خطرًا على المجتمع، لكنه مع ذلك لم يكن مثل رجل مسيحيّ معادٍ للجنس عاجز عن التفكير السليم، بل كان مثل جميع الصوفيين ومعظم الميتافيزيقيين، يفكر تفكيرًا مَرَضيًا يشوبه الغموض.
ملاحظات عن العبقرية:
يرى الإنسان العبقري رؤية أوضح، ويحلُم أضعاف ما يحلُم به الإنسان العادي. هل فرط الحساسية للضوضاء هي سمة تميّز البشر الذين يتملكهم الشعور بالخوف؟
إن أعظم العباقرة حقًا هـم القادرون على ابتكار محيط اجتماعي يخصّهم ليعيشوا فيه.
إن ما يميز الرجل العظيم هو فرادة المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه. ببساطة شديدة أقول: ثمة أناس عاجزون عن التأقلم مع بيئتهم المحيطة، وبعضهم يتأقلم عبر غـزو المحيط الاجتماعي للآخرين وتطويعه ليكون خاصًا بها. لا شكّ أن بودلير وإدجار آلان بو مثالان على النوع الأول، أما نابوليون والسيد المسيح فمثالان يعبّران عن النوع الثاني. ينبغي للعبقري أن يحلُمَ أكثر، وأن يتحلّى بيقظة أشدّ مقارنة بالإنسان العادي في اللحظة نفسها. فالنشاط المتقد يمنحه درجة أعلى من الوعي بالحياة، ورغبة أقوى في الفهم، ووضوحًا أشدّ في الرؤية (وهو ما يساعده في نهاية المطاف على التخلص من التصورات السخيفة العابثة التي تتسلّل إلى ذهنه رغمًا عنه). وكلما زاد نشاط هذه المفاهيم السخيفة في ذهنه، انقطع عن العالم وصار أنانيًا مخرّفًا. ومن هنا فظاهرة فقدان الذاكرة شائعة عن أصحاب العبقرية والموهبة.
العبقرية والموهبة في محيط المجتمع:
يُولد العباقرة عمومًا (وبأعداد كبيرة) في أثناء فترات الاضطرابات والتحولات الاجتماعية. وفي وسعنا أن نتخيّل مدى القلق الذي سيصيب الآباء والأمهات لو عرفوا ذلك بسبب ما ينتج عن ولادة أبناء عباقرة من انحراف في مسار السلالة الوراثية1، لاسيما لو علموا أنَّه بدون المكوّن المَرَضي لا يمكن أن تنشأ العبقرية.
أنْعَتُ إنسانًا بأنه موهوب لو تحلّى بحِدة الذكاء، ولو استطاعَ إنجاز عمل مستقل بمفرده. وبهذه الجُملة الأخيرة أميّزه عن الإنسان الذي يتمتع بنباهة العقل فقط، ولكنه لا يستعمله إلا لأغراض الفهم أو التأمل أو الترفيه. ومن هنا فالعبقرية والموهبة –وَفق فهمي في هذا السياق– ليستا مرادفين متطابقين لمفردة الذكاء، بل هما بالأحرى شيئان مختلفان في النوع، ولا بأس أن يكون الإنسان الموهوب أكثـر قيمة من الإنسان العبقري من الناحية الفكرية.
في عالم الأدب: العبقرية هي نَظْم الشعر؛ بينما الموهبة هي كتابة النثر
هيهات أن يَقدْر أحد على قمع العبقري حتى لو اعترفنا بقدرة الظروف على تقييد عمله أو تضيق الخناق عليه. ومن ثمَّ فالشاعر الذي كان في وُسْعه كتابة ملحمة شعرية، ولم يستطع سوى كتابة بضع قصائد غنائية وبعض السوناتات، أو في أفضل الأحوال تأليف ملحمة غير مكتملة، فحتى الشذرات الباقيات 2disiecta membra من أعماله تظلّ نصوصًا جديرة بالإعجاب.
أما الموهبة فتسعى جاهدةً وراء ما يُطلَق عليه في العادة "العمل الجاد الملتزم". ونستدلُّ من ذلك أنَّ الموهبةَ عصيّة على القمع، من حيث هي قادرة على الإفلات من كل القيود برغم كل الظروف غير المواتية.
العبقرية هي الإلهام؛ والموهبة هي التأمل
العبقرية هي حساسية قادرة على توقّع مسار تطوّر المجتمع قبل الآخرين. وتشير مظاهرها على الطريق الذي يجب أن يسلكه المجتمع، ولا شكَّ أن الغرائز الاجتماعية الغامضة ستتجلّى بوضوح لو أننا نظرنا بعين الاعتبار إلى هذه المظاهر التي يتنبأ بها الرجل العبقري.
والعمل الأدبي العبقري هـو عمل بسيط على الدوام؛ وكلما زاد تعقيد البساطة فيه كان ذلك أحسن للعمل.
من باب التبسيط أقول بضرورة أن تحتل البساطة حيزًا أكبر داخل العمل الفني. وبناءً على ذلك يمكن القول: إنه يمكن العثور على العبقرية في البساطة، مثلما يمكن العثور عليها في التعقيد. ومع ذلك فقد يكون العمل المغرق في البساطة عبقريًا، لكن المغرق في التعقيد لا يمكن أن يكون كذلك أبدًا. وأبسط شيء في العمل هـو الوحدة العضوية، وهو المطلب الأول من أي عمل فني.
والإنسان العبقري هو مَن يخلق ويبدع بساطة فنية من نوع جديد. في وسعنا أن نفترض أن الأمر هكذا، فخلق التعقيد مطبوع في القدرة العقلية لأي فرد عادي (لديه دماغ مثل بقية البشر).
ومع ذلك؛ فإنتاج البساطة مسألة معقدة. ففي مقدور أي واحد مِنا، وبجهد بسيط، أن ينشئ متوالية من الجُمل المعقدة انطلاقًا من أفكار لا معنى لها، أو أفكار غامضة انطلاقًا من جُمل أصيلة. بينما نرى صعوبة في أن يصوغ فردٌ جملتين أو ثلاث جُمل بسيطة أصيلة، ليس بالضرورة جُمل من قبيل: "مساء الخير" مثلًا، فهذه شائعة على كافة الألسنة.
والسبب أن أدنى مجهود يتجاوز حدود المعتاد يؤدي على الفور إلى السُخف؛ أي إلى التعقيد، لأنه كلام غـثّ. لكن الإنسان العبقري مخلوق بسيط، ذو روح طفولية، وهو يتسم بتلك الصفات من ثلاثة أوجه. فهو يُبصِر البساطة المطلقة التي تسكن روح الأشياء، فتراه يجلس في غرفته، متأمّلًا مقبض الباب مثلًا. وبينما يراه الآخرون مجرد مقبض باب عادي، يراه العبقري سرًا مكنونًا. فيستغرب من وجود مقابض الأبواب، ويذهب إلى القول إنه من الغريب عمومًا أن توجد الأشياء من الأساس، وأن يوجد كون محتشدٌ بكل هذه الأشياء. ومن ثمَّ يغدو مقبض الباب شيئًا جَللًا لو أمعنّا النظر إليه ببساطة وببراءة الروح.
أما الشخص المُحب للتعقيد فلا يرى في المقبض إلا مجرد مقبض. لكن الذي يفكَّر في غرابة أنَّ ثمة من ابتكر فكرة صُنع بابٍ ومقبض، فهـو على جادّة الصواب؛ لأنه مسكون بالدهشة إذ يواجه الأشياء البسيطة، الأمر الذي يشكّل ركيزة العبقرية الأساسية. فيرى في مقبض الباب شيئًا فريدًا، كيانًا مجرد أبيضَ، يراه شيئًا مفعمًا بغموض المكان، وبغموض الزمان، وبغموض الثِقَل والغموض الـ (...).
إن مقبضَ الباب شيء يكتنفه الغموض، مثله كمثل البشر والأرواح والأصوات الناطقة والحضارات التي تُولد وتموت. ولا ينسحب ذلك إلا على مَن يرون الأشياء من زاوية البساطة. وهذه النظرة البسيطة للأشياء، كما ذكرتُ آنفًا، هي أول سمة من سمات العبقرية. وانطلاقًا من المثل الذي شرحته للتوّ فقد وصلتُ إلى اعتقاد أنني إنسان عبقري، وأراني أقبل ذلك دون غضاضة!
يُحدِّق فيَّ مقبض الباب بنظرة غامضة ليست منه.
والسمة الثانية للإنسان العبقري هي البساطة أيضًا. ولئن كانت السمة الأولى هي بساطة النظر إلى الأمور، فإن السمة الثانية هي بساطة التعبير عن الأشياء في عبارة سهلة. يبدو هذا دفاعًا صريحًا عن بساطة أسلوب الكاتب ونصاعة بيانِه. وبطبيعة الحال، فالعكس تمامًا.
فلو كان ما تريد قوله شديد التعقيد، فالتعبير البسيط هنا هـو دلالة التعقيد. فإذا كانت حالتي العقلية معقدة ومبلبلة مثلًا، وعبّرتُ عنها على نحو يجعل الآخرين يرونَها بسيطة، فأنا معقّد، لا لأن تعبيرًا ليس في محلّه فقط (وهو شيء معقد)، بل أنا شخص عبثيّ (وهو فن)، وهو أمر مثير للارتباك؛ لأنني لا أقول ما يجب أن أقولَه (وهو أيضًا فن).
العبقرية الأدبية:
العمل العظيم هو العمل غريز المادة، وهو عمل يتمتع في الوقت ذاته بمستوى فني عالٍ، ومكانة إنسانية سامية، ودرجة رمزية عميقة. وهنا يبرز السؤال المتصل بـوعي الفنان بما يُنجِزه. ودعونا نضرب مثلًا بثيربانتيس؛ هل كان واعيًا برمزية دون كيخوته؟ ليس الجواب مهمًا. فمربط الفرس هو بلورة تصوّر ينطوي على العنصر الرمزي. وقد اشتمل العملُ [أي دون كيخوته] على الإرادة الفنية الواعية، ولما كانت الإرادة الفنية الواعية تضمُّ العنصر الرمزي فعلًا، فقد صار العمل مفعمًا بالرمزية شاء الفنان أم أبى.
هوامش:
1. الملاحظة هنا ساخرة بالطبع (تعليق ورد في الأصل).
2. وردت باللاتينية في الأصل وتعني "الشظايا المتناثرة"، وكذلك الأطراف أو الأشلاء (المترجم).