الصويرة أو موغادور.. مدينة التسامح والتاريخ القديم

د. محمد بندحو


تعد مدينة الصويرة التي كانت تعرف قديماً باسم "موغادور" إحدى أجمل وأعرق المدن المغربية، لذلك تم إدراجها منذ دجنبر من سنة 2001 ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فالمدينة غنية بمآثرها التاريخية، وأماكنها الدينية وفضاءاتها الرحبة، التي تحمل جزءاً مهماً من الهوية الوطنية والذاكرة الجماعية للمغرب.


تاريخياً، اكتشفت مدينة الصويرة من قبل الفينيقيين خلال القرن السابع قبل الميلاد، وكانت تستخدم كمرسى يتم استخدامه على الطريق المؤدي إلى الرأس الأخضر وخط الاستواء، وفي سنة 146 قبل الميلاد غزا الرومان هذا الموقع وجعلوه تابعاً لهم، ومع نهاية القرن الأول قبل الميلاد ستعرف المدينة شهرة كبيرة بسبب صناعة الصباغات الأرجوانية المستخرجة من المحار والتي طورها الملك جوبا الثاني مؤسس مدينة وليلي. وفي العصور الوسطى قام البرتغاليون بإنشاء مشاريع تجارية هامة وأطلقوا على المدينة اسم "موغادور". غير أن المدينة الحديثة يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1765م على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي أوكل وضع تصميمها آنذاك إلى المهندس الفرنسي "تيودور كورني"، حيث رسم تخطيطاً لهذه المدينة وأحاطها بتحصينات مستلهمة من أعمال "فوبان" أستاذ الهندسة المعمارية العسكرية الفرنسية.

أما اليوم فإن زائر الصويرة لا يمكن أن تخطئ عينه جمال وسحر هذه المدينة وخاصة الجزء القديم منها؛ والذي تتصل وتتشابك فيه الطرق والأزقة ببعضها البعض، فهذه الأخيرة مخصصة للمارة دون السيارات في أكثرها، بعضها مغطى بالعقود الحجرية الجميلة التي ترجع إلى العصور القديمة الغابرة، وهو ما يوفر الظلال المريحة للمشاة، ويخفف من درجات الحرارة، ويحول دون التسرب المباشر لأشعة الشمس. ويكمن سحر مدينة الصويرة أيضاً في كون أبنيتها من الحجر، مصبوغة باللونين الأبيض والأزرق، تعلوها قباب من الخشب والجير والطين، شبابيكها صغيرة المساحة، مفتوحة في جدران سميكة لتؤمن التهوية والإضاءة، وتمنع دخول الأشعة في الوقت ذاته، وبعض هذه الأبنية يطل على الطرقات من خلال مشربيات خشبية جميلة الصنع، تستعمل للجلوس والاستراحة ومشاهدة ما يجري في الخارج دون التعرض لنظرات المارة، وما يميز هذه الأبنية أيضاً هو أنها تتلاصق مع بعضها البعض وكأن المدينة عبارة عن مبنى واحد متشابك الأجزاء.

وأهم ما يميز مدينة الصويرة هو كونها مدينة يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون جنباً إلى جنبٍ منذ سنوات طويلة؛ فهي لم تعرف على مر تاريخها أي صراع أو عنف بين مختلف مكوناتها الدينية، فالمؤرخون لم يسجلوا أي حالة اقتتال أهلي بين مكوناتها منذ وجودهم وسكنهم المدينة وإلى يومنا هذا، مما طبع المدينة بطابع التعايش والسلام، ولو لم تكن كذلك لما استمر هذا التعدد والتنوع والعيش المشترك بين كل الجماعات المختلفة دينياً والتي تشكل المجتمع الصويري.

وتَعرف المدينة خلال شهر سبتمبر/ أيلول قدوم جماعات كبيرة من اليهود لأداء الحج والصلاة في الأديرة التي ما زالت قائمة إلى اليوم، منها دير الحاخام بينتو، والذي يضم داخله معرضاً من الصور التاريخية التي توثق لحياة اليهود في مدينة الصويرة قبل عام 1948، كما يضم طابقاً علوياً مخصصاً للنساء اللواتي يؤدين الصلاة لدى اليهود الأرثوذكس بشكل منفصل عن الرجال. ومنها كذلك الدير المعروف باسم صلاة الكهل والذي بدأ ترميمه سنة 2012 بدعم من اليونسكو، وأعيد افتتاحه مع نهاية سنة 2017.

كما تضم الصويرة حياً سكنياً يهودياً وهو ما يعرف بالملاح والذي يعود بناؤه إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، حيث استقدم إليه السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي نخبة من التجار اليهود لتنشيط ميناء المدينة التجاري، فعرف تاريخياً باسم ملاح تجار السلطان. ومع بداية القرن السابع عشر عندما أعاد السلطان العلوي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) بناء مدينة الصويرة على النمط العصري بشوارعها الواسعة خلافاً للمدن العتيقة بالمغرب، وبنى فيها ميناء جديداً وقاعدة عسكرية بحرية، استقدم إليها بدوره نخبة من التجار والدبلوماسيين اليهود. وتحولت الصويرة منذ ذلك الحين إلى العاصمة الاقتصادية للمغرب، واستمرت في هذا الدور حتى بداية الحماية الفرنسية التي حولت مركز ثقل الاقتصاد المغربي من الصويرة إلى الدار البيضاء.

وبما أن الصويرة مدينة التعايش والسلام فقد كان لدُور العبادة المسيحية أيضاً حضور لافت، والدليل على ذلك وجود كنيسة قائمة إلى وقتنا هذا، هي كنيسة السيدة العذراء، والتي تم بناؤها سنة 1936م خارج المدينة العتيقة، على بعد أمتار معدودة من باب مراكش الشهير، تستقبل لحد اليوم المسيحيين الكاثوليك المقيمين بالصويرة أو العابرين لأداء شعائرهم الدينية أو الاستفسار عن أمور حياتية أو لتنظيم مناسبات أسرية كالزواج والجنائز، كما تحتضن الحفلات الموسيقية وخاصة الصوفية التي تنظمها المدينة نهاية شهر مارس من كل سنة.

تعد إذنْ مدينة الصويرة نموذجاً يحتذى به في مجال التعايش والتسامح والعيش المشترك، فقد آمن سكانها ومؤسسوها منذ القديم بأن الاختلاف هو جوهر الوجود وشرطه الرئيس الذي لا يقوم إلا به ولا يتأسّس إلاّ عليه، لذلك أكد المجتمع الصويري على ضرورة قبول الآخر المختلف؛ عرقاً أو لوناً أو ديناً أو فكراً أو جنساً... حتى أضحى رفض الآخر في مدينة الصويرة فضيحة أخلاقية قبل أن يكون جريمة في حق الإنسانية، ودوسا على حق عظيم هو الحق الطبيعي في الاختلاف.

وقبل الختام؛ لا بد أن نشير إلى أن سكان مدينة الصويرة والجمعيات الفاعلة في هذه المدينة يعملون بشكل طبيعي ومتواصل على تبديد المخاوف من التعايش المشترك بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وذلك بعقد الندوات وإقامة المهرجانات والحفلات التي يحضرها جميع الأطياف دون تمييز، حتى صارت حكاية التعايش الفريدة أمراً حقيقياً يعتز به سكان مدينة الصويرة، فالتعايش في هذه المدينة حقق معجزة الانصهار، وصار الناس بفضله إخواناً ورفاقاً يؤثثون الحياة بالقيم الإنسانية الرفيعة التي تعلي بنيان الخير والحب والعدل والجمال.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها