بقلم: ماثيو ويلسون

عرضت لوحات بول سيزان Paul Cézanne طريقة جديدة وجذرية للرؤية، حيث تبرز خمسة أعمال منها في معرض أقيم في لندن عن عدد من التقنيات التي اكتشفها العلماء حديثاً.
يقدم معرض جديد عن بول سيزان في رواق الفن الحديث Tate Modern في لندن فنانًا كشف النقاب عن حقائق غريبة حول الإدراك البشري، فقد أذهلت لوحات سيزان معاصريه. ويبدو أن هذه اللوحات تقدم طريقة جديدة وجذرية للرؤية، على الرغم من أنه لا يمكن لأحد أن يشرح كيف تم ذلك بالضبط.
ففي سنة 1881، تساءل بول غوغان مازحاً حول كيفية استخلاص أساليب سيزان الغامضة، وأصدر تعليماته إلى كاميل بيسارو بأن "يزوده بأحد مكونات هذه الوصفة الغامضة، وأن يعود مباشرة إلى باريس لمشاركة المعلومات". أما الرسام والناقد موريس دينيس فقد عبّر عن شعوره بالحيرة بشأن ثورة سيزان في التمثيل المرئي، حيث كتب في سنة 1912: "لم أسمع أبداً أي معجب أعطاني وصفاً واضحاً ودقيقاً لسر إعجابه بأعمال هذا الفنان".

لقد استحوذت الطبيعة الدقيقة لإنجازات سيزان على العديد من مؤرخي الفن والفلاسفة على مر السنين. بَيْدَ أنه يمكننا العثور على تفسير عميق في مجال العلوم. فقد أثبتت اكتشافات علماء الأعصاب والفلاسفة وعلماء النفس، أن أساليب سيزان لها تشابه غريب مع المعالجة البصرية للعقل البشري، لقد أحدثت أعماله ضجة قلبت قرونًا من النظريات حول كيفية عمل العين من خلال تصوير عالم دائم الحركة، يتأثر بمرور الوقت، ومليء بذكريات الفنان وعواطفه. استغرقت رؤى سيزان في الإدراك البشري عمراً من التجارب البطيئة. فعلى سبيل المثال، تُظهر لوحة (وعاء السكر والكوب الأزرق والكمثرى - (1865، سيزان وهو يرى ويرسم بطريقة تقليدية نسبيًا. وبصرف النظر عن التعامل الأكثر قسوة مع الطلاء، فهو قريب من المشاهد التقليدية مثل نمط الحياة الساكنة لهارمن ستينويك في عصر الباروك: (قصة غرور الحياة البشرية) التي تعود إلى سنة 1640.
في تلك المرحلة، كان اعتقاد سيزان، المدعوم بقرون من النظرية العلمية، أن العين تشبه الكاميرا تماماً: بوابة لتدفق الحقيقة المرئية التي تبني بانوراما مفصلة لبيئتنا المرئية. تم تغليف هذه النظرة الفلسفية في رسم تخطيطي (تم إجراؤه في نفس الوقت تقريباً مع لوحة ستينويك) في مقال ديكارت سنة 1637 عن قانون الانكسار، إنه يُظهر للعين تلقي صورة لقطة من العالم الخارجي، والتي يفهمها الدماغ بشكل لا لبس فيه.

يبدو أن الكاميرا المظلمة، وهي جهاز يلقي إسقاطات عالية التركيز في صندوق مغلق، تم تحسينه في القرنين السادس عشر والسابع عشر، مما يؤكد أن هذه هي الطريقة التي يعمل بها الإدراك. لكن بحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ سيزان في التشكيك في هذا الافتراض. في الحياة الساكنة (طَبَقُ فواكه) (1879-80)، تظهر حافة الزجاج المملوء بالماء في منظور مشوه، وتظهر الخلفية أمام طبق الفاكهة (حيث الطلاء أكثر كثافة)، كما يبدو مفرش المائدة الأبيض، وكأنه معلق في الفضاء وليس ملفوفًا بشكل واقعي على حافة الطاولة. يوضح لنا سيزان أنه لا يريد أن يرى المشهد من زاوية واحدة متسقة، لكنه تبنى نظرة متجولة، مركزاً على كل عنصر في وقت واحد، بحيث يمكننا عند تجميعها معًا رؤية التناقضات، وهذه إحدى الطرق التي يتناغم بها نهج سيزان مع ما نعرفه الآن عن المعالجة البصرية للإنسان. وعلى الرغم من أننا نادراً ما ندرك ذلك، فإن أعيننا لا تكون ثابتة عندما ننظر، ولكنها تقوم بحركات اندفاع ضئيلة (تُعرف باسم "حركة العين الرمشية") بين مناطق الاهتمام البصري. يتوافق عرض سيزان المجزأ مع حركة العين الرمشية، فقد تم استخدام هذا المصطلح لأول مرة من قبل إميل جافال بعد أن اكتشف هذه الظاهرة في نفس الوقت تقريباً الذي تم فيه رسم (الحياة الساكنة طبق فواكه) 1878.
وفقًا للمؤلف والشاعر يواكيم جاسكيه الذي زار سيزان في سنة 1897، كان الفنان يقضي حوالي عشرين دقيقة محدقًا بشكل ثابت في مناطق معزولة من مكونات عمله أثناء الرسم. تُظهر لنا الأعمال الفنية مثل (زوجة الفنان على الكرسي الأصفر) (1888-90) و(الحياة الساكنة طبق فواكه) الشذوذ البصري الذي ينتج عن هذا الفحص، والذي يرتبط بتشريح العين البشرية وعملية حركة العين الرمشية.
توجد في مركز شبكية العين (المنطقة الموجودة في الجزء الخلفي من العين) مجموعة صغيرة ومكتظة بإحكام من المخاريط الحساسة التي يمكنها إدراك اللون، حولها "قضبان" يمكنها فقط التقاط الضوء والظلام. لذلك، يمكن للعين فقط أن تدرك اللون في نطاق ضئيل للغاية - وبشكل فعال فقط ببضع درجات حول المكان الذي ننظر فيه مباشرة. وبينما تقوم العين بحركة الرمشية المتعددة، يقوم العقل بربطها معًا بشكل دائم، معالجاً المعلومات المتناثرة لخلق وهم حقيقة متسقة وشبيهة بالصور. قد يبدو هذا غير منطقي، لكن يمكن إثباته؛ فإذا قمت بتثبيت عينك على بقعة واحدة لفترة طويلة، فإن رؤيتك المحيطية تبدأ في التلاشي - وهي ظاهرة تُعرف باسم "تلاشي تروكسلر Troxler’s Fading".

نظرة ثابتة
وفقًا للبروفيسور بول سميث من جامعة وارويك؛ فإن طريقة سيزان في النظر باهتمام شديد إلى مواضيعه تسببت في حدوث شذوذ بصري. يبدو أن الجالسين في صوره مثل (زوجة الفنان على الكرسي الأصفر) لديهم وجوه تشبه الأقنعة؛ لأنه ركز على مناطق صغيرة من تفاصيل الوجه، ولم يسمح لعقله بالنظر إلى الوجه بشكل شامل. في (الحياة الساكنة - التفاح ووعاء زهرة الربيع)، (حوالي سنة 1890)، لا تحتوي الورقة الموجودة على الجانب الأيمن على ساقٍ، مما يشير إلى أن التثبيت البصري غير المنقطع في المنطقة قد أدى إلى تلاشي تروكسلر. إن حقيقة احتفاظه عن عمد بأخطاء في لوحاته الأخيرة لا يعني أن سيزان كان مهملاً، بل على العكس من ذلك، فوفقًا لناتاليا سيدلينا، أمينة معرض الفن الحديث، كانت لوحات سيزان مدروسة وجيدة القراءة. تقول: "قام سيزان بترجمة المخطوطات اللاتينية من أجل المتعة، وكان صديقاً لبعض كبار العلماء في مجالات متعددة مثل العلوم الطبيعية والجيولوجيا والبصريات".
كان اختراع التصوير الفوتوغرافي أحد أبرز التطورات في العلوم والبصريات في حياة سيزان. نحن نعلم أن سيزان كان يمتلك صوراً بل ونسخها، لكن الكاميرات المبكرة مثل داجيروتايب (الذي اخترعه لويس داجير وقُدم للجمهور سنة 1839)، وكالوتايب (الذي اخترعه هنري فوكس تالبوت وقُدم سنة 1841) كرر المنظور القديم "للعين" الثابتة كما تصورها ديكارت. لقد كانت خيبة أمل للعديد من رسامي القرن التاسع عشر، بما في ذلك سيزان؛ لأنهم نقلوا بديلًا رديئاً ونزيهاً للعالم يُرى من خلال عيون البشر.
استكشف سيزان في (الحياة الساكنة مع الجص كيوبيد) (1894) سحر الإدراك البشري وغرابته إلى أبعد من ذلك. إن الفضاء في مشهد (أليس في بلاد العجائب) ليس له معنى منطقيا: أرضية الاستوديو، التي تم تصويرها على الجانب الأيمن، بها ميل إلى الأعلى وكأنها في حالة سُكْر، والتفاحة الموجودة على الحافة البعيدة للغرفة بنفس حجم تلك التي على الطبق في المقدمة. وإذا أمعنت النظر، ستلاحظ أيضاً أن سيزان رسم تمثاله الصغير من زوايا مختلفة - قدمه تواجهنا وجها لوجه، لكن يبدو أن وركيه ينحرفان بزاوية 90 درجة، كما لو كانت تُرى من عدة وجهات نظر في وقت واحد. تمنحنا لوحة الحياة الساكنة التقليدية لستينويجك، وصورة داجير لحظة جامدة في الوقت المناسب. لكن وجهة النظر هذه للواقع لا تتوافق مع التجربة المجسدة. يخبرنا سيزان أنه لا يوجد شيء مثل الحاضر، فقط تدفق مستمر بين الماضي والمستقبل. لقد أصبحت الطريقة التي نختبر بها الوقت موضوعاً رئيسياً في الفلسفة المؤثرة لهنري بيرجسون، وفي أدب القرن العشرين، لا سيما تقنية تيار الوعي التي استخدمها إليوت، وجيمس جويس، وفيرجينيا وولف.
لقد كان لسيزان تأثير مباشر على تطوير التكعيبية، مما ألهم بابلو بيكاسو وجورج براك لدمج بُعد الوقت في أعمالهما من خلال تصوير مناظر متزامنة في تكوين واحد. ففي المناظر الطبيعية مثل مونت سانت فيكتوار (1902)، استكشف سيزان كيف أن الواقع هو بناء للعقل وليس للعين. إنه نهج يتوافق مع عمل علماء القرن التاسع عشر مثل الطبيب الألماني هيرمان فون هيلمهولتز وطبيب الأعصاب الإنجليزي دودز اللذين أظهرا أن الرؤية ليست بصرية بحتة، ولكنها متأثرة بذاكرتنا وشهيتنا وحواسنا من الشم واللمس والذوق. إن معرفة سيزان العميقة بالمناظر الطبيعية المحيطة بمونت سانت فيكتوار - بتضاريسها الممتلئة، والتغيرات السنوية في الألوان، ووجهات النظر المختلفة على الجبل نفسه التي تشير إليها الخطوط العريضة الزرقاء المتعددة لمظهره- قد تغلغلت في وسائل تمثيله. لذلك، كان إنجاز سيزان هو استخدام الرسم لفحص الإدراك البشري بأمانة وفضول غير مسبوقين. لخصت ناتاليا سيدلينا ذلك بقولها: "كان سيزان قاطرة الحركات الفنية الحداثية للقرن العشرين"، "لقد وضع الأسئلة في صميم ما كان يفعله، ووضع العملية قبل النتيجة". وبذلك أزاح المفهوم التقليدي للعين على أنها "كاميرا" سلبية، واستبدلها بنظر أكثر دقة للإدراك باعتباره غير معصوم، ومتحرك، وارتجالي، وقائم على الوقت ومتجسد دائما بطبيعته. وكلما اكتشفنا المزيد حول كيفية تفاعل العين مع الوعي البشري، كلما أصبح فن سيزان الاستقصائي والمتشكك منطقياً. ربما لهذا السبب استمر في كونه شخصية مقنعة في تاريخ الفن.