مجموعة صالحة عبيد القصصية "ساعي السعادة"

مغامرة سردية لتقصي الجوهر الإنساني

مصعب الصاوي


برز صوت الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد بين الأصوات الإبداعية الحديثة التي عُنيت بفنون السرد الروائي والقصصي في الإمارات، وظلّت تحرس مشروعها السردي بالمواكبة والتطور المتنامي بالتوازي، وأطوار تجربتها العمرية، والكتابية عبر التراكم والنضج والتأملات الفلسفية والفكرية في الظاهرة الإنسانية التي تشكل محور خطابها السردي. عبرت صالحة عبيد في بداياتها عن أسئلة الهُوية الإماراتية في تمظهراتها المختلفة، عبوراً إلى جوهر الحالة الإنسانية بشكل أشمل في مداها الكوني والوجودي، الذي لا تحده أطر الزمان والمكان والبيئة والتكوين.

 

 سيرة سردية

صالحة عبيد من مواليد الشارقة، وفي أطوار مسيرتها الإبداعية صدر لها رواية "زهايمر" 2010 وقد ترجمت إلى الألمانية. حصلت على جائزة العويس للإبداع عن قصتها "خصلة بيضاء بشكل ضمني" 2016م، "الحياة على طريقة زوربا" 2013 م، "ولعلها مزحة" 2018م، "دائرة التوابل" 2022م. بملاحظة ببلوغرافيا الإصدارات المشار إليها في هذا المسرد الموجز، نُلاحظ التتابع المتصل والتراكم والنضج ثم التنوع بين الأشكال الفنية التي تتجلى كمجموعات قصصية تارة، وكإصدارات روائية تارة أخرى. يشير مسرد السيرة السردية لصالحة العبيد إلى توازي أطوار العمر مع مسيرة الإنتاج وهذا دليل آخر على المثابرة واتصال المشروع السردي للكاتبة. في المنطقة العربية بشكل عام نلحظ عادة انقطاع الكتابات النسوية التي تبدأ مبشرة، ثم ما تلبث أن تغيب في الصمت ويفتر حماسها، ولعل تحدي الاستمرارية هو من أكبر تحديات المرأة العربية، فهي تعيش بين سندان كونها مبدعة ومطرقة المواضعات والقيود المجتمعية التي تشدها نحو دورها التقليدي، وقلة نادرة من الأديبات استطعن الإفلات من هذا الأسر وتأسيس صوت خاص في المشهد الثقافي، وتكاد المبدعة صالحة عبيد أن تكون استثناء ذلك المسار الذي يوشك أن يكون قاعدة.
 

 عتبات النص

إذا صح أن المجموعة القصصية بكاملها تمثل نصاً ضاماً لمجموعة من العناوين الداخلية؛ فإن العنوان بحسب رولان بارت هو أحد عتبات النص، إذ يؤشر بدلالته المجازية والمنطقية لقراءة أولية لمجمل النص السردي للمجموعة، كذلك شكل وتصميم الغلاف الخارجي وطبيعة الرسوم الإيضاحية فيه. عنوان "ساعي السعادة" بالأساس تحوير فني ودلالي لمهنة "ساعي البريد"، وبطلها في القصة هو ذلك البريدي الذي ظل ممسكاً بخيوط اللعبة، يبعث بالرسائل السعيدة والمبشرة نيابة عن أشخاص مفترضين، رسائل تبعث الأمل والسعادة وتؤجل الألم إلى حين.. إلا أن هذه المهمة التي نهض بها "ساعي السعادة" متطوعاً، وبدافع إنساني باتت مهددة أصلاً بوافد جديد يحمل حاسوباً "سأساعد جميع أهالي القرية في إعداد بريدهم الإلكتروني الخاص حتى تصلهم الرسائل"1، وبذلك يفقد ساعي بريد السعادة التقليدي مهمته الإنسانية التي نذر لها نفسه. والمغزى الإنساني لهذه السردية هو أن التكنولوجيا صادرت حياتنا وكادت تفرغها من الجوهر الإنساني لتضعنا جميعاً أمام حقيقة وجودنا بصورة حسية وصادمة ومباشرة. يتسق مع اختيار الاسم "ساعي السعادة" شكل التصميم الخارجي للكتاب؛ إذ يعكس التصميم ظل إنسان تحفه مجموعة من الأجهزة والأدوات القديمة كالفونوغراف والكاسيت والراديو، وخطابات ورقية متناثرة بنفس شكل الخطابات القديمة وطوابعها، مما يعني أن دلالات التصميم تشير إلى الذاكرة وإلى حالة النوستالجيا التي تثيرها مجرد رؤية صورة الفونوغراف، أو خطابات وطوابع البريد القديمة.

 القصة والأقصوصة

تشمل المجموعة قصصاً متكاملة الشخصيات والحبكة والتقنية المتبعة في كتابة القصة القصيرة، ولكنها تتضمن كذلك الأقصوصة، وهي القصة التي تحمل ملمحاً وإشارة أشبه بـ Flash الكاميرا الذي يسطع ليوثق لحظة وجودية بعينها، منها على سبيل المثال: "قلبه مأهول بالصحراء.. قلبها منذور للريح أن تلتقي به يعني أن تحدث العاصفة"2، أو "هناك بين الضوء والظل.. نوارة حرة.. تعيش بعد الفجر وتموت قبل أن تعبد الشمس"3، مثل هذه الومضات تحتشد بشاعرية سردية وقدرة على تقطير العناصر والأفكار المجردة في سياق قصصي إبداعي بالتركيز على الجوهر الإنساني، الذي يشكل قاسماً مشتركاً يسيج عالم صالحة عبيد السردي فـ"شرارة" كأقصوصة أو ومضة تتحدث عن اختلاف الطبيعة الكونية الوجودية للذكر عن الأنثى في تضاد "الصحراء / الريح" إلا أن عنصر الحب وحده الذي يستطيع أن يؤلف بين كيمياء التضاد هذه. الفكرة الأساسية في الحب هو أن تتقبل الآخر حتى وأن اختلف عنصره وتكوينه عنك، ليس وفق شروط المحبة فقط، بل وفق الشرط الإنساني نفسه. وأن تعيش النوارة بعد الفجر وتموت قبل مشرق الشمس إشارة للحرية.. حرية الوجود التي تخرق حتى النواميس القارة والثاوية في أعماق اللاوعي فنوارة النبات أي نبات تتنفس عند الفجر وتخرج بتلاتها، وترهف أوراقها لندى الفجر وتدور احتفاءً بأولى أشعة الشمس والمجاز المضمن هو "زهرة عباد الشمس" التي تدور مع قرص الشمس، حيث يدور في علاقة أزلية حتمية إلا أن التوق إلى الحرية يفترض بالضرورة الخروج حتى على مثل هذه النظم الثابتة سلطة المقرر سلفاً والمستقر بحكم العادة والعرف والموروث. وبذلك استطاعت صالحة عبيد أن تعبر عن سردية الحالة الإنسانية بكل تعقيداتها الوجودية والفلسفية في قالب قصصي رشيق برؤية جمالية فنية.

 تقنيات السرد

تتميز تقنيات السرد عند صالحة عبيد ليس في مجموعة (ساعي السعادة) وحدها، بل في مجمل إنتاجها من السرديات بخصائص أسلوبية عامة، ولأن المجموعة القصصة مجال تطبيقنا يمكن الإشارة إلى بعض هذه الملامح.

 المونتاج السينمائي

- اذهب وابحث لك عن جسد آخر!
- ألن يرثني؟!
- الظلال لا تورث.. تنتهي4

تجري طريقة المنتاج أو القطع المتوازي في تصور شخصية افتراضية أخرى توجه إليها الكاميرا، وهي إذا كان ثمة ظل فلا شك أن هناك جسماً يعكس هذا الظل، ولكنه في ذات الوقت جسم غير مرئي، فالظلال لا تورث وتحيلنا هذه الرؤية السردية إلى جدلية فلسفية أخرى هي جدلية الأصل والظل التي انشغل بها الأدب والفكر، سيما في التراث العربي إذ "لا يستقيم الظل والعود أعوج"، والظل لا يجسم بل يجرد والتجريد يتفاوت حجماً ومساحة وامتداداً وفق الزمن، فالظل في الظهيرة ليس كالظل عند الشروق أو عند آخر النهار.

 تعديل المجاز

تتسم لغة صالحة عبيد بلمسة شاعرية أدبية فكثيراً ما تعمد إلى استخدام تقنية تعديل المجاز بطريقة الإيحاء أو تغيير الطرز اللغوية الثابتة بشحنها بدلالات أخرى جديدة مثلًا: "قارئة العينين" تحوير لـ"قارئة الفنجان" الأغنية أو قصيدة نزار قباني و"ساعي السعادة" التي أشرنا إليها في مقدمة هذه الكلمة هي تحوير لـ"ساعي البريد"، وعنوان قصة "وتوجس ليلًا"، والأصل في المجاز توجس خيفة، وهكذا فإن دلالات هذا التعديل غير ما يتيحه من البلاغة السردية، وإغناء اللغة بمفردات جديدة؛ فإنها كذلك تمثل مفاتيح مبذولة للقارئ لارتياد آفاق جديدة للنص يكون فيها متفاعلاً ومشاركاً بعيداً عن حالة التلقي السلبي.

 جوهر المحبة

تتكرر فكرة وكلمة الحب والمحبة بكثافة في سرديات صالحة عبيد، وانشغالها بفكرة الحب كظاهرة تتجاوز البشر إلى غيرهم من من يشاركونهم الحياة على هذا الكوكب، والحب في دلالته السردية في هذه المجموعة هو طاقة الوجود التي تثمر في القلب كما عند المتصوفة، وبها تهزم فكرة الموت والحب هو آية الإنسانية ومعجزتها الكبرى كما قال ابن عربي:
(وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر)

في قصة الغارق "وحدها زرقة أصابعه فهمت أنه غرق الحب"5، أو "من سوء حظه أنه كان دائماً أذكى من الحب"6، وهذه العبارة تشير إلى فكرة صوفية أن الحب حضور القلب وغياب الفكرة؛ أي أن تكون حاضراً بقلبك غافلاً بمنطق الأشياء الذي يدبره العقل ويشار إليه بهذا البيت:
وأنا الضرير يقودني .. قلبي إليك بلا دليل

وفي المواقف والمخاطبات للأمام النفري "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"7، والرؤيا هنا الرؤيا القلبية في مقام الشهود؛ إذ إن القلب يرى بنور الله عند المتصوفة. والغرق عند الصوفية هو اكتمال الاندماج في الحال كما في مشهد البحر وهو حالة مستحسنة يقول النفري: "نظرت إلى البحر فإذا المراكب تغرق وإذا الألواح تسلم"8، وفي عامية أهل السودان يسمون صاحب الجذب (الغرقان)، وفي قصة أخرى.. "العصفورة التي أحبت خيال المآتة كانت غبية بما يكفي لتصدق أنه لن يشي بها لمزارع الظهيرة الغاضب"9. وهنا يأتي السؤال الأبرز هل إسلام المحب للحبيب نفسه غفلة؟! وهل الغفلة حين الوقوع في الحب تنتقص من مقدار المحبوب؟! وهل الحب غربة عن الحال الحاضر كما جاء في الأثر طوبى للغرباء، فالصادق وسط دنيا مليئة بالأكاذيب غريب، والكذاب وسط الصادقين غريب، وبهذه النسبية صدقت العصفورة خيال المآتة وسلّمته قلبها.

نستطيع القول إجمالاً أن مجموعة (ساعي السعادة) لصالحة عبيد جعلت معظم انشغالها بالجوهر الإنساني بكل تجلياته.. أحوال قلبه الظاهرة والمخفية، أحلامه، انكساراته، هزائمه وأشواقه لتقدم لنا أنشودة سردية بالغة الغنى والتنوع عن فسيفساء النفس البشرية، وصحائف روح الإنسان إرثه وتجاربه، ماضيه وحاضره، وتطلعه للمستقبل.

 


المصادر والإشارات:
1. صالحة عبيد، "ساعي السعادة" – مجموعة قصصية / دار كتاب للنشر والتوزيع؛ طبعة ثانية 2013 م – ص: 26.2. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 51.3. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 79.4. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 17.5. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 29.6. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 13.7. - 8. انظر مثلاً (المواقف والمخاطبات) عبد الجبار النفري، وفصوص الحكم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي / موقف البحر، وأوقفني عند موقف البحر وقال: انظر إلى السفن كيف تغرق وإلى الألواح كيف تسلم، انظر مثلاً ابن عربي "لقد صار قلبي قابلاً كل صورة".9. "ساعي السعادة" مصدر سابق، ص: 41.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها