لم تعد المعركة من أجل فلسطين مقتصرة على ساحات الميدان أو دهاليز السياسة، بل امتدت إلى أبعاد ثقافية ومعرفية تستهدف الوعي الجمعي والذاكرة العالمية، خاصة لدى الأجيال الشابة. فقد أصبحت القضية الفلسطينية اليوم جزءًا من صراع أوسع يتجاوز الحقوق الوطنية ليشمل مفهوم الحق والعدالة في وجدان الإنسانية. تتضافر جهود علنية وخفية، مباشرة وغير مباشرة، لطمس معالم القضية وتحويلها من قضية شعبية عادلة إلى حدث عابر أو ملف تاريخي باهت. تسعى هذه الحرب إلى تشويه الذاكرة الفلسطينية لدى الأجيال الجديدة، وتحويل فلسطين من رمز للثبات والمقاومة إلى مسألة قابلة للنسيان، حيث يضيع جوهر القضية في غياهب التلاعب السياسي والإعلامي.
أدوات وأساليب الحرب على الذاكرة الفلسطينية
تتعدد الأدوات والأساليب المستخدمة في الحرب الباردة على الذاكرة الفلسطينية، وقد اكتسبت هذه الحرب أبعادًا جديدة بفعل التحولات الرقمية التي غيّرت معالم المشهد الإعلامي المعاصر. ففي الماضي، كان الصراع مقتصرًا على ساحات المعركة ووسائل الإعلام التقليدية، أما اليوم فقد أصبح أكثر تعقيدًا بفضل انخراط وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي، مما جعل الحرب على الذاكرة أكثر خطورة من أي وقت مضى.
من أبرز أدوات هذا الصراع، التجاهل الممنهج من قبل وسائل الإعلام الغربية المهيمنة، حيث يتم تهميش التغطية الإعلامية الخاصة بفلسطين أو تقديمها في سياقات مجتزأة ومنحازة. وعادة ما تركز هذه الوسائل على مظاهر العنف المادي، متجاهلة جذور هذا العنف المتمثلة في الاحتلال طويل الأمد والسياسات القمعية الممارسة ضد الفلسطينيين. وفي هذا السياق، يتم اختزال القضية الفلسطينية في أرقام وإحصائيات، وتُقدّم كإشكالية أمنية لا كقضية عدالة وحقوق، في غياب شبه تام للرواية الفلسطينية الأصلية.
التشويه الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي
في السنوات الأخيرة، أصبح التشويه الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي أحد أبرز الأساليب المستخدمة لتشويه القضية الفلسطينية. فقد تحولت هذه الفضاءات، التي كانت في البداية تُعتبر أدوات للحراك السياسي والاجتماعي، إلى ساحة لتبادل الأكاذيب والصور المشوهة عن فلسطين. يتم عبر هذه المنصات نشر روايات مضللة وتصوير الفلسطينيين على أنهم المعتدون أو الرافضون للسلام، في استغلال واضح لقدرة هذه الوسائل على التأثير السريع والعميق في وعي المستخدمين، خاصة الشباب.
لكن الأكثر خطورة في هذه المعركة الرقمية هو تأثير الخوارزميات المتحيزة، التي تلعب دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل الواقع الذي يعيشه الشباب وتوجيه رؤيتهم الجماعية. تعمل هذه الخوارزميات وفقًا لمعايير تجارية وسياسية، مما يساهم في تعزيز سرديات معينة على حساب سردية فلسطين. فعلى سبيل المثال، يتم تفضيل المحتوى الذي يتماشى مع سياسات الشركات الكبرى أو مع أجندات سياسية قد تساهم في ترسيخ الهيمنة أو دعم الاحتلال. بهذه الطريقة، يتم تهميش المحتوى الفلسطيني والحقائق المتعلقة بالقضية، مما يجعل صوت فلسطين خافتًا وسط صخب المعلومات المضللة ويصعب على الشباب الوصول إلى الحقيقة كاملة. إن هذا التحيز الرقمي ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو جزء من سياسة أوسع تهدف إلى تهميش الأصوات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين.
دور الشركات الكبرى في التواطؤ التقني
في هذا السياق الرقمي، لا يمكن تجاهل تواطؤ بعض الشركات التكنولوجية الكبرى التي توفر دعمًا تقنيًا أو بنية تحتية قد تُستخدم لخدمة مصالح الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر. فقد كشفت تقارير موثقة عن دور شركات مثل مايكروسوفت في تقديم أدوات وبرمجيات يُمكن توظيفها لدعم الهيمنة الرقمية للكيان الإسرائيلي، مما يعزز رقابة الاحتلال على المحتوى الفلسطيني على الإنترنت. تساهم هذه الشركات بشكل غير مباشر عبر تقنيات متقدمة مثل الخوارزميات المتحيزة وأنظمة مراقبة البيانات في تقليص حرية التعبير الفلسطينية. وبالتالي، فإن هذا التواطؤ التكنولوجي لا يقتصر على مجرد دعم للأدوات الرقمية، بل يمتد ليشمل تأثيرًا طويل الأمد على قدرة الفلسطينيين على إيصال أصواتهم للعالم، مما يُسهم في تهميش القضية الفلسطينية على الساحة العالمية.
الأقلام المأجورة وتشويه الحقائق
في الوقت نفسه، تلعب الأقلام المأجورة الناشطة في الفضاء الرقمي والإعلامي دورًا خطيرًا في نشر الأكاذيب وتشويه الحقائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية. إذ تعمل هذه الأقلام، التي تُسَيَّرُ وفق أجندات مدفوعة، على تضليل الرأي العام العالمي وتغذية مشاعر الكراهية تجاه الفلسطينيين. يُساهم هؤلاء الكُتّاب والمروجون في تصوير الفلسطينيين كأطراف ذات أجندات سياسية ضيقة أو متورطين في العنف، بدلاً من تقديمهم كضحايا لصراع طويل ومعقد من أجل حقوق مشروعة. لا يقتصر هذا التشويه الممنهج على قلب الحقائق فقط، بل يُسهم أيضًا في خلق فوضى معلوماتية تُعيق الفهم الصحيح للقضية الفلسطينية، مما يجعل الوصول إلى الحقيقة أمرًا صعبًا ويعزز السرديات المضللة التي تشوه الصورة الحقيقية للصراع.
الهجوم الداخلي: محاولات فصل الجيل العربي عن القضية الفلسطينية
لا تقتصر محاولات طمس القضية الفلسطينية على التشويه الخارجي فحسب، بل تمتد أيضًا إلى بعض السياسات والممارسات الثقافية والإعلامية داخل المجتمعات العربية نفسها. تهدف هذه المحاولات إلى فصل الجيل العربي الجديد عن القضية الفلسطينية، من خلال تقليص حضورها في الفضاء العام والمناهج التعليمية، وتحويلها إلى مجرد شأن سياسي أو نزاع جغرافي عابر.
يظهر هذا الانفصال في غياب فلسطين عن المناهج الدراسية أو في تقديمها بشكل سطحي، مما يؤدي إلى تكوّن جيل عربي يفتقر إلى المعرفة العميقة بجذور القضية الفلسطينية، ولا يشعر بالارتباط الوجداني بها كما كان الحال مع الأجيال السابقة. بالإضافة إلى ذلك، يتم ترويج ثقافة الاستهلاك والترفيه المفرط على حساب القضايا الكبرى، مما يُسهم في ترسيخ شعور زائف بأن فلسطين لم تعد ذات أهمية في الوعي الجمعي العربي، وكأنها أصبحت عبئًا تاريخيًا بدلًا من أن تظل رمزًا للوحدة والكرامة.
غياب القدوات والشخصيات المؤثرة في العالم العربي
من العوامل التي ساهمت في تباعد الشباب العربي عن القضية الفلسطينية، يأتي غياب الشخصيات القدوة التي كانت في السابق تجسد قيم النضال والتحرر والمقاومة. ففي حين كانت الأجيال السابقة تجد في شخصيات مثل غسان كنفاني، ناجي العلي، أو حتى الزعماء السياسيين، رموزًا تلهم وعيهم وتوجههم في الدفاع عن فلسطين، أصبح الجيل الحالي يواجه فراغًا رمزيًا كبيرًا.
لقد أتاح هذا الغياب الفرصة لبروز مؤثرين رقميين، الذين لا يحملون بالضرورة قضية أو رسالة واضحة، بل قد يساهم بعضهم في تبني خطاب اللامبالاة أو حتى التطبيع غير المباشر من خلال محتوى يركز على الفردانية المطلقة والمنفعة الشخصية، على حساب الحس الجمعي والالتزام السياسي. إن غياب هذه الرموز المرجعية يجعل من الصعب على الشباب العربي أن يجدوا في المشهد العام ما يلهمهم للارتباط العاطفي والمعرفي بالقضية الفلسطينية.
مقاومة الشباب العربي للقضية الفلسطينية عبر الأدوات الرقمية
رغم حجم التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية، فإن محاولات طمسها في وعي وذاكرة الأجيال المعاصرة تصطدم بمقاومة متجددة وصلبة، يقودها الشباب العربي والعالمي الذين يرفضون الرواية الأحادية ويسعون بكافة الوسائل لكشف الحقائق. فقد أثبت هؤلاء الشباب قدرتهم على استغلال الأدوات الرقمية بشكل مبتكر وفعّال في الدفاع عن القضية الفلسطينية. على سبيل المثال، شهدنا حملات واسعة النطاق على منصات مثل تويتر وإنستغرام وفيسبوك وتيك توك، حيث يتم تداول صور ومقاطع فيديو وشهادات حية توثق الانتهاكات الإسرائيلية وتُذكّر بالتاريخ الفلسطيني. هاشتاغات مثل #FreePalestine و#SaveSheikhJarrah و#GazaUnderAttack انتشرت عالميًا، وكَسَرت حاجز التعتيم الإعلامي التقليدي، ووصَلت إلى ملايين المستخدمين.
بالإضافة إلى ذلك، نظّم الشباب "تحديات" و"حملات تفاعلية" تهدف إلى نشر الوعي بالقضية الفلسطينية بطرق إبداعية وجذابة. على سبيل المثال، انتشرت تحديات فنية تُعرض رسومات وكتابات وشعرًا يعبر عن التضامن مع فلسطين. كما تم استخدام البث المباشر والمقابلات مع ناشطين وصحفيين فلسطينيين لنقل الصورة الحقيقية للأحداث على الأرض.
وبرزت أيضًا مبادرات شبابية لإنشاء محتوى رقمي بديل يُقدّم رواية فلسطينية أصيلة وموثقة بعيدًا عن التشويه والتحريف، من خلال إنشاء مدونات وقنوات يوتيوب وبودكاست تقدّم تحليلات معمقة وتاريخًا موثَّقًا للقضية، مستهدفةً بشكل خاص الجمهور الشاب.
علاوة على ذلك، لعب الشباب دورًا محوريًا في تنظيم فعاليات واحتجاجات رقمية، مثل العرائض الإلكترونية وحملات المقاطعة الرقمية للمنتجات والشركات الداعمة للاحتلال. وغالبًا ما تتكامل هذه الأنشطة الرقمية مع فعاليات على أرض الواقع، مما يعزز تأثيرها ويوسّع نطاق المشاركة. هذه الأمثلة تجسد كيفية استخدام الشباب العربي لأدوات العصر الرقمي ليس فقط لمقاومة الطمس، بل أيضًا لإعادة إحياء الذاكرة الفلسطينية ونشرها على أوسع نطاق.
الدور الجماعي في إحياء الذاكرة الفلسطينية
إن إحياء الذاكرة الفلسطينية ومواجهة التضليل الرقمي يتطلب تضافر جهود جميع الفئات المعنية بالقضية الفلسطينية، بدءًا من الأهل والمؤسسات التعليمية والثقافية، وصولًا إلى الإعلاميين والمثقفين والناشطين الرقميين. يجب أن تُوفَّر للأجيال الجديدة الأدوات المعرفية والثقافية التي تُساعد على فهم جذور القضية الفلسطينية بشكل عميق، وتحميهم من التضليل الذي تُمارسه الخوارزميات المتحيزة والمعلومات المغلوطة. يجب أن يُعلَّموا كيفية التمييز بين الحقيقة والزيف، مع تعزيز شعور الانتماء والتفاني في الدفاع عن حقوق فلسطين.
✧ معركة الوعي ✧
في الختام، تظل معركة الوعي هي المعركة الأكثر شراسة واستدامة في مواجهة محاولات طمس القضية الفلسطينية في ذاكرة الأجيال الحالية. إن استهداف الذاكرة الفلسطينية وتحويل القضية إلى مسألة هامشية هو هدف استراتيجي للمحتل ومن يدعمه، ولكن الإرادة الثابتة للأجيال الشابة والأدوات الرقمية التي يمتلكونها ستكون السد المنيع الذي يحول دون تحقيق هذا الهدف. ستظل فلسطين حية في قلوب وعقول الشباب اليوم، وستظل بوصلتهم نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنصافاً.