بين ما تقوله الفلسفة وما تطرحه السينما

روابط عديدة نكتشفها معاً من خلال فيلم "Memento"

سالي علي


هل يلجأ الإنسان إلى السينما ليُفرغ فضوله؟ نعم، الإنسان يلجأ للسينما من أجل أسبابٍ متعددة، ومنها تفريغ للفضول. إنّ السينما توفّر للناس منصة للاستمتاع بسردِ القصص ومشاهدة تجارب حياة أخرى، وهذا يثير فضولهم ويساهم في تلبية حاجتهم للاكتشاف والاستكشاف، فمن خلال مشاهدة الأفلام، يُمكن للأفراد التعّرف على قصصٍ مثيرة، أبطالٍ مختلفين، وثقافاتٍ غير مألوفة، كل هذا يُشبع فضولهم ويوسّع آفاقهم، وقد يلقى ذلك أيضاً إشباع حاجتهم للمغامرة والتجربة الجديدة.
 

إنّ السينما تعتبر بمثابة وسيلة رائعة للأفراد لتفريغ فضولهم والسماح ِ لهم بالهروب من واقعهم اليومي لعوالمَ أخرى مشوّقة ومَليئة بالإثارة والتشويق.

وفي هذا السياق تستحضرني ذاكرتي إلى فيلم درامي غامض، صدر عام 2000 Memento، وأخرجه كريستوفر نولان. هذا الفيلم يروي قصة رجل يُعاني من فقدان ذاكرته قصيرة الأمد بسبب حادث قاتل، مما يجعله غير قادر على تكوين ذكريات دائمة. تدور أحداثُ الفيلم بتسلسلٍ زمني غيرَ تقليدي، حيث يبدأ الفيلم من النهاية ليعود إلى الوراء، مما يضيف رهبة وإثارة إلى قصة البطل وكشف هويته.
 

يُعتبر هذا الفيلم من الأفلام السينمائية الرائعة التي تجمع بينَ القصة المعقدة والأداء المذهل، ويترك للمشاهد الكثير من التفكير والتأمل في معنى الذاكرة والهوية الشخصية.

فهو يأخذنا في رحلة مُثيرة وملتوية داخل عقل الشخصية الرئيسية والتي تسعى لاكتشافِ هويته وحقيقة ماضيه بطريقة مبتكرة، يُعمّق الفيلم في مفهوم الذاكرة وتأثيرها على بناء الهوية الشخصية، مما يجعل المشاهد يتساءل عن الحقيقة والخداع، وعن كيفية تشكيل قصة حياتنا ومن نحن في النهاية.

تظهر لنا الشخصية الرئيسة بالفيلم وهي تعتمد على تسجيلِ الملاحظات، والصور والرموز لمساعدتها على تذكر الأحداث والأشخاص، ومع ذلك، يتم تقديم هذه المعلومات بطريقة غير متسلسلة ومتناقضة، مما يُثير تساؤلات المشاهدين حول الحقيقة والمصداقية!

تلك الجوانب تكشف تأثير فقدان الذاكرة على قدرة الشخصية على تحديد الحقيقة من الخيال، وتسليط الضوء على عدم موثوقية توجه الذاكرة، مما يتيح للجمهور التفكير في طبيعة الذاكرة وقدرتها على تشويش الحقيقة، وخلق رؤى ملتوية للأحداث.

فهل تخون الذاكرة الإنسان؟

بشكلٍ علمي، يمكننا القول بإن الذاكرة ليست دائماً موثوقة بنسبة 100%، هناك مفهوم في علم النفس يُعرف بـ "ذاكرة الشاهد"، أو "ذاكرة الشهود"، والتي تشير إلى حقيقة أنّ الذاكرة يمكن أنْ تكون غيرَ دقيقة وقابلة للتأثير من قَبل عواملَ متنوعة.

تؤثر العوامل المتنوعة مثل التأثيرات الخارجية، التجارب السابقة، وحالة المزاج على كيفية تخزين المعلومات واسترجاعها في الذاكرة، قد يحدث التشويش أو التشويه في الذاكرة نتيجة لانتقاء المعلومات أو عدم القدرة على تذكُر التفاصيل بدقّة، الذاكرة قد تكون قوية ودقيقة في العديد من الحالات، لكنها ليست خالية من الأخطاء، لذلك، يجب توخي الحذر عند اعتماد الذاكرة كمصدر وحيد للحقائق، وقد يكون من الحكمة التأكد من دقة الذكريات من خلال مصادر أخرى عند الضرورة.

إن موضوع عدم الموثوقية في الذاكرة نجدها عند الفيلسوف ميشيل فوكو الذي قام بتقديم نظرياتٍ مهمة حول كيفية تكوين الذاكرة، وكيفية تأثير السلطة والمؤسسات على عملية تحديد الحقيقة والذاكرة. ويُعتبر فوكو واحداً من الفلاسفة البارزين في دراسة العلاقة بين السلطة والمعرفة، وكيف يتم تشكيل ذاكرة المجتمع من خلال هذه العلاقة، تأملاته حولَ كيفية استخدام السلطة للسيطرة على الذاكرة وتشويهها تعكس تفاعله مع مفهوم عدم الموثوقية في الذاكرة وتأثير ذلك على بناء التاريخ والحقيقة.

عبارات فوكو غالباً ما تدعو إلى التأمل في علاقة السلطة والمعرفة، وكيفية تأثيرها على بناء الذاكرة الفردية والجماعية. تجسد جُمله الشهيرة تعقيد العلاقة بين القوى السياسية والثقافية، وعملية تشكيل الذاكرة، وواحدة من أشهر جمله حين قال: "الحقيقة هي أنه ما من شيء موجود يمكن أن يتأكد منه، لا حاجة لبداية أو نهاية، لا حقيقة أو خيال". هذه الجملة تعكس فلسفته حول تأثير السلطة والقوى الاجتماعية على تشكيل الحقيقة والذاكرة.

ومن المميزات بالفيلم؛ طريقة السرد غير الخطية أو بالأصح طريقة السرد المعكوسة، حيث بداية الفيلم هي نهاية الأحداث والعكس صحيح، فنجد كيف يكمُن الغموض والإثارة في كيفية تقديم القصة بشكلٍ غير خطي، يبدأ الفيلم من النهاية ويتحرك إلى الوراء، مما يُعطي للمشاهد إحساساً عميقاً بأنّها رحلة إلى الوراء في ذاكرة الشخصية الرئيسية، والتعرف على الحقيقة وراء أحداثها.

هذه الطريقة غير الخطية في السرد تجعلُ للفيلم قيمةً، وطريقة ملهمة للمشاهد، كما تعتبر جزءاً أساسياً من جاذبيته، بل وما ميّزه عن غيره من الأفلام، مما يجعل منه تحفةً سينمائية لا تُنسى بفضل ابتكارها واستخدامها الرائع للسرد.

إن المشاهد بالعموم يميل لتفضيل الأفلام ذاتَ الطابع السردي غير التقليدي لعدة أسباب منها: الإثارة والتشويق، فتقديم القصة بشكل غير تقليدي يجلب التشويق والإثارة للمشاهد، حيث يجد نفسه على نوبة من الحماس والتفاعل العاطفي مع الأحداث المعقدة. الابتكار والتميز أيضاً من الأسباب، فالأفلام غير التقليدية غالبًا ما تظهر بأفكار جديدة ومبتكرة، مما يجذب المشاهد الذي يبحث عن تجربة سينمائية مميزة ومختلفة.

كما أن التحدي والتفكير يثيرُ السردَ غير التقليدي للمشاهد، حيث يحتاج إلى التركيز والتفكير العميق لفهم الأحداث وتتبع تسلسلها، مما يساهم في تفعيل عقله وإشباع رغبته في التفكير. ومن الأسباب البارزة هي الرغبة في الاستكشاف فيبحث البعض عن الجديد والمبتكر، والأفلام ذات السرد غير التقليدي تمثّل فرصة للاستكشاف واكتشاف عوالم جديدة داخل السينما.

لذا؛ يمكنني القول بأن هذه النوعية من الأفلام تُعجب المشاهدين بسبب قدرتها على إثارة الفضول، وتوفير تجربة سينمائية مختلفة وملهمة تخرجهم من روتين السرد التقليدي. كما تناول الفيلم فكرة مهمة أيضاً ألا وهي تأثير التجارِب الصادمة على فهم أنفسنا، وهو في الحقيقة موضوعٌ مهم ومعقد يتناولهُ العديد من الأفلام والأعمال الفنية، يتمثل هذا التأثير في كيفية تشكّل تجاربنا ومواجهاتنا مع الصعوبات والمحن في تحديد هويتنا وفهمنا لأنفسنا.

لقد تناول العديد من الأفلام هذا الموضوع من خلال عرض شخصيات تواجه تحديات صعبة وتجارب مروعة تؤثر على تصورهم عن أنفسهم، تقدم الأفلام هذه القصص لاستكشاف عمق الانفصام النفسي، وتأثير تجارِب الصدمات والصراعات على نفسية الشخصيات.

ومن خلال تقديم هذا الموضوع، تسلّط الأفلام الضوء على أهميّة فهم النفس البشرية، وكيفية تأثير الصراعات والتحديات على تكوين هويتنا وتصورنا عن أنفسنا، تجسد هذه الأفلام دروساً قيمة حول قوة التحمل والتعافي، وتطور الشخصية في مواجهة التحديات الصعبة في الحياة.

إن العديد من الفلاسفة والمفكرين قد ناقشوا وتناولوا موضوع تأثير التجارب الصادمة على فهم أنفسنا، ومن بين هؤلاء الفلاسفة: جان بول سارتر وهو فيلسوف فرنسي معروف، قدّم رؤى قيمة حول تأثير التجارب الصادمة على فهم أنفسنا في كتاباته، كما أشار سارتر إلى أهمية الصراعات والتحديات في تشكيل الذات وتحديدها، وأوضح أننا نواجه تجارب صعبة وصراعات في الحياة، وأن تلك التجارب تساهم في تحديد هويتنا وفهمنا لأنفسنا.

بالنسبة لسارتر، كانت التجارب الصادمة والصعبة تُعتبر فرصة لتحديدِ مَن نحن وماذا نُريد أن نكون، بدلاً من الابتعاد عن التحديات، كان سارتر يشجع على مواجهتها بشجاعة وقبولها كجزء من رحلة النمو الشخصي والتطور، سارتر أوضح أن التجارِب الصعبة تلعبُ دوراً مهماً في تكوين شخصيتنا وتحديد هويتنا، وبأنّها تساهم في تطوير وتعزيز فهمنا الذاتي وقوتنا الشخصية.

قال سارتر مقولة شهيرة عبّرت عن رؤيته السابقة في تحديد الذات ألا وهي: الحرية هي قمة الوجود، هذا التعبير يعكس فلسفته العظيمة حولَ أهمية اختياراتنا وتحدياتنا في تحديد مَن نحن؟ وكيف نريد أن نعيش حياتنا؟

تؤكد تلك المقولة على أنّ الحرية ليست فقط حقاً ولكنها مسؤولية تقع على عاتق كل فرد لتحديد مسار حياته، وبناء هويته الشخصية من خلال المواجهة مع التحديات والصراعات التي تعبر عنها الحياة.

الذاكرة ودورها في تشكيل هُوية البشر:

إن الذاكرة تلعبُ دوراً هاماً في تشكيل هوية البشر فهي تحتفظ بذكرياتنا وتجارِبنا، وتساعدنا على تحديد من نحن وما هو ماضينا، نحنُ بفضلِ الذاكرة نتمكّن من بناء روابط مع الماضي وتوجيه مستقبلنا، فعندما نسترجع ذكرياتنا وتجارِبنا من الذاكرة، نتمكن من إدراك كيف نفكر ونشعر ونتصرف بناءً على تلك الذكريات، وتلك الذكريات تُساعدنا على فهم تشكيل هويتنا وقيمنا ومعتقداتنا. بمعنى آخر، الذاكرة تساهمُ في بناءِ الهوية الفردية من خلال توجيهنا وتأثيرها على اختياراتنا وتصرفاتنا. ولكن إذا فقدنا الذاكرة؛ فإننا قد نواجه صعوبة في استرجاع الذكريات والمعلومات السابقة التي تشكل هويتنا وتاريخنا الشخصي، ويمكن أن يؤثر على القدرة على تمييز الحقيقة من الخيال وعلى اتخاذ القرارات اليومية، كما قد يؤثر أيضًا على الشعور بالهوية الشخصية والانتماء إلى المجتمع، وفي حالات فقدان الذاكرة الشديدة، قد يحتاج الشخص للعون والدعم الخارجي لإدارة حياته اليومية.

وفي الحقيقة على الرغم من أن فقدان الذاكرة يمكن أن يكون تحديًا كبيرًا في تشكيل الهوية، إلا أنه لا يعني بالضرورة فقدان الهوية بالكامل، حيث يمكن للأشخاص الذين يعانون من فقدان الذاكرة بشكل كامل البحث عن وسائل أخرى لاكتشاف هويتهم.

يمكن البدء بالتفاعل مع الأشخاص المهمين في حياتهم، والتعرف على تفضيلاتهم وأهدافهم وقيمهم، كما يمكن البحث عن أنشطة جديدة وهوايات تساعد على استعادة الثقة بالنفس وبناء هوية جديدة، كما أن الدعم النفسي والمساعدة من المحيطين، يمكن أيضًا أن يكون لها تأثير كبير في المساعدة على استعادة جزء من هويتهم رغم فقدان الذاكرة.

وفي النهاية، يمكننا أن نستنتج بأن فقدان الذاكرة قد يكون تحدياً كبيراً في حياة الإنسان، ولكنه ليس نهاية الطريق، من خلال اكتشاف جوانب جديدة من الذات، وتجارب جديدة، وتفاعل مع العالم من حولنا، يمكن للإنسان بناء نفسه من جديد، وإعادة تشكيل هويته بطريقة إيجابية.

ومن خلال تطبيق فلسفة ميشيل فوكو على موضوع الفيلم، نستشرف تفاصيل مختلفة بأن كُل شخصية في الفيلم تحمل هوية متغيرة ومتقلبة، تعكس تفاعلاتها مع العالم والأحداث من حولها، وبالتالي، يمكن أن يتوجه بحثنا هنا نحو التأكيد على أهمية فهم عمق شخصيات الفيلم وتطورها كجزء لا يتجزأ من تكوين هويتها، وكذلك استكشاف العلاقة بين الذاكرة والهوية في سياق السينما.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها