ما تيسر من أسفار التّيه

هاني بكري


 سفر الهبوط 

دخل الحانة لأول مرة منذ جاء للبلدة، استقبله نادلها بتوجس، رش سطل الماء حتى يوقف هيجان التراب الذي تخلفه ريح الخماسين، أفرغ ما تبقى من دلوه والتفت إليه؛ الحانة لا تقدم سوى كؤوس الشاي والقهوة.

طال وقوف النادل أمامه دون أن يطلب شيئاً، تركه بجوار الجندي الواجم ومضى، شخص كهذا؛ لا بد أنه يتناول مشروبات أخرى لا تعرفها البلدة، التي هبط عليها كالقدر ذات ظهيرة حارة تتقدمه الهررة السوداء والغبار. توقف قطار البضائع المتلوي كثعبان في الصحراء، نزل منه، ودلف إلى مركز المدينة كمن يعرفها، ظنوا في البداية أنه نزل سهواً؛ في الأيام التالية تأكدوا أن نزوله لم يكن سهواً، مضى بيقين إلى التل الذي لا يبخل عليهم بهبات التراب البركاني الأسود، وبقدرية من يعرف المكان ظل يعمل بلا كلل، أخرج أدواته من الجراب الكبير الذي يحمله على ظهره، قطع الأخشاب من الأشجار القليلة المتناثرة في فضاء الصحراء، شذبها ودقها في الأرض، كسا الأوتاد خشباً، صنع غرفة فسيحة تصلح للمعيشة، وغرفتان صغيرتان أحاطهما بسياج. زرع بفناء المنزل أشجاراً لفواكه استوائية، نمت حديقة؛ كبرت واستطالت في وقت قياسي، فحجبت البيت وصاحبه عن الناس.

لم يجرؤ أحد على معرفة من هو، ربما كان وكيلًا متخفياً للسلطة، سرت هذه الإشاعة، لذا لم يكن غريباً أن يرفع الناس أصواتهم بمدح السلطة الحكيمة كلما مر أمامهم.

 الطحان أوقفه أثناء سيره، مغبراً بعادم غلال الماكينة القديمة، طلب منه متشفعاً أن يرسل المسئولون إليهم ماتورا جديداً بدل المتهالك، تعب في إصلاحه بلا جدوى، ومالك الطاحونة متكاسل يرفض تصليحها، زُهداً فيما تدره من دخل.

ابتسم بهدوء. عند غروب شمس اليوم التالي كان عند وابور الطحين، بالإشارة أمر العامل بإضاءة مصابيح الزيت الليلية.. طوال الليل يفك المحرك قطعة قطعة، يمسحه بالزيت والشحم، يعيد التركيب، يدير الماكينة، يسمع خشخة، يعيد الكرة، قبيل الفجر أدارها فدارت بلا صوت. في الصباح كان العامل يقص على الناس في الحانة كيف فعلها؛ عادت أفضل مما كانت عليه وهي جديدة.

العجوز القاعية كقطعة حجر تسند جدران الحانة المتهالكة.. انتصبت واقفة، قطعت الشارع الرئيس لهثاً، صعدت التل، دقت بابه، جالت ببصرها في أنحاء البيت المعتم فلم ترَ شيئاً غريباً، هوت على يديه تقبلها وبكت، سحب يده بهدوء وأجلسها. سيدي، كل الذين ذهبوا إلى الحرب عادوا في توابيت، أو جرحى مبتوري الأطراف يقتاتون من معاش السلطة الهزيل، ويقضون أوقات فراغهم متسكعين في دروب المدينة، بينما من لا يزال على قيد الحياة يرسل من الجبهة خطابات لأهله باستمرار، أين ولدي؟

ابتسم في حزن جليل... في غبشة الصباح أفاقوا على جندي يرفل في أثماله البالية كهيكل عظمي، قطع المسافة بين محطة قطار البضائع، ومركز القرية كشحاذ تائه... لثلاث ليال ترقص الجموع في الساحة التي أضيئت فوانيسها الشحيحة ابتهاجاً بعودته، تعطرت العجوز، ولبست لباس عرسها القديم. لثلاث ليال في منتصف الدائرة ترقص كفتاة في هزة الصبا، يتابعها ابنها بشرود.

في اليوم الرابع ماتت، حملها إلى قبرها.

دفنها واستدار إلى الحانة، جلس مع رفاقه العائدين محدقاً في الفراغ السحيق اللامتناهي أمامه.
 

✧ سفر الجدب 

أجدب نخل الحقول. مَلحت الأرض وأخرجت وسخ أسباخها، شح الزرع، ماتت البهائم في السفوح، احتجبت الشمس وراء غيوم سوداء ثقال كثيفة لا تلقي مطراً. بهتت الوجوه الجائعة، وازدات شحوباً على شحوبها، ركدت البلدة وتعفنت وتقيأت ناسها.

اشتد الأمر فتجمعوا في الحانة، جلسوا في دائرة، الأكبر سناً في منتصفها، تحلق الآخرون على الأطراف، انزوت النسوة في الأركان مستمعات في صمت... لا سماء استجابت لصلاة، ولا حكومة لبت استغاثة، تذاكروا حكايات الأسلاف عن زمن الجدب العظيم، أكلوا الكلاب والقطط والجيف. لكن؛ هذا زمن ولى. اليوم صار لهم سلطة يشارك تحت رايتها شبابهم في حروبها.. لا بد أن تغيثهم.. هكذا خطب فيهم (الأسن). كيف يجوعون وهناك مندوب لها يسكن في أعلى التل؟ صحيح هو غامض لا يتكلم، لكن متى تكلم هؤلاء؟ هكذا حسم "الأسن" كلام المرتابين في أمر الغريب.. نصعد له.

نوبة من حماس ساذج سرت، خرجوا من الحانة، يتقدمهم "الأسن" بهمة شاب. عند منتصف الطريق تحجج الكبار بالمرض الذي يمنعهم من الصعود، تقدم الركب الذي صار يتناقص كلما اقتربوا، وحده "الأسن" من تبقى.

مسح حبات عرقه، ودق الباب بهدوء.

تلعثم في البداية، ثم استطرد حديثه، سيدي الغريب نريد أن تغيثنا السلطة.

أشار إليه الغريب فجلس. أنس "الأسن" ونسا.

أحس بدفْء غريب في العين العسلية الناظرة إليه..

وجهه بدا مألوفاً له كمن يعرفه من قبل.

حكى له عن وحدته، عن كآبة بيته بعد موت زوجته، ورحيل ولديه.

ملعون دين الجوع، سأغادر ولن أعود، قالها ابنه الكبير، ظنه يهذي، رحل خلسة في ظهيرة يوم قائظ.. حاصر أخاه الأصغر، جعل البيت له سجنا، غافله وفر.. تعلق بقطار البضائع، لم يعودا قط، تبددا في فضاء العمر الراكد.

طالت جلسته حتى المغيب، أنهى حديثه فابتسم الغريب.

في اليوم التالي، كان الغريب عند خرائب النخيل الميتة والحقول الآسنة، أخرج من جرابه حبال رصها في دائرة غير مكتملة.. غرس رمحاً في منتصفها؛ فرد ذراعه فبدا مهيباً في مهب الريح الصفراء الثائرة. اكفهرت السماء وبدا كمن يعاند قوة غامضة، تشتد الريح، فيفرد ذراعه كمارد. ينظر إلى الأفق المغبر ويزأر، فتزأر الريح معه، أيام وليال وهو في وقفته لا يتزحزح.

في اليوم السابع، غيوم رمادية داكنة أتت، ألقت ماءَها، غسلت الشوارع والحقول والناس.. ملئت الآبار.. نمت الثمار وفاضت، استقام عود النخيل ثانية باتجاه السماء.

استراحت الوجوه المتعبة الجائعة؛ اكتست الأجساد العارية؛ صحت الأبدان السقيمة.

هتف "الآسن":
هذا ليس مندوب السلطة.
هذا مندوب السماء.
 

✧ سفر البسط 

شاعت في المدن الصحراوية المتتالية حكايات الغريب.

استطالت سوق المدينة كمغناطيس صحراوي جاذب للقرى المجاورة، انتبهت السلطة، أتى مندوب لها.. جمع الناس في أضحية حارة، استمع بصبر مصطنع لحكايات العجائز المملة، ببدلته الصيفية وصلعته المتصببة عرقاً شرح لهم مزايا أن تكون لهم دار للحكم المحلي. دعاهم أن يختاروا أحدهم رئيسا.. اقترح أن يكون الغريب هو الحاكم.. رفضوا.. الغريب أكبر من تلك المناصب؛ ثم الغريب غريب، اقترحوا أن يتولى مالك الطاحونة والحانة منصب الآمر. على عجل بنيت الإدارة، أصبح مالك الطاحونة مديراً للبلدة... نفض عنه الكسل الصحراوي. أدخل تياراً كهربائياً، وجدد الحانة والطاحونة.

يوم افتتاحهما وقف بهيبة وبوقار أثار إعجاب الناس. حتى إنه وبّخ مندوب السلطة الأصلع، على تأخرهم في بناء مبنى صحي.

ماذا تنتظرون.. ألا ندفع ضرائب لكم؟

لما التراخي؟ أنهى حديثه، وذهب إلى بيته، رفض الخروج ومباشرة عمله. ضج الناس، الرجل أعند مما ظنوا، لا يريدون هذا، يريدون أن يكونوا رقماً على الخارطة.

والرجل لا يريد أن يكون خيال مآته.

اجتمعوا.

الغريب؛ وحده من يملك الحل.

استقبلهم بود.

أنقذنا يا غريب!

أنقذنا يا سيد!

لا نريد أن نُنسى ثانية.

في الغد كانت الجرارات تسوي الأرض، وتضع أساسات المبنى الصحي، وتعبد الطريق الواصلة بينهم والإقليم.

خرج صاحب الطاحونة.

عدوا ذلك نصراً لهم.

عند الافتتاح كان يقف منتشياً يحيط به رجال الحكم، يميل إلى الأقرع المتعرق دوماً.

ويهمسان إلى بعضهما ويتضاحكان.. أضحا صديقين، فيما أضحت البلدة تتأبى على الطاعة.
 

✧ سِفْر القبض 

توطدت علاقة مالك الطاحونة بمندوب السلطة الأصلع. حدثه عن الهيبة التي تلازم الرجل الغريب، لا يعرفونه ولا يعرفون من أين أتى، ومع ذلك فهو مهاب بلا سلطة ولا مال. من يملك مفاتيح الخير يملك مفاتيح الشر.. من يعرف ماذا سيفعل غريبكم؟ قالها مندوب السلطة وانصرف. أثارت الكلمة حيرة مالك الطاحونة وأرقته، ماذا لو أن الرجل شيطان داهية، يفعل كل ذلك من أجل شيء ما؟ كانت البلدة جدباء مقفرة لكنها راضية.

لو حولها مرة أخرى إلى ما كانت عليه فمن يتحمل الآن؟

فكر بلا إجابة.

حتى إنه هم بالذهاب إلى الغريب لاستجوابه، أو أن يجمع أهل البلدة، ويستشيرهم في أمره، أسر بما ينوي فعله لرجل السلطة، ضحك من قلة خبرته.. الأمور حين تصير مسؤولا لا تدار بهذه الطريقة. نحن هنا من نقرر. أخذنا من الرجل خيره، ولن ننتظر شره، قالها بحزم وانصرف.

من يملك الخير يملك الشر، أضحت مقولة تشاع في فضاء البلدة.

ذات عصرية لم تتخفف من حدة قيظ الظهيرة مر الغريب على أحد الحقول، في اليوم التالي ماتت ثلاث بقرات دفعة واحدة، وقضت فتاة نحبها تحت وطأة الحمي في المشفى الجديد. صرت قشعريرة، جعلت الأمهات يغلقن أبواب دورهن حين يُرى هائما في الطرقات.
 

✧ سفر الصعود 

قال مالك الطاحونة: الحوادث ربما تكن عارضة، والناس لا تزال تتمتع بالخير، وفضل الغريب لا ينكر. أخرسه الأصلع بنظرة حاسمة.

أنت لا تعلم أي قلق يثير هذا الغامض في الأعالي، وأنا رجل الأعالي المطيع أتشرف أن تكون تلك آخر ما أوكل إلي من مهام. ذهب حاكم البلدة إلى بيته مغموماً، أغلق عليه بابه وتغافل عن الهمس المكتوم الدائر؛ عن الأنفاس التي تترقب، والغامضون الذين انتشروا في الطرقات. حتى إنه لم يبد أي دهشة حين نُقلت إليه الرواية فيما بعد (نزل الغريب من أعلى التل، تتقدمه قططه السوداء زرقاء العينين، دخل الحانة للمرة الأولى، جلس بجوار الجندي العائد فسأله:

 من أنت يا سيد؟

 تحشرج صوته قليلا.

أنااااااا

حينها دوت طلقة.. مالت رأس الغريب على كتفه.. فيما كانت نظرات السكينة تطل من عينيْه اللّتينِ أغلقهما الجندي بهدوء).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها