شعرية الألم والأنفاس المكتومة

في "أنفاس الكينونة" لعبد الحق ميفراني

مبارك أباعزي


صدر ديوان "أنفاس الكينونة" للشاعر المغربي عبد الحق ميفراني في طبعته الأولى سنة 2023 عن منشورات بيت الشعر في المغرب. يتكون الديوان من 109 صفحة، ويتضمن اثني عشرة قصيدة. وقد سبق للشاعر أن أصدر ثلاثة دواوين شعرية هي: "كولاج الشاعر" (2001)، و"صمت الحواس" (2008)، و"أكواريوم من الألم" (2014). كما صدر له في مجال النقد كتابان: "شعرية الحرب وعنف المتخيل" (2008)، و"القصة القصيرة بين التجريب والتخييل" (2011).
 

"أنفاس الكينونة" من الدواوين القلقة المقلقة؛ قلقها مرده أنها أنفاس مضطربة لروح معذبة، فالقصائد تحمل وجع الأحلام الهاربة، والثورة الموؤودة، والوطن الجريح، والاشتراكية التي تركوها في منتصف الطريق؛ ومقلقة لأن استغوار دلالتها متعذر ما لم يتزود القارئ بثقافة فائضة، إذ يأخذ المعنى في نصوص عبد الحق ميفراني مسار السيميوزيس/ التدليل التناصي؛ فالمعاني غَوانٍ لا تنزل من الأعالي إلا بعد صبر وتأن وطول تأمل، إنها معانٍ عنيدةٌ متصلبة مثل حصان حَرِن لا ينقاد إلا لفارسه، ودلالاتٌ متحصنة داخل غموض متشابك العرى لا يلتئم شملها إلا بزج نص خارجي داخل قلعة القصيدة، ذلك النص هو توأم القصيدة، تتوارد خواطرهما وتتفاعل حواسهما، وبهذا النص التوأم وحده تستجيب المعاني وتنكشف الدلالات.

هذا الديوان يحمل بصمات الذات ولوعاتها، فهو سيرة شعرية أو سيرة ذاتية بآلية المجاز، لأن القصائد ليست منقطعة الدلالة عن بعضها، بل تتواشج في هاجس واحد هو هاجس الكينونة ولادةً وحياة. وحين قال الشاعر: "آن لي أن أكتب سيرة القصيدة" (ص: 38) كان يقصد قصيدة السيرة أيضاً. وثمة مؤشرات نصية دالة على الاشتغال الجمالي على الذات، منها قول الشاعر: "خمسون خطوة، ترجلت بين الميم والقاف" (ص: 35). وقوله: "بين الغرفة 1969 والغرفة 2020" (ص: 34). إنها خمسون سنة وسنة من حياة الميم والقاف، من حياة عبد الحق ميفراني، وبعدها، كما يقول: "عبرت العالم بين جدران الخيبة، والخسارات، سقطت واقفاً..". لقد جاء الشاعر سنة 1969 إلى هذا العالم ليلا ليعيش الخيبات والمآسي، في أكتوبر الخريفي تحديداً حين تتساقط الحياة من الحياة، و"يرحل السنونو"، وتنغلق المسالك؛ فلا أمل، ولا أحلام، ولا حب، ولا موسيقى، ولا بحر، ولا مطر، ولا وجود سوى للعتمات والظلال والالتباس، والعدم والموت، والجنون والحنين والحزن، والريح التي تأخذ النبض من الروح. وشعرنة السيرة في كل ما سبق يعد تحولا من "صمت الحواس" إلى "أنفاس الكينونة"؛ من الوجود الصامت إلى الوجود الصائت، حتى وإن كان الصوت مجرد نفَس يهشم الصمت.

إن النص التوأم في قصيدة "كمامة الغريب"، على سبيل المثال، هو قصيدة "المرآة" لسيلفيا بلاث التي تقول فيها: "أنا فضية ومتقنة.. لست قاسية، إنني صادقة فحسب، مثل عين إله صغير". فيما يقول عبد الحق ميفراني: ""سيلفيا" الصادقة تماماً، المرأة الفضية المكتئبة حد الثمالة، "عين إله صغير" تلوح لي غير ما مرة.. لست صادقا "سيلفيا"، لم يترك لي الوطن بعضاً من روحي، أخذوا لي كل شيء.. وتنقصني جرأة الفاشلين".

إن وشي اسم الشاعرة الأمريكية في نسيج القصيدة ليس تزيينياً أو إثباتاً لسعة اطلاع، بقدر ما هو إلحاح دلالي لا يتحقق إلا بهذا الاسم، والأمر لا يتعلق أبداً بالنزوع الانتحاري الذي أقدمت عليه الشاعرة مرتين، نجحت ثانيتها حين أغلقت مطبخها وأطلقت الغاز وهي تسند رأسها إلى الفرن المشرع، بل في الاكتئاب الذي تولده الأيام الصعبة حين تنهال الأحزان وتداهم القلب. إن النص التوأم/ النص المجاور إذن هو الألم المجاور، هو الشاعر ميفراني/ الشاعر بلاث التي تنام وهي تعلم ألمها، وليس في الحياة متسع للبوح والشكوى بقدر اتساع الأوراق البيضاء.

يقول ميفراني: "عندما تضيق هذه الأرض/ يتسع هذا البياض/ وتفتح اللغة فخذيها "تماما"". ولما كان الأمر غير إيروتيكي أبدا، فلأن التفكير في الأنثى غير ممكن لروح تنتظر في المزاد مثل جارية قبيحة لتباع بثمن بخس، ومع ذلك لا أحد هناك ليشتريها. وهنا قرر الشاعر أن ينزع كمامته ويتصالح مع غربته في وطن انسكبت فيه دماؤه على شلالاته فأضحت معرضاً للفرجة ومنظراً للمتعة. يقرر الشاعر التكيف مع الألم كما فعلت بلاث قبل أن تنتحر، لكنه في المقابل يهوى الموت ويخشاه، مثل جورج صاند التي استهواها الانتحار غرقاً، لذلك ينتظر من ينقذه من الحياة ولو على صيغة أقل جرأة هي حقه في الرحيل الإرادي في ما يسمى بـ"التانازي": "لذلك ظلوا يمرغون الألم الأمل في الوحل، لأنه الأنسب لعيون "سيلفيا" ولي، معا هواة الموت، وفلسفة "الأوتانازيا"". والحق أن الشاعر لا يلام على هذا المشهد المأساوي الذي وضَعَنا فيه، فقد حذرنا منذ البدء من صفحات الديوان المشرعة على الألم حين أورد موازياً نصيًا لسيفيا بلاث نفسها ورد فيه: "أنا دائما بخير، أعرف كيف أتجاوز كل شيء وحدي، أعرف كيف أنام وفي قلبي ما يكفي من الألم"، فليست سيلفيا هي التي تنطق، بل الشاعر الذي ينطق من خلالها، لذلك فهما يبدوان متماهيين تماهياً صوفياً.

وفي قصيدة "يوميات كلماتي خارج النص" يلعب الحرف دور البطل في هذه اليوميات، فهو يبحث عن الكلمة صباح مساء، ويعقد اجتماعات مع الحروف الأخرى، ثم يصير هذا التضافر منتجاً للشعر الذي يصيح فجأة ليقول إنه موجود وكائن. أما قصيدة "تفاصيل للبياض" فهي قصيدة النفي، فكل أسطرها تبدأ بـ"لم"، وفيها يبدو أن الشاعر يُسرُّ للأوراق البيضاء أنها (من هي؟) لا تعرف عناد القصيدة وشغفها وعذابها. وفي صيغة أمرية/ نافية جاء عنوان قصيدة "لا أحد يمر"، قصيدة تم فيها المزج بين الشكل الطباعي لقصيدة النثر والشكل الطباعي لشعر التفعيلة، وفي هذه القصيدة ترضخ الذات الشاعرة للموت وتطلبه، وهذا الرضوخ هو ذاته نشيد العدم الذي تنشده ذات الشاعر في قصيدة "ضوء على ضفيرة سحابة الخيبة"، ذاك النشيد العائم في كلمات خلَّفها الشاعر وراءه يقول عنها: "لا تقتل أحداً سواي". وفي قصيدة "الغرفة 1969" فتمثل غرفة الولادة سنة 1969، وهي الولادة التي تحققت بفعل الصدفة، ومن ثمة الولادة الخطأ، لكنها ولادة شعرية أنجبت طفلا في اليوم الرابع من أكتوبر أمره الصوفي أن يكون شاعراً: "كن/ نطفة الحكمة/ وظل الدهشة/ واستعارة الروح". أما قصيدة "كمامة الغريب" فتكشف تحول الشاعر إلى غريب؛ غريب عن نفسه وغريب عن العالم، والكمامة نفسها تغطي الوجود وتؤسس للغربة، فبها يخفي الشاعر نفسه، ليس لأنه يخشى شيئاً، بل لأنه غريب يرفض غربته ويمقتها حد التخفي ولو وراء كمامة.

وهذه القصيدة، قصيدة "الغرفة 1969"، تحتفي بفائض معنى أسطوري وفكري وأدبي وموسيقي (أطلنتس، لالة ميرة، ماركس، تشي غيفارا، أحمد العربي، السهروردي، الحلاج، ابن الرومي، ابن عربي، النفري، طاركوفسكي، سليم بركات، أزينشتاين، الركاب، خير الدين، فاطمة المرنيسي، مارسيل خليفة)، وفي قصائد أخرى يحضر بليخانوف وأدونيس وكارل ساندبرغ، وهايدغر ومحمد الماغوط. لذلك يؤسس الشاعر للدلالة الشعرية عبر موازيات نصية/ عتبات خارجية فلسفية وأدبية ونقدية؛ فالعتبات الفلسفية يمثلها هايدغر الذي يجعل الشعر رديفاً للـتأمل الفلسفي، ومن ثمة يمكن اعتبار الديوان تأملاً فلسفياً في الوجود. والعتبات الأدبية تمثلها سيلفيا بلاث التي تعتبر معرفة التعايش مع الألم سر السلام النفسي. والعتبات النقدية يجسدها أدونيس الذي يرى الشعر رديفاً للكينونة. لذلك فالعتبات السابقة يمكن تأويلها على أساس تصور خاص للشعر مؤداه أن الشعر ترياق الوجود الشيق في العالم عبر التفلسف.

يجسد ديوان "أنفاس الكينونة" للشاعر عبد الحق ميفراني لوعاتِ الشاعر وأحزانَه وانشغالاته الفكرية والوجودية، ويكشف عن صورة الروح وجوهر السريرة وما يخالج الذات من هموم وهواجس إزاء العالم الكائن. وتؤدي الموازيات النصية في هذا الديوان دوراً كبيراً في الانفتاح الجمالي والدلالي على عوالم الديوان الغنية بالمكاشفات الشعرية والاستعارات المبتكرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها