يقتلون الجياد.. يا زياد!

هاجر مصطفى جبر


قال: أنتِ مهرة شاردة، فشلت كل محاولات الترويض.

كيف يشبهني بما أخاف، أخاف الخيل، أراها مشروع كسر... ذراع...قدم... ظهر... العنق وينتهي الأمر، رغم كل محاولات أبي لتعليمي الفروسية لكن ضربات قلبي السريعة تحرك أقدامي نحو البيت لأختبئ بحضن أمي باكية: "أنا ذاهبة للمشاهدة.. لن أقترب من الخيل"، تمسح دموعي وترجوه أن يصدق أنه أنجب فتاة لا صبياً، كانت ترى في محاولاته إنكاراً لأنوثتي، ورغبة فيما فشلت في منحه إياه.

كنت هناك عندما صرخت "تمر" واضطرب الجميع، الولادة متعسرة، عروق يد أبي قافزة للخارج تشكل خريطة خضراء قاسية.

لم يرخ والدي قبضته إلا ليلمس جسد المهر الجديد.

رأيته صغيراً مثلي.. ضعيفاً.. لم يبث الخوف في قلبي كأمه وأبيه بل الشفقة، وعيون ذابلة تستجدي الاهتمام، اقتربت منه وبدأ أبي في ترويضنا معاً.

كبر زياد في كنفي وصار لي وحدي لا أسمح بلمسه.

...

يرتدي جلباباً أزرق بلون عينيه، يمسك عصا يلوح بها في الهواء.. واقف على قدم واحدة والثانية مرفوعة في حركة تشبه رقص الخيل.. كان التحطيب ولا زال غروراً صعيدياً آسراً.

جذبني غروره ومكره.. كان يشبه زياداً.

لم يأخذ رجل عيني كما فعل...

تبادلنا كلمات تشبه الصهيل...فكلانا عاشق خيل... كلانا مغرور.

...

بالصحراء أنا وزياد أحكي عنه وشعور بالعطش ينبت داخلي، ليس كعطش الصحراء، عطش كالفتنة، لا يرتوي بماء... ومع عودتي للإسطبل كان هناك.

لا يمر أسبوع دون لقاءين بين الصحراء البعيدة، وبين طريق الإسطبل، عن يَميننا الخضرة وعن اليسار بحر البطس المتفرع من بحر يوسف بالفيوم. لهذا البحر قداسته في قلوبنا، هل هي من ماض سحيق، أم لأنه حتى وقت قريب كان يرتفع منسوبه ويغرق القرى في مشهد نراه نحن أبناء المدارس خارجاً من كتاب.

لو سأخلق أسطورة ستكون عن بحر البطس، وسأنشئ الكثير من الطقوس الأسطورية المعقدة المليئة بالهيبة والقداسة.

...

تأسرني ضحكتك التي لا أميزها عن صهيل زياد... لكن كيف لم ألحظ الناب الظاهر!

دعوت لك بدوام الضحكة... فجلبت لقلبي دوام الألم!

منحتك زياد هامسة في أذنه "استودعتك قلبي لا تهدره يا صديقي"، لمحت بعينيه الغيرة لكنه حماك... حتى عندما حاولت القفز من فوق الغصن المائل لم يستجب لك... لعامين معاً... لم يحبك زياد... كان أبصر مني!

...

أتت لتجلس بجوارك.. كتفها يلامس كتفك.. أنت من دعوتها لتعلن احتلالك من قبلها.

كانت النار بداخلي تصدر أزيزها، أخشى أن تسمعه، أتحدث لصديقك بصوت عال تارة وأخشى أن يتصاعد حريق كبدي مع الكلمات فأصمت فجأة، صمتاً أسمع فيه فرقعات أضلعي المشتعلة... أوهم نفسي أن مَن يحترق ليس أنا.. أن تلك الأصابع التي تتشابك مع أخرى لم تكن لي يوماً.. أن الكتف الذي يلامس الغريبة لم أتكئ عليه قبل.

أن تنكر حريقك وتخرج من المكان يعلوك السواد.. كمنزل احترق كل أثاثه... حتى جدرانه سقط طلاؤها... وحده السواد والاختناق... ورغبة الترميم يخطها البقاء الحالم... ورغبة العدم من وحي واقعك... أي تسير مقسوماً على ذاتك، يراك الجميع إنساناً وحدك ترى نفسك تسير كحيوان ذبيح، يداك وقدماك بالأرض حتى عنقك ثوان ويسقط بين أطرافك.
...
زياد هل تشعر بي؟
إنهم يقتلون الجياد... يا زياد
سيقتلونك يوماً.
انتقم لموتك المحدق بقتلي... انتقم لسلفك ونسلك.
لا أحتمل هذا الألم.
لو كسر ساقك سيقتلونك.. كسر قلبي يا زياد فافعل.
لا أحتمل هذا الألم.. يا خيلي الوفي.. يا صديقي الحميم.. هبني سقوطاً لا حياة بعده.. اجعل من البحر المقدس قبري.. اجعلني آخر عروس نيل.. أسقطني فجأة وأعدك ألا أتشبث، لن أجذب لجامك.. لن أغرس أظافري.. لن أهز سرجك.
إنهم يقتلون الجياد يا زياد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها