صانع البهجة

محمود محمد القليني


أفترش الأرض أمام باب البيت في حارتنا الضيقة الغافية في هذا الوقت من الضحى الربيعي، أعبث بأصابعي في التراب الناعم، وأرسم أشكالًا لكائنات خرافية لم أرها إلا في أحلامي، أو في قطع السحاب الأبيض الذي يتشكل ويتكون على صفحة السماء الزرقاء، وبين الحين والآخر أتطلع إلى النوافذ الخشبية المتداعية المتكئة على الجدران المتصدعة التي تئن تحت وقع السنين، والأبواب الهرمة التي تتثاءَبُ وتصدرُ حشرجة متقطعة؛ وكأنها تُريد أن تغفو غفوة أبدية لا يوقظها منها أحدٌ.

الكلب العجوز يقطع الحارة طولًا وعرضاً يتشمم كل ما يمر به، ثم يقف أمام جدار عار يرفع رجله الخلفية.. يرمقني بتحفظٍ محركاً ذيله حركات غريبة، ثم يواصل رحلته الضّحوية، ولم ينسَ أن يرفع عقيرته ويطلق نُباحاً أحمق في الهواء، وكانت تشاركني في مراقبته تلك الهرة اللعوب التي تتمسح على كل من تقابله أو يقابلها، وقفتْ تقوس ظهرها لتبدأ تلك المعركة اليومية بينها وبين الكلب، إلا أنه نظر إليها حذراً ثم واصل جولته. تقفزُ من أمامي وحولي العصافير الماكرة الخبيثة، التي فشلتُ رغم كل محاولاتي المضنية المتواصلة أن أصطاد أيّاً منها (بالفخ) الصدئ الذي قمت بنصبه مرات ومرات في "الخرابة" المجاورة للحارة، ووضعتُ عليه الكثير من حبات الأرز والقمح بعد أن أخفيتُ الفخ بالتراب، ونصحني بعض الرفاق أن أضع دُوداً بدلًا من الأرز والقمح، فالعصافير –على حد علمه– مغرمة بالدود أكثر من غرامها بالقمح والأرز، ولكن كل هذا لم ينجح، فلا شك أن العصافير كانت مطلعة على كل ما أحاوله، ربما كانت تراقبني من علٍ، أو أنها كانت أكثر مني ذكاء فلم تقع فيما نصبتُه لها من فخاخ، ونصحني أحد الرفاق أن أجرب (النبلة)، ولكنها فشلتْ فيما فشل فيه الفخ، وكلما رأيتُها تثب أمامي فرحة جذلة، وكأنها تغيظني أشعر بالخيبة والحسرة، وأكتفي بمتعة المراقبة والمتابعة لها، وفجأة تنبهتُ إلى شيء أقلقني وأفزعني، أين الرفاق؟ أين ذهبوا؟ فإني لا أرى أيا منهم، أيمكن أن يكونوا ذهبوا إلى مكان ما وتركوني؟! كل الألعاب لا يلعبونها بدوني، فلماذا تركوني وحيداً منبوذاً؟ أنظر هنا وهناك.. لا صوت ولا حركة، أكاد أبكي، ضاقتْ الحارة وأظلمتْ وتجهمتْ في وجهي، حتى الكلب والهرة والعصافير، لا أجد سواي في الحارة، وفجأة ارتجتْ الحارةُ بصياحهم وصرخاتهم وضحكاتهم، رأيتهم يندفعون من باب بيت عم (دسوقي العطار)، يثبون ويتقافزون في الهواء ويطلقون صيحاتهم الهستيرية، يقلدون الطيور والحيوانات بحركاتها وأصواتها، أيديهم مرفوعة إلى أعلى وبها البيض الملون المبهج، ونثار الألوان على أيديهم وملابسهم ووجوههم، طرتُ إليهم، أسرعوا إلي، وأحاطوا بي، كل منهم يعرض علي ما يحمله من بيض ملون، ونظراتي تتقافز من بيضة لبيضة أو من لون للون، أمد أصابعي لألمس البيض إلا أنهم ابتعدوا بما يحملونه عني، ووكزني أحدهم وقال بحروف مبططة ومتآكلة ومعوجة وغير مفهومة: (لوح هات بيضك، وعند عم دسوكي، عنده كل الألوان الجميلة، بسرعة قبل الألوان ما تخلص).

أسرعتُ إلى البيت وحملتُ ما قدرتُ عليه من بيض، وعدت أصعد درجات السلم الخشبي المتداعي أتحسس طريقي وسط الظلام محتضنًا البيض بحرص وخوف وشفقة، وجدتُ باب عم دسوقي مفتوحاً، الأبواب هنا في الحارة مفتوحة دائماً مثل قلوب أهلها، استقبلني عم (دسوقي) بابتسامته المشرقة الحنونة، وسألني بصوته العذب الرقيق المعتاد من كل رجال الحارة للأطفال: "أنت ابن مين يا ولد"؟ لم أنتبه لسؤاله، فقد سرقتْ وسلبتْ أنظاري وانتباهي كلُّ تلك الألوان الموضوعة في علب صغيرة أمامه على الأرض، ركّزتُ على ركبتي وأنا أطلق صيحة إعجاب ذاهلًا عما حولي:
- كل تلك الألوان!!

مد يده وتناول البيض الأبيض من يدي وأخذ يغمس بيضة في إناء ويخرجها بلون بهيج فاتن للبصر، وحينما أردتُ أن آخذها، لم يناولها لي ووضعها على قطعة قماش بجواره لتجف، فعل ذلك مع بقية البيض، الأحمر الأزرق الأصفر الأخضر، يا الله! ما هذا الجمال؟ أمعقول هذا هو البيض الذي أتيت به؟ وحينما رآني عم (دسوقي) بهذا الذهول والانبهار، تناول بيضة من البيض الملون وغمسها في إناء وأخرجها فإذا هي بلون جديد لم أرهُ من قبل، وأخذ يفعل ذلك مع بقية البيض، وكأنه ساحر عبقري، يفتن في صنع بهجة العين، كنتُ مأخوذاً بتتبع يده، والألوان والبيض، لم يدر أنه يشقق في صدري مسالك للبهجة والسعادة، ويفجر في نفسي مدارك وتذوق الجمال، ويوقظ في عقلي أماكن لتلمس الحسن والبهاء، حملتُ كل البيض وخرجتُ إلى الحارة، لم يعد البيض هو الملون، بل كل شيء الأرض والسماء، والفضاء، ملابس الرفاق ووجوههم والنوافذ والأبواب والجدران، وأعواد الحطب والقش المتدلية من أسطح البيوت في دعة واسترخاء، والكلب والهرة، والدجاج وأوز الحارة، كل شيء يتألق في الألوان وبالألوان، وسط فرح بالكاد تستطيع قلوبنا الضعيفة الهشة أن تتحمله، وعقولنا الساذجة البريئة أن تستوعبه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها