الحجاج في الخطاب

لـ روث أموسي Ruth Amossy

ترجمة: د. رضوان بليبط


في كتابها "الحجاج في الخطاب"  L'argumentation dans le discours

تدافع الباحثة الفرنسية والأستاذة الجامعية ذات الأصول الرومانية روث أموسي Ruth Amossy على فكرة توسيع حقل اشتغال الحجاج، ليتجاوز حدود البنية اللغوية إلى تخوم الخطاب، وينفتح على الخطابات الحية الملموسة. وسنحاول هتك القناع عن تصورها لموضوع الحجاج وعلاقته بنظريات تحليل الخطاب، انطلاقاً من هذه الترجمة التي من شأنها إخصاب التلاقح الثقافي بين البلاغتين الغربية والعربية.


يمكن أن نشير إلى أن استعمال الكلام مرتبط، بالضرورة، بسؤال الفعالية؛ فالخطاب يسعى دائماً إلى أن يؤثر في الجمهور، ويجعله ينخرط في أطروحةٍ ما: إنه إذن يحمل قصداً حجاجياً، لكن يمكنه أيضاً أن يبحث بمراوغة عن طرائق للنظر والإحساس، مما يجعله، في هذه الحال، يمتلك بعداً حجاجياً. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نطرح الأسئلة الآتية: كيف يكتسب الكلام قوة التأثير في سامعه؟ وبأي الوسائل اللغوية، وبأي الاستراتيجيات المبرمجة أو التلقائية يضمن قوته؟


تقع هاته التساؤلات، التي ندرك أهميتها انطلاقاً من الممارسة الاجتماعية، في مركز تخصص ترجع جذوره إلى القدم: فالبلاغة، لدى القدماء، كانت نظرية للكلام الفعال المرتبط بتعلم رجال المدينة (أثينا) لمبادئ التأثير والإقناع، قبل أن تتحول مع مرور الزمن إلى فن لتحسين القول، وتُختزل في ترسانة من الوجوه البلاغية. فبتمحوره حول المحسنات البلاغية، فَقَدَ الكلام كفاءته الأولى التي تتمثل في منح الفعل اللغوي القدرة على الإقناع. ومن أجل هذا الهدف الأخير تعود، اليوم، التأثيرات التي ترجع إلى عصر الديمقراطية، وإلى التواصل.

 


مصنفات البلاغة ونظريات الحجاج: الأهداف والرهانات

لا يمكن أن ننكر الاختلافات التي يطرحها حقل متعدد الاختصاصات مثل حقل الحجاج؛ فالتصورات الملموسة الخاصة بالبلاغة والحجاج، لا يمكن أن تعود لا إلى مجموع الاختلافات الشكلية، ولا إلى الاختلاف المدرسي. إنها تقترح تصوراً عن التواصل الإنساني ووظائف الكلام الاجتماعي. وعلى هذا المنوال قدّم برلمان وتيتيكا C. Perelman et L.O.Tyteca بلاغتهما الجديدة أثناء بحثهما في تبادل الكلام، بوصفه بحثاً للاتفاق حول العقلاني؛ فبالنسبة إليهما البلاغة والحجاج مترادفان، كما يبدو في مصنفهما الذي يندمج مع منطقٍ للقيم، وأيضاً مع تمرينٍ تطبيقي على الحجج العقلية التي تمتلك بعداً أخلاقياً أكثر منه اجتماعياً، كما أن أعمال يورغن هابرماس Jürgen Habermas ترتقي بموضوع الإقناع، وتبلور تصوراً حول أدبيات المحادثة، فضلًا عن فان إمرن Van Eemeren الذي تبنى منهجية عقلانية في حل الخلافات، بالإضافة إلى بعض التصورات الأخرى؛ سواء تلك التي ذهبت إلى أن الحجاج يروم استكشاف طرق العقل/ المنطق والاستنباط كما تشيع في الحياة العادية باللغة الطبيعية، أو التي ترى أن الهدف الرئيس من وراء دراسة الحجاج هو تحليل توظيف التواصل الإنساني، بوصفه ظاهرة لغوية، ومعرفية، وسوسيوسياسية.

فالأمر لا يتعلق أبداً بإصدار حكم أو شجب، أو الحصول على مؤشرات وتطبيق معايير للتقويم، وإنما يتعلق بوصف حقيقة التبادلات اللفظية التي تؤسس العلاقات بين الذاتية والواقع الاجتماعي. وتطمح هذه المقاربات الوصفية والتحليلية إلى فهم جيد للعالم الذي نطوره يومياً عبر إضاءة الظواهر التي تكوّنه: تفاعلات الحياة اليومية، والصحافة المكتوبة، والميديا، والخيال. ويتعلق الأمر في اللحظة ذاتها بإنشاء لائحة، وبدراسة حالات للوجوه البلاغية الملموسة. فهناك من يضع الأصبع على الاشتغال المفهومي، وهناك آخرون يفضلون استعمال أدوات التحليل التي ينشئونها من أجل فهم الأخبار، أو من أجل توضيح متن تاريخي. ويتعارض الحجاج في اللغة، مع هذه المقاربات؛ لأنه يرفض تصور الحجاج المؤسس على اللوغوس؛ أي الكلام بوصفه منطقاً. ولا ننسى أن نضيف إلى هذه التصورات تعريفاً مختزلًا للبلاغة، ورد في المقاربة البنيوية للوجوه البلاغية، وأسسته جماعة لييج تحت عنوان البلاغة العامة ([1970] 1982) في أعقاب اللسانيات؛ ولاسيما أعمال جاكبسون. وهو تصور يتمركز حول البلاغة باعتبارها وسيلة للشعرية، ويبحث في استعمالات اللغة التي يتفرّد بها الأدب. وهذه البلاغات التي تقتصر على البعد الاستطيقي/الجمالي لما هو تصويري/بلاغي تظل اليوم متعددة: إنها قريبة من تخصص يستمر في الاستفادة من دراسات الأدب الفرنسي في فضاء مؤسسي للانتقاء (في المباريات)، وهو الأسلوبية.
 

هل لا بد من التمييز بين البلاغة والحجاج؟

نلاحظ انطلاقاً من هذه الرؤية المختصرة، أن المقاربات المتنوعة التي تمنح رؤى أحيانا متكاملة، وأحياناً أخرى غير متجانسة، تعمل على مشاركة الاختلافات بين الحجاج والبلاغة، وهذا ما أشرنا إليه في عملنا رقم 2، "الحجاج وتحليل الخطاب 2009"، وطرحنا أسئلة ساقتنا إلى أن نعتبر البلاغة، كما فعل ميشيل مايير 2009 Michael Mayer تشكل في أحد معانيها مصطلحاً تجنيسياً، وهو استدعاء تخصص خاص يضم الحجاج، لكن المصطلح يمكن أن يعني أيضاً توجهاً دراسياً يتعارض مع الحجاج، ولكن ميشيل مايير نفسه تجاوز هذا السؤال، وتظاهر كما لو أنه وجد له حلا. فالتعارض الذي يأتي بين الخطاب الجذاب والخطاب العقلاني يوجد داخل الخط الأيمن لهذه التقسيمات؛ وخاصة تلك المقترحة بين البلاغة بوصفها خداعاً (تقليد يرجع على أفلاطون) والحجاج بوصفه مشاركة للكلام وللمنطق.


دراسة الحجاج بوصفه جزءاً من تحليل الخطاب:

نحن نفهم الآن المهمة التي يعنى بها التحليل المسمى بلاغة أو حجاجاً: إنها تدرس الحجاج بوصفه جزءاً مندمجاً ضمن تحليل الخطاب، يهتم بوجهات الفعل المتعددة والمركبة، وبالتفاعل اللغوي، ليس في إطار علوم التواصل فحسب، وإنما في رحم لسانيات الخطاب التي ينبغي فهمها في معناها الموسع بوصفها شعاعاً للتخصصات، تقترح تحليل الاستعمال الذي ينجزه الكلام في وضعيات ملموسة، وهذا بالتحديد يجعل من التحليل الحجاجي فرعاً من تحليل الخطاب (AD) إلى الحد الذي ينوي فيه توضيح توظيفات خطابية عبر استكشاف كلام متموضع، أو على الأقل ملموس جزئياً، على النحو الذي تعرفه الاتجاهات الفرنسية المعاصرة انطلاقاً من أعمال مانغونو 1991 Maingueneau، وشارودو ومانغونو 2002 Charaudeau et Maingueneau. إن الأمر يتعلق بتخصص: يربط، أولا، الكلام بفضاء اجتماعي، وبأطر مؤسسية. ويتجاوز، ثانياً، التعارض بين النص والسياق، ويأخذ بعين الاعتبار وضعية الخطيب، والظروف السوسيو تاريخية التي يتسلم فيها هذا الخطيب الكلمة، وطبيعة السامع المقصود، والتوزيع المنتظر للأدوار التي يقبلها التفاعل اللغوي أو يرفضها، والآراء والمعتقدات الرائجة في ذلك العصر، فهذه العوامل كلها تبني الخطاب، وعلى التحليل الداخلي أن يستدعيها. وثالثاً، يرفض تخصص تحليل الخطاب أن يفرض على مصدر الخطاب موضوعاً تلفظياً فردياً يهيمن عليه، لأن المتكلم، مثله مثل المخاطَب، مخترق بواسطة كلام الآخر، وبواسطة الأفكار التي يتلقاها، وببدهيات عصرٍ ما، وبكونه مرهوناً بممكنات عصره.

 وعلى هذا الأساس يمكن إعادة توجيه البلاغة القديمة والبلاغة الجديدة، بما يسمح بتوضيح التحليل الحجاجي وتحليل الخطاب؛ فالتحليل الحجاجي الذي يعنى بالخطاب يتجاوز الحجاج في اللغة الذي تبلور من خلال أعمال أنسكومبر وديكرو Anscombre et Ducrot؛ ونحن ندرس الحجاج في الخطاب بوصفه بعداً بنيوياً، فلا خطاب دون تلفظ (الخطاب هو أثر استعمال اللغة في وضعية ما)، ودون حوارية (الكلمة دائماً، كما قال باختين، رد فعل على كلمة الآخر)، ودون تمثيل الذات (كل كلام يشكل صورة لغوية للمتكلم)؛ وبالتالي لا وجود لخطاب دون ما يمكننا تسميته «الحجاجية»، أو التوجيه الأقل أو الأكثر المسجل عبر الملفوظ الذي يدعو الآخر للمشاركة في طرائق التفكير، والنظر، والإحساس. وباختصار فكل خطاب يفترض فعل توظيف اللغة في إطار بلاغي/تصويري؛ («أنا» - «أنت») تُفهم داخل مسار الخطابات التي تسبقها وتحيطها، وتنتج بطريقة جيدة أو سيئة صورة للمتكلم، وتتأثر بالتمثلات أو الآراء التي تصدر عن المخاطبين. وبهذا المعنى، فإن دراسة الحجاج والطريقة التي يرتبط بها مع المكونات الأخرى داخل نسيج النصوص تعد جزءاً مندمجاً في تحليل الخطاب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها