الرحلة بوصفها مغامرة

"الامتداد الأزرق" لحسن الرموتي

د. إبراهيم أزوغ



كلما قيل إن أدب الرحلة قد أصبح من الأشكال الأدبية التقليدية التي قل الاهتمام بها إبداعاً ومقاربة، واستنفد شروطه وإمكاناته التعبيرية، وسط مجتمع كوني يسعى باستمرار إلى محو الحدود والاختلافات القائمة بين ثقافاته المختلفة وشعوبه العديدة، مراهناً على مواكبة وتطوير الجديد في الابتكار التكنولوجي وما يوازيه من فكر الحداثة ومظاهر التحديث، وما أفرزه من أشكال تعبيرية جديدة تتيح إمكانات وصيغ جديدة للتعبير عن الفرد والمجتمع والظاهرة؛ بشرية كانت أو طبيعية بالصوت والصورة، أو بالرموز والرسوم، وإمكانات هذه الأشكال التعبيرية من التحرر من القيود، ومن خرق القواعد التي ظلت سائدة لفترات طويلة من تاريخ الإنسانية، وعُدت محددات للجنس التعبيري، وقدرتها على اختلاق مساحات واسعة من الحرية والدقة في التعبير، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالنقل والتوثيق والوصف الذي تتأسس عليه الرحلة.. حتى ينبعث هذا الفن الذي يقوم على التجربة البشرية في السفر وتطواف الأماكن والآفاق.



لقد استطاع أدب الرحلة ولأزمنة طويلة ولا يزال؛ أن يشكل الفن الأقدر على أن يُعرف قُراءه من خلال نصوصه على بلدان لم يزورها، وأن يجعلهم يعيشون مغامرات ما كانت لتكون لهم القدرة والشجاعة ولا إمكانية خوضها وأن يكون صيغة هذا القارئ أو ذلك في كل بقاع العالم للمعرفة والاستكشاف، للأمكنة وللأزمنة والثقافات والمجتمعات الإنسانية قديمها وحديثها.

لماذا يعود هذا الفن التعبيري إلى الانبعاث والظهور إلى الواجهة، والمنافسة في الحضور والتعبير عن مصائر الإنسانية وأشكالها وثقافاتها واختلافاتها، كلما اعتقدنا أن اهتمام المتخصصين والمبدعين في الآداب وفي مراكز البحث الأخرى في التاريخ والجغرافيا والأثنوغرافيا به، قد قل، وأن الحاجة إليه قد زالت وتلاشت، وأن الشكل قد استنفذ شروطه الثقافية والتاريخية والاجتماعية كغيره من الأشكال التقليدية مثل المقامة والرسالة والخطبة؟ لماذا يعود إلينا بألبسة جديدة، كلما وصلنا إلى اليقين بأنه قد صار مكوناً وعنصراً تم تطويعه ليلائم أشكالا تعبيرية أخرى؟

قد يقول القائل جواباً، إن الحاجة إلى الكتابة والتعبير عن الذات في الحضر والسفر، الكتابة باعتبارها تفكيراً وتأملاً حاجة، عكس الصورة، مثلا هو العامل الباعث على التجدد والاستمرار، وقد يقول أو نقول: إن الرحلة شقيقة الرواية وضَرتُها في السرد، وفي القدرة على الجمع بين التخييل والتسجيل للذات والمجتمع والتاريخ، لهذا ظلت قادرة على التحدي تارة، وعلى السير جنباً إلى جنب مع الرواية تخالفها مرة، وتتشبه بها أخرى، وتسمى بأسمائها أو تجمعهما في رواية الرحلة أو رحلة الرواية.

وسواء أكان هذا الجواب أو ذاك، فإن الذي يمكن القول به يقيناً، أن ما يضمن للرحلة استمرارية إبداعها وتلقيها هو جانب الكتابة فيها، وأدبيتها التي لا تناقض قدرتها على الجمع بين التخييل والتسجيل بحيث يصير التخييل تسجيلاً والتسجيل تخييلاً، وإذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فلماذا قد نخشى على النص الرحلي "الامتداد الأزرق" من التخييل؟ خاصة إذا ما علمنا بأن التخييل يولده السرد، والتجسيد أو التسجيل للارتحال يتوسل الوصف، استناداً إلى كون الرحلة "خطاب وصفي بامتياز". فلماذا نسعى إلى أن نثبت له صدقية وقائعه وأحداثه، ومساحة الوصف في رحلة العبور ضيقة، ثم ما الذي يثبت أن ما رواه الرحالة في قرون خلت حقائق ووقائع وأسفار حاصلة؟ أم أننا نجعل من كتابة الرحلة كتابة لشهادة أدبية؟

وإذا كانت أهمية الرحلة في تسجيلها للوقائع أو شهادة على وقوعها، ألا تكون بذلك أشبه بكتابة تقريرية صحفية أو تحقيقاً؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يُعاب على بعض الكتاب الخلط بين هذه الأشكال التعبيرية؟ ولماذا التمييز بينها من جهة، وبينها وبين أدب الرحلة بوصفه فناً من جهة أخرى؟ ولماذا وصفت وصنفت ضمن الأدب إن لم تكن أدبيتها هي أهم خصائصها المهيمنة، والأساسية في بنائها؟

إن هذه الأسئلة والافتراضات في مجملها والتي تصدر عما تولده القراءة لخطاب الرحلة "رحلة عبور العربي بابمار للمحيط" من شعور لدى القارئ في هاجسها بإثبات حصول الرحلة، يقود في اعتقادنا إلى طرح مسألتين نقديتين أساسيتين في قراءة هذه الرحلة خطاباً:
◅ تتمثل الأولى فيما يطرحه نص الرحلة من إشكالية تتصل بالعلاقة بين: الرحلة وخطاب الرحلة
◅ والثانية يمكن أن نصوغها في سؤال: هل تسرد رحلة العبور هذه؛ رحلة مسافر أم تسرد علاقة بحار مبحر بالبحر؟

الرحلة وخطاب الرحلة

إن رحلة العبور تدفع بقارئها إلى طرح أسئلة كثيرة تجعله يعيد التفكير فيما راكمه من معارف حول الأشكال الرحلية التقليدية وبنائها الفني وموضوعاتها، فالرحلة باعتبارها خطاباً لا فعلا، يكون الراوي الشخصية الرئيسة فيها ذاتاً واحدة ترصد ما حولها من خلال المشاهدة والمعاينة، وتسعى إلى نقله كما تكتشفه الذات وتراه، وتقييد ما هو جدير بالتقييد مما يترك أثراً على الذات، وقابل لأن يترك الأثر نفسه على القارئ1، لكن العربي بابمار لم يكن مشدوداً ولا منشغلاً بوصف الفضاء ولا كان همه وصف المشاهد، فقد جاء وصف الأمكنة في كل المقاطع مجملا يقول الراوي: "اقترحا علينا الذهاب معهما إلى المنزل، كانت المنازل مسقوفة ومبنية بالخشب والقصب، لكنها جميلة، وتتوفر على كل ما هو ضروري. الحذاء" (ص: 47) وكذلك جاء وصف الغابات مجملا، أما الأشخاص فلم يردوا إلا بوصفهم أشخاصاً يتحدثون اللغة الفرنسية، وعوض وصفهم، قدم أوصافاً له ولصديقه باعتبارهما "غريبان تائهان جائعان"(44)، أما الكائنات فوصفه لها مثل وصف الأمكنة لا ترد إلا دليلا لراغب في النجاة من البحر، لا باعتبارها مثيراً أو جميلاً يشد الانتباه. يقول في وصف أسراب الفراشات: "لكن ثمة شي آخر نسيته، شيء جعلنا ندرك أننا قريبان من اليابسة، قبل أن يرى سي محمد هذه الأشجار... الأمر يتعلق بسرب من الفراشات رأيتها ترفرف قريباً من الزورق، لأول مرة نرى فرشات ترفرف قريباً منا بعد أزيد من ثلاثة أشهر... عرفت اليابسة قريبة جداً، وأن الفراشات لا يمكن أن تتوغل في البحر بعيداً. أحسسنا معاً بشعور غريب، مزيج من الاندهاش والفرح، أصبح همنا الوحيد أن نرى اليابسة"(46).

إن هذا الإيجاز في الوصف لكل ما يراه الرحالة، وفي سرد التفاصيل الجزئية للرحلة، في مقابل التركيز على معاناة المبحر الرحالة، وصوغها باهتمام صوغاً فنياً لتبدو الرحلة بطولة ومغامرة، وصوغ تقريري للشهادة عليها باعتبارها يقيناً حصل وحقيقة وقعت. يجعلنا من جهة نفترض أن الأمر يعود إلى المسافة الفاصلة بين الرحلة فعلا والرحلة خطابا؛ رواية أو تدوينا كما يؤكد الكاتب نفسه2، غير أن ذلك لا يحول دون افتراضنا من جهة ثانية أن الكاتب من رسم مسار خطاب الرحلة ليركز على المعاناة وتبئيرها، ليوثق مغامرة وبطولة بابمار وصديقه، ويجعل من رحلتهما أسطورة، ويرافع عن واقعية حصولها بدل التركيز على تسجيل المشاهد، إذ بالإضافة إلى تمهيده لكتابة رحلة العربي مريكان بعرض موجز لمحاولات قطعت المحيط الأطلسي تدليلا على إمكانية الفعل، يردف الكاتب قائلا: "ليس مستحيلا أن يقوم العربي بابمار بهذه الرحلة رفقة صديقه، وهو بحار محنك.."(12). ويقول قبله في خاتمة تقديم أولِ للرحلة: "ما قام به سي العربي ليس عملاً مستحيلاً" (ص: 7)، ويقول: "لتعلم عزيزي القارئ أن الرحلة رحلة حقيقية" (ص: 8). إن مرافعة الإقناع بإمكانية حصول فعل الرحلة، لا ينفصل عن تأكيد أهميتها وخطورتها واستثنائيتها، وشجاعة المبحر يقول الكاتب: "لكن الكثير من الناس لا يصدقون ذلك. العربي نفسه لا يدرك قيمة ما قام به باعتباره بحاراً بسيطاً" (ص: 10). ويقول كذلك: "لو تمت هذه المغامرة في بلد آخر لأقيم تمثال لهذين البطلين، ولا استقبلا استقبال الأبطال، وأصبحا بطلين قوميين في بلدهما.." (ص: 7).

ليست الغاية كما قد يبدو ظاهراً، القول بأن الرحلة شهادة وتوثيق لمغامرة العربي بابمار، بل المقصد واستناداً إلى ما تقدم، طرح أسئلة أخرى تثيرها قراءة النص منها: هل كتابة الذات باعتبارها عنصراً رئيساً في الرحلة؟ كتابة للذات المرتحلة أم كتابة للذات الأديبة الكاتبة؟ أم لهما معاً؟ ألا يحق للقارئ أن يتساءل إن كانت الحاجة إلى كتابة الرحلة حاجة الذات المرتحلة أم حاجة الذات الكاتبة؟ وهل يمتلك الكاتب المبدع السلطة المطلقة على لغته؟ وهل يفترض أن يلازم الخطاب الفعل، وهل يمكن ذلك؟

علاقة بحار مبحر بالبحر بدل علاقة رحالة برحلته

إن رواية بابمار للرحلة لم تكن تهتم باستنطاق المدهش من المرائي، ولا عبر فيها عن كونه من محبي الغرائب والعجائب، ولا من هواة المغامرة نفسها، ولا كانت رحلته بهدف ديني أو علمي أو سياسي أو استكشافي لعوالم مجهولة أو مقصودة، ولا كان راغباً في المغادرة إلى بلاد أخرى لاكتشاف الآخر والتأسيس معه لعلاقة وحوار ثقافي، ولا كان صاحب معرفة بالعلوم والثقافات أو فكر متحرر أو منغلق يخول له، أو يدفعه إلى المقارنة وإصدار الأحكام، رغم ما يتخلل النص من صدى مشاعره وهي تلتقي أو تفارق الآخر3، فهل نتلمس في نص "الامتداد الأزرق" والعنوان بدوره دال، علاقة السفر بالكتابة، أم علاقة المبحر بالبحر؟

إن البحر في رحلة العربي بابمار موضوع مركزيّ وفضاء موجّه، وصوّرُه المتعددة هي المهيمنة والطاغية والمتحكمة في مسارات السرد ودلالاته، البحر فيها رحلة وحكاية وخطاب، تُعبر من خلاله ذات المبحر عن قدرتها على ترويض ما لا يروض وهزم ما لا يهزم، وتُعبر فيها عن شعورها بالقدرة على التحدي وعبور الصعاب، وعن رغباتها وآمالها، وخوفها وشجاعتها وتهورها، وقوتها وضعفها وهشاشتها، تُعبر فيها ذات العربي عن كيف استطاعت أن تنصت للريح وتصادق البحر خلال الإبحار على متن زورق، وكيفية إدارة أشرعته بأدوات بسيطة ومُئونة يسيرة، وخبرة واسعة، وتجربة كبيرة بالبحر وكيفيات الإبحار.

يقول العربي في أربعة مقاطع تعكس إجمالا علاقته بالبحر:
– "أنا بحار مجرب، وعلاقتي بالبحر متينة" (ص: 23).
– "تحملت أعباء كبيرة في القيادة... الكثير من أعباء الرحلة كانت من نصيبي، لأني كنت بحاراً وعارفاً بخبايا البحر" )ص: 35(.
– اعتقدت أحياناً أننا تائهان في البحر أو أننا نبحر في حلقة مفرغة... كان البحر حين يغضب قليلاً وترتفع أمواجه أسايره أوجه المركب أتركه ينساب مع الموجة... لم يكن البحر هائجاً فقط بل كان مجنوناً" (ص: 37).
– "أعود لأقول في النهاية إن البحر كان صديقاً أحياناً كثيرة، وعدواً في مرات قليلة" (ص: 40).

لا تختلف صعوبة الإبحار عبوراً، كثيراً، عن صعوبة الكتابة، وخاصة عن تجارب الآخرين، فهي كذلك عبور لتجاربهم أولا، وثانيا وعبور بها من الشفهي أو المرئي إلى التدوين والتقييد، ولا نحسب الكاتب إلا متقناً للإبحار والعبور بصور البحر وأهواله التي رواها العربي؛ من البحر المسكون بالجمال ليجعله مرادفاً للجلال، ويجعل من لونه الأزرق الذي يمنح الفرد شعوراً بالهدوء والأمل، عنوانا للإحباط واليأس والخوف في رحلة بابمار التي نكاد نستعير لأكثر مقاطعها إثارة عنوان رواية حناً مينة "الشراع والعاصفة"، حيث يتحول العربي إلى شخصية تخيلية تعيد صنع بطولتها بلغة الأديب وخبرته في العبور بها لتصبح حكاية من حكايات البحر أو سرديته، ويكون التمييز صعباً بين شخصية العربي بابمار في نص الرموتي وسانتياغو همنغواي في "الشيخ والبحر"، فهما معاً شخصيتان ترمزان للتحدي والإرادة المسنودتان بخبرات واقعية بعالم البحر، رغم كون إحداهما شخصية من إنتاج المخيلة، والثانية حقيقة وتاريخية. ويكون من الصعب أكثر التمييز بين دور الرموتي الذي يكتب الرحلة البحر للعربي بابمار، والروائي البولندي البريطاني جوزيف كونارد المعروف بروايات "رحلة البحر"؛ التي يرويها على لسان بحار عجوز اسمه "مارلو"، ويكون التمييز بين هذا الأخير والعربي شبه مستحيل إلا ظاهراً وشكلاً، ولست في حاجة إلى التذكير بأن الروائي البريطاني كان عاملاً في الملاحة، وحينما انتقل إلى فرنسا احتفظ فيها بعمله في البحر. فلماذا نخشى على الرحلة من أن تستحيل متخيلا، أو تتلبس به أو به تلتبس وهو مكون من أهم مكوناتها؟

تركيب

إن أهمية رحلة الرموتي (الكتابة/ خطاب الرحلة) بالإضافة إلى كونها تسريد لرحلة المغامرة للعربي بابمار وتوثيقها، والذي يميزها ويمنحها خصوصيتها الموضوعية والفنية هو بالأساس ابتعادها عن النمطية، وقياسِ المكتوب ومشابهته بغيره من نصوص الرحلات قديمها وحديثها؛ فرحلة بابمار تنفرد بعدم إثقالها بوصف كل ما تلتقطه العين، وبسرد كل ما تسمعه الأذن وما تتخيله المخيلة نتيجة لتفاعل المرئي والمسموع، ولا هي جمعاً للنصوص من الشعر والمحكيات والأخبار، كما تخففت من أحكام وانطباعات عنصرية أو إديولوجية، لتعكس الاختلافات الصارخة الموجودة والمحتملة بين الذات والآخر، فهي في أحكامها ذات طابع إنساني في الغالب، كما أن المقدمات الثلاث التي وضعها كاتب الرحلة للنص (1- رحلة العبور كما رواها العربي بابمار، 2- محاولات سابقة لقطع المحيط الأطلسي، 3- الإعلام ورحلة العربي بابمار، وبداية مقطع قبل المقدمة الثالثة بعنوان: الحديث الأول ومقاطع أخرى؛ رفيق الرحلة) وتوظيفه لضمير الغائب، واعتماد العربي بابمار في سرده للرحلة المزاوجة بين ضمير المتكلم المفرد، والجمع. خفف من طغيان ضمير المتكلم وهيمنته المألوفة في نصوص الرحلات.

 


هوامش: [1] - سعيد يقطين: السرد العربي مفاهيم وتجليات، دار رؤية، مصر، الطبعة الأولى 2006، ص: 212- 213. [1] - يقول الكاتب "من المؤكد أن سي العربي نسي الكثير من الأحداث بسبب طول الرحلة والتعب الذي انتابه هو وصديقه" حسن الرموتي، الامتداد الأزرق، م-س، ص: 9.[1] - "وأنا امتطي الطائرة، ولأول مرة في حياتي نظرت نظرة أخيرة إلى غويانا، أحسست كما لو أني أترك جزءاً من جسدي هناك لقد أحببت بالفعل هذه الجزيرة وأحببت سكانها، فهم كرماء" حسن الرموتي: الامتداد الأزرق، م-س، ص: 56.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها