عزلة مستديرة!

"اليوسف" تغزل خيوط ماركيز في لوحة الوباء

ريم عبيدات


في أعماق ليالي الروح المنفية، حيث تهجع الذوات الإنسانية المسكونة بهواجس القادم، لتغرف حنينها وتعزف ألحان وحدتها، لتلتقي على ناصية الحياة، رحلتا العزلة في رحاب روايتين اتخذتا منها قلباً نابضاً لتصميم مبنى المعاني العميق، ولتحمل كل منهما بصمات ذكرياتها مع قرائها القادمين من كوكب من الرؤى المتجولة في أقاليم الوحدة والعزلة بجملياتها على ضفة، ووحشة على الضفة الأخرى، فيما تبحث الروح العميقة عن خلاصاتها الأزلية في عزلاتها القسرية تلك.
 

مسير الحثيث نحو الانتماء الضائع

نقشت إيمان اليوسف في "عامها من العزلة" مكانها الخاص في المشهد الروائي العربي المتفوق، وليس فقط ابتداعها لمكانها الجغرافي الافتراضي الخاص فوق سطح هذا الكوكب وشخصياتها الفانتازية الافتراضية العصية على الفهم، في محاولة جديدة لالتقاء سرد الحدث الواقعي بتراكيبه البنائية والانسانية المعقدة. ولتسحب كاتبتنا لخيط سردي انساني رفيع خالد، عبر استلهام رواية الكاتب الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة" الحائزة منذ عشرات السنوات على نوبل للآداب، لتستنير إيمان بهدي شخصيات وأحداث عملها الجديد، ولتضيء انعكاساته نصاً سردياً جديداً يحاكي الأحداث والمستجدات المعاصرة.

 

إطلالة بانورامية على المشهد
 

مقدمة منهجية لموضوع بناء السرديات المعاصرة على تلك الراسخة

عادة ما يجد أصحاب النصوص المتأسسة على نصوص سابقة أنفسهم إزاء تحديات سردية عديدة، منها القدرة على الإبداع والتجديد، والتمكن من الخروج والدخول إلى نسيج النص بكفاءة ومرونة، كما وتحدي ابتداع عناصر جديدة، والتمكن من الاستقلال من عباءة النص القديم، والتمكن من جعل النص مثيرًا ومميزًا. بالإضافة لتحدي التوازن بين الاحترام والتجديد، والحفاظ على الخيط الرفيع الفاصل بين إبداعه وبين تمييز النص السابق، والقدرة على خلق روح جديدة فيما الحفاظ على روح النص السابق حية. ناهيك عن التحديات اللغوية والأسلوبية وهنا تتبدى قدرة الكاتب الجديد في المشي فوق زجاج النص السابق، بحنكة ورشاقة وتوازن لابتداع أسلوبيته الخاصة. وليس آخرها التحديات الهندسية والسردية: في كيفية إعادة النظر في هيكل القصة والشخصيات والأحداث. فيما يبحث طرقًا لتطوير النص وجعله أكثر تشويقًا وتأثيرًا.

على ضفاف الروايتين

وفي الوقت الذي تدور فيه أحداث رواية عام من العزلة في عام الكورونا، وهو زمن مميز يشهد تحولات اجتماعية ونفسية كبيرة؛ فإن مائة عام من العزلة: "تمتد عبر سبعة أجيال في مدينة ماكوندو الخيالية، مما يمنحها زمنًا أطول وتأثيرًا أعمق".

وفيما ركزت الجديدة على العزلة النفسية والاجتماعية للشخصيات في ظل الأحداث العالمية والتغيرات الشخصية، تمكنت "مائة عام من العزلة": من ترسيخ تأثير العزلة على الأجيال المتعاقبة، مع التركيز على العائلة والمجتمع.

وإذ قدمت "عام واحد من العزلة": لشخصيات متشظية تعيش تجارب حياتية مختلفة، وتصف لأثر الوباء على حيواتهم، إضافة لاستعارتها بعضاً من شخصيات الرواية الأم لمشاركتها المشهد الروائي؛ فأن مائة عام من العزلة: تميزت بشخصيات غريبة وساحرة وفانتازية؛ ظلت غرائبيتها مسرحاً لحديث الأجيال من القراء.

المكان وليد الزمان

يتخذ العمل من شقة صغيرة في ربوع مدينة بحرية نائية، محاصرة بجدران العزلة والوحدة، ومحاربة تماماً بالخيالات والأنواء وانفلاتات العقل المستمرة، إزاء تشظيات المشهد الكوني برمته، والتخبط الانساني العالمي في أصعب أزمة مرت بإنسان الكوكب المعاصر منذ عقود. فيما تتضفر الأفكار المسترسلة والمفسرة والمشكلة والخائفة والخائرة القوى تماماً إزاء المستقبل، وما ساد المشهد العالمي من رعب وجدل وفوضى ومخاوف تتلون بأعداد البشر.. فيما يقبع الصغير في مساحة كونية بعيدة، تفصلهما ليس فقط مساحات الجغرافيا البعيدة، بل مساحات القلق والتردد والفوضى واللاثقة بكل شيء، والتشرذم النفسي الذي طال كل شيء، وانعدام ثقة الناس ببعضهم، وبعالمهم الجديد المعزول، فاقدين فيه للأمل بمستقبل العالم، وفيروس خبيث حال دون لقائها بابنها الوحيد، تاركاً لغصة كبيرة في قلبها الحائر والمتألم.

الشاشات في حوار نبض الإنسان

كانت تتلقى رسائله عبر شاشة باردة، تحملها أصداء أنفاسه البعيدة. لكن كم هي قاسية رحلة الحنين عبر أمواج لاسلكية، حيث لا يمكن لحضن دافئ أن يخفف من غصص الشوق. فيما تزيح ستار الغموض عن رسائل برايان كباحثة متخصصة في شؤون تفكيك أسرار الرسائل وترميمها والحفاظ عليها، بإسقاطه غاية في الذكاء والغرابة والفانتازيا، التقطت إيمان اليوسف رسائل برايان من رواية "مائة عام من العزلة"، ولتكون رسائله شرارة رواية إيمان اليوسف "عام من العزلة"، لتنسج بذكاء لافت الخطوط التفصيلية والعامة بين الروايتين، واللتين تشتركان في إعلان العزلة الإنسانية بأسبابها وظروفها ومناخاتها كمضمار وجودي جديد، يفرض نفسه على أسئلة التكوين والتاريخ الأولى.

الرسائل وخيط الحياة الجديد

الالتقاط الفريد لعنصر الرسائل الأولى، ينم عن قدرة وفطنة روائية، في جعل مضامين هذه الرسائل حية في وجه العالم الحالي، ورافعة نحو القادم والمستجد والدائم الحيوية، ودافعاً شاسعاً نحو التغيير الآتي من المعاني والأفكار.

ولترسم إيمان اليوسف عالمها الروائي الجديد من تقاسيم هذه الرسائل، بل ولتفتح عبرها الباب واسعاً ودلفت لفضاءات الحياة بأكملها.
 

هل يمكن أن تعود شخصية ما للحياة

الإطلالة الثانية اللافتة هي ما يجول في فكر القارئ، حول إمكانيات أية شخصية روائية على العودة للحياة عبر عمل جديد، يجره من جديد لواقع الحياة والأحداث والبنى الحية، وهو ما لم يكن على الالكولونيل أوريليانو بوينديا، بطل رائعة غابريال غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة»، والذي في ظني كقارئة، إن مغادرته الأولى لروايته الأم لن تكون سهلة أو حتى ممكنة.. أو أن القدر الروائي سيظل له تصور إبداعي ما، سيعيده للحاضر الروائي من جديد في مشهدية جغرافية وظرفية وزماكانية مغايرة، بل إنه سيكتسي حياة بشرية جلها أو كلها في فانتازيا راقصة بين الأحداث. ليعود في رواية عام من العزلة، ذارعاً لمسافات ومساحات الميناء الغريب، الذي خلقته إيمان ليكون مسرحها الروائي الجديد ذات مساء خريفي خاص في ميناء يعيش سكانه حياتهم المنعزلة الجديدة. وفيما يحكم المبنى الروائي الجديد لإيمان اليوسف على بطلتها الرئيسة سجن عزلة الميكروب الغريب في هذا المرفأ الغريب، وفي مهمة غريبة مع أناس غرباء لا تكاد تراهم. في الوقت الذي يتصرفون معها ومع المشهد الروائي العام، كأنهم كائنات تأتي من العجب والفضاء، لتحرك ساكناً في العزلة المرضية. وليعودوا كما أتوا من الغرابة وأبواب الريح لمحطاتهم التي لا يعرفها أحد.. فيما تستمر البطلة في كفاحها مع التشظي والاضطراب وانعدام الوزن، وعدم القدرة بالتكهن لثوانٍ قادمة حتى تتمكن طوعاً أو قسراً، من حل لغز مجموعة رسائل بريان التي لم تُفتح منذ ما يزيد على مائتي عام.

الرواية القنديل

في تلك الليالي الطويلة التي غرقت أحداث رواية اليوسف وبطلاتها في قراءة "مائة عام من العزلة" لجابرييل جارسيا ماركيز، وفي تمثلها وتخيلها وتمثيلها من جديد، حتى صرن جزءاً من نسيجها، وانطوت حياتهن ضمن الرواية الأم من جديد. ولتجد بطلة الرواية نفسها فجأة تائهة في متاهات الرواية، حيث العزلة ليست مكانًا، بل حالة روح تتشبث فيها بكافة أطياف الذكريات.

الانعكاسات العديدة لإضاءات مائة عام من العزلة مع الرواية الجديدة موضوعة المقال عديدة، وفي فضاءات الرواية، حيث تتدفق المشاعر الإنسانية التي تأخذنا لأعتى المشاعر الإنسانية، تصور آلام الفقد والجوع والمعاناة، وتسافر بنا إلى مطارح وزوايا شعرية نعيش ونختبر في خضمها الكثير من المشاعر المتناقضة، لتفتح نوافذ التساؤلات وتحفزنا على قراءة ما يكمن خلف التفاصيل، دوماً بتعمق وروية.

إذ نحلق في كل تفصيل وحكاية تخوضها «سارة» في العمل، إلى عوالم حسية ثرية بالوجدانيات والبحث الدائم عن الفرح والعدل والخير والانتصار للجمال.

وكذلك الأحداث الغرائبية التي ألمت بشخصية العمل الثانية ليلى، وهي رمز للمرأة المتشظية في زوايا الفكرة، والتناقض الإنساني، والبحث عن الذات، وسرداب الخوف من التقاليد، وآسر الطموح والاختلاف والزواج غير المتكافئ وتبعاته الكارثية أحياناً. والوقوع ضحية سوء الفهم الذي قد يأخذ من الإنسان أجمله وليس انتهاء بحياته كلها.

كلا البطلتين أضرمت في ثناياهن العزلة الكثير من نار الألم والخوف بمساراته العدة، وظهرتا في الرواية مثل الكائنات الأسطورية التي تتأرجح على سطح ماء المشهد مثل زورق يتهدج.

وتتفاعل الغرائبية في مسار آخر إذ لم يكن في حسبان أي من سارة وجارتها ليلى أنهن على موعد قريب للغاية، مع لعبة خطرة ستغير مسار تاريخ كل منهما إلى الأبد.. وأن إحداهما ستفقد حياتها تماماً في ظروف سوريالية فيما الثانية ستتوقف عند السوريالية ذاتها.

السيكولوجيا الإنسانية البطلة المتوجة

تمكنت اليوسف في روايتها من أن تستل من مشهدية ماركيز وروايته الأيقونة سيمفونية السيكولوجيا الإنسانية، وأن تتمكن من استلال أحد أبطال الرواية الأم، لتبث الحياة في ثناياه ولتطلقه ومسرحه الكامل للريح، وتجعله يعاود رقصة الحياة بين أبطالها ومسرحها الجديد، فيما يحار القارئ ما إذا كان هو نفسه أصبح داخل العمل، وتتقاذفه الأحداث الجديدة والقديمة، فيما يعاود تذكر عزلة الوباء التي قصمت ظهر العالم لشهور عدة، تغير فيها وجه الأرض.

وإذ يشي الاختيار الصعب والآخاذ في الآن ذاته بقدرة نفسية واجتماعية ووجدانية تتبعية عميقة، وهذا التغيير لماء الشخصية الحياتي والنفسي والاجتماعي؛ إنما يعكس رغبة في التجديف في عوالم إيقاعات مختلفة لتنكشف المقاربات والمفارقات اللصيقة في الآن ذاته في رحلة سردية أخذتنا فيها اليوسف لسراديب تعبيرها، وتحليق قلما في مفازات شاسعة ومديدة ونحن نتابع رحلة قلمها، على جناح طائر محلق فوق ارتفاعات متباينة وغريبة، وقدرات رفيعة في التفوق على الذات الفعلية، لصالح تلك المبدعة والطموحة.

وعدنا إلى ما نفر منه إبداعياً

وتمكنت اليوسف بإبداع إعادتنا إلى ليالي العزلة الطويلة للوباء، حين أصبحت الهواتف والأسلاك والشاشات، هي محور الحياة الجديدة وبديلنا الموضوعي للدفء والحنين والصوت الحي وتضاريس الحضور كلها، ونابت تماماً عن الحركة الإنسانية في فعل كل شيء.

في لحظات الحنين الحارقة، كانت بطلة الرواية تهاتف ابنها بصوت متهدج، تلملم فتات الكلمات المتناثرة، محاولة إعادة ترميم روابط الأسرة التي فككها الزمن والوباء والتشظيات الاجتماعية. لتعيش من جديد محنة الصوت والصورة بلا جسد وروح وقلب يدفئ حضنها في وحدتها وعزلتها القاسية.

تتسمر أمام النافذة والشرفة تراقب العالم الخارجي وهو يمر في صمت، بينما هي عالقة في مأزق لا نهاية له. أين اختبأ الأمل؟ متى سينتهي هذا الكابوس؟

مع كل يوم جديد، كانت تشعر بالانزلاق أكثر في عوالم ماركيز السرية، حيث العزلة هي الحقيقة الأبدية. لقد أضحت كأرملة امرأة من قصصه، حبيسة ذكرياتها ومخاوفها.

لكنها لم تستسلم أبدًا للرعب. كانت ترسل لولدها الرسائل الصامتة عبر موجات الأثير، مستنشقة رائحته في كل تفاصيل الحياة، متشبثة بأمل العودة، فيما تتقاطع أحياناً برحلة أحداث الرواية إلى بابها، أو تشغل نفسها برسائلها التي لا سبيل لنسيانها، وفيما يذوب الحاضر إزاء الخيال وتوصد الحقاق أبوابها إزاء الفانتازيا المستمرة.

حديث المرايا دائماً وأبداً

ويمكننا القول؛ إن انعكاس المرايا في الروايتين يأخذنا لنجدف وبقوة خارج الجغرافيا والثقافات، في تتبع نبيل لهموم الإنسان الأبدية وصراعاته مع الضياع والاغتراب. فالعزلة هنا ليست ظرفًا عابرًا، بل حالة وجودية تلف بخيوطها على إنسان هذا الكون، فيما تطلق الروايتان صرخة مدوية لاستكناه أغوار وجودنا المحاصر بين جدران الآلام والذكريات المؤلمة. حيث لا سبيل لمغادرته أو الالتفاف عليه للمواصلة إلا عبر الإبداع والفانتازيا والخيال الأرحب.

عبر هذه الأجواء الكئيبة، تتلاقى رحلات البحث عن الذات والانتماء في كلا العملين الأدبيين. فبطريقة ما، نجد أنفسنا معلقين بين تلك المصائر المأساوية، نعايش اختناقات الشخصيات وآلامها الصامتة. نغوص معها في أعماق العزلة المظلمة، آملين العثور على شعاع أمل يضيء لنا الطريق نحو الخلاص.

ويبقى السؤال

وختاماً؛ نقول بأن ما أحدثته "مائة عام من العزلة" ثورة في الأدب اللاتيني، وكرست مصطلح "الواقعية العجائبية" كاتجاه أدبي جديد، مما جعلها تحفة كلاسيكية خالدة، ومرجعاً أساسياً لفهم الأدب والثقافة في أمريكا اللاتينية.. فإن رواية "عام من العزلة" للروائية الشابة إيمان اليوسف؛ هي محاولة مجتهدة، للالتقاء بالمعاني الفريدة لوجود الإنسان، واستخدام أدوات الإبداع العدة، للبحث عن صوت الإنسان العميق في ذات كل منا، ولتلتقي الرواية الجدية مع الروايات العتيدة في بحثها المبدع عن جوانب تقدير للإنسان ومعاناته وصراعاته العدة، والدعوة الدائمة لاستكشاف أعماق ذواتنا المعزولة، ورحلات البحث المريرة عن الانتماء والمعنى في هذا الوجود المُقنع.
 

ونعود لنقطتنا في الدائرة

كذا تمضي الأرواح الشاردة في متاهاتها اللامتناهية، حاملة أوزار وجودها المشتت على كواهلها المثقلة.. تتخبط بين جدران الاغتراب الصلبة، نجد أنفسنا مشدودين إلى تلك الأصوات الخافتة، الهامسة بالرغبة الجامحة في التحرر من قيود العزلة وكسر حواجز الاغتراب. هي أصوات بشرية خالدة، تهمس لنا عبر الحقب والثقافات، وكأنها تدعونا لنشاركها الرحلة نحو ضفاف الخلاص المنشود. رحلة لا نهاية لها، لكنها الأمل الوحيد للخروج من ظلمات العزلة المخيفة.

وتظل رحلة العزلة بكافة معانيها هي رحلة الإنسان منذ الأزل في بحثه المطلق عن ذاته في ذواته العدة، قد تخفت هنا وتصدح هناك، بحكم المشهدية الإنسانية، وتتشابك عبرها الأرواح الإنسانية لتتحد معاً في روح واحدة، تختصر بتطلعاتها نحو الانعتاق والتحرر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها