ليلى العطار.. كان يكفي أن تقطع عنها اللّون لتستريح!

جمال العتّابي



لا يمكن لأزمنة الفنان أن توصف إلا بأنها سنوات الخلق والإبداع، وإيداع الأمانات للأجيال التالية، وما كانت الفنانة الراحلة ليلى العطار لتتحدث عن الانسجام الأزليّ بين الشكل والمضمون في لوحاتها، إلا لتفصح عن إيمانها الثابت بالتوازن كرؤية تامة للحياة، فيما لم تكن الحياة في توهّجات إحساسها الفنيّ، إلا لوحة هائلة من الجمع بين الأضداد.


الحقائق في مقابل الرؤى والأحلام، والمشاريع في مقابل القصائد والألوان، واللوعات والدموع والضحكات.. فلقد عاشت مجد الفن بكل تفاصيل تاريخه الذي تجدد في كل مدة زمنية بالتباين بين ما كان عليه، وما صار إليه، وعملت بكل طاقتها من أجل التشكيل العراقي، بدءاً بالمتحف الوطني للفن الحديث، مروراً بالتأسيس الأول لقاعة الرواق عام 1977، كأحدث قاعة عرض في بغداد، كانت العطار قد أخذت على عاتقها كمديرة للقاعة الاعتناء بها، وتزويدها بالمستلزمات الضرورية، وبالتأسيس الثاني لقاعة الرشيد، وبالتأسيس الثالث لقاعة بغداد، حتى انتهت الرحلة في محطتها الأخيرة بمركز الفنون.

ثمة فنانون يبدعون طفولات حب تليق بأعمالهم الفنية، وثمة آخرون يبدعون لوحات تليق بطفولات حبهم، وما كانت ليلى العطار إلا من هؤلاء وأولئك، فإذا كنا نستعيد إرثها الآن، فذلك يعني بأننا ما زلنا نحترف النسيان.

هكذا تستمر دورة الإنسان بلا نهاية؛ لأن إيقاع الحياة الإنسانية، هو إيقاع بالغ القدم، يلغي من خلال الحلم كل غياب، فيما يبقى (البستان)، بستان ليلى مشرع الأبواب، حَفيّاً بكل مَن تحمله أقدامه إلى بيت (العطار)، العش والملاذ النهائي الذي التحم بحكمة الموت.

هناك شَيّدت ليلى الفنانة والإنسانة آخر أحلامها الجميلة، وما كنا ندري، ونحن نراها تحمل كل هذا القدر الهائل من هموم الفن والحياة، إلى مكان آخر أبعد وأعمق في الكون اللامتناهي، لتضاعف من إنتاجها الغزير، وهي تؤجل أفراحها الدنيوية الصغيرة إلى أجل غير مسمى وتنصرف بكل طاقاتها، حيث الاختلاء ووحدة الوجود، تتلوى كالموجة الملونة في قلب السديم.

منذ وقت مبكر من عمرها، اكتشفت ليلى العطار المولودة عام 1944، شغفها بالرسم، مثلما هي شغوفة بالحياة والوطن، درست في أكاديمية الفنون الجميلة، في ستينيات القرن الماضي، ثم انطلقت رحلتها إلى أزمنة أخرى، إلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة في أغلب أعمالها، وحين لم تكن تلك الرحلة قد استوفت كامل طاقتها التعبيرية، أو بلغت أوج عنفوانها الفني، بدأت في أفق سنواتها الأخيرة بشكل يثير النظر نحو الوجوه، مستفيدةً من قدرتها الفائقة في اللّون، لتحريك الذاكرة المرتكسة في أعماق اللاشعور، وهي عودة لا يمكن وصفها بالحنين إلى الماضي، بل بإيقاظ الأحاسيس الخامدة، والتذكير بجماليات اللون، والوصول بالمتلقي إلى بالغ طاقته، وهو ما يمكن أن يحرر رؤيتنا الصورية الوحيدة بالاتجاه نحو العالم. اللوحة عند ليلى العطار عالم من الأساطير التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وأنت ساكن تلتقط بكل إحساسك المنفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من عالم المجهول.

ظلام أسود، كان يلف جسد تلك الليلة الساكنة، الغافلة، التي كانت تراتيل أنفاسها تسري بين صهيل موت غير معلن، ولعبة صمت قبل أن يسبق العاصفة. غلالة زرقاء بسعة الشمس التي غابت مساء ذلك اليوم الكئيب، دونما أية إشارة تنبؤنا بساعة الرحيل، فيما كُنا نبحث في الفجر عن لؤلؤة مضاءة سقطت في بحر مسجور فلم يعد في الوسع أن تستعاد، لكن أو يمكن أن تفصل بين اللؤلؤة وضوئها الباهر؟

وحده الفنان من يعرف ذلك، لقد كانت ليلى العطار تنتشر في مجتمع الفن كالأريج الذائع من الورد، كانت تحمل مشاريع كبيرة للفن، لكنها للأسف الشديد أخفقت في إبلاغها إلى نهاية الطريق، فقد ترصدها جنون العابر للقارات، لم كل هذا الموت؟ كان يكفي أن تقطع عنها اللون لتستريح.

لقد ظلت ليلى طوال حياتها تطارد فراشة الأمل الملونة، لكنها وقعت صريعة بصمتها، من دون أن يلاحظها أيّ منا، لأننا ما زلنا نشارك في هذا (الماراثون) العجيب، دون أن ننظر إلى من حولنا من الرّاكضين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها