العقل.. وجدلية الدين والسياسة

وقفة مع الفيلسوف باروخ اسبينوزا

د. عبد الهادي صالحة

يُعد المفكر "المنهجي" الأهم بين فلاسفة القرن السابع عشر؛ إنه فيلسوف من الصعب تصنيفه وفهمه بالنسبة للعديد من المثقفين، يحظى بشعبية كبيرة اليوم، وثمة هتمام كبير للمجتمع الثقافي به؟ عباقرة عظماء في تاريخ البشرية، غوته، آينشتاين، هيغل، ماركس، نيتشه، فرويد.. أدركوا كيف غيَر هذا الفيلسوف حياتهم، واعترفوا بحضوره في فلسفاتهم. كان دونيس ديدرو معجباً بمقولته: "يجب أن نحذف جميع العقائد التقليدية، ونبتدئ بالتفكير من نقطة الصفر، فالأصولي المسيحي، والأصولي اليهودي، والأصولي التركي جميعهم متعصبون، ويفهمون الدين على غير حقيقته، وبما أن المعتقد فقد تأثيره على الأخلاق؛ فإن الروح فسدت هي الأخرى".
 

إن قراءة أعماله يمكن أن تساعد الكثير من الناس على رؤية الأشياء بشكل مختلف، وبنظرة جديدة.. لقد كان اسبينوزا أول فيلسوف في عصر التنوير طمح للعالمية، التي كان يعتقد أنه لا يمكن تحقيقها إلا من خلال فصل الإنسان عن انتماءاته الدينية أو المجتمعية. لقد أراد تماماً أن يصبح مواطناً عالمياً عن طريق العقل.. ومع مواجهة السياسات والثقافات والأديان، تعيد العولمة إحياء أسئلتنا الفلسفية والدينية حول معنى وجودنا وتطورنا.
 

وُلِد باروخ اسبينوزا Baruch Spinoza في (1632–1677م)، وينحدر من أصول يهودية هولندية ثرية، تلقى تربية دينية صارمة، ولقن اليهودية في الكنيس الذي سمح بإقامته في أمستردام، المكان الذي عاش فيه ديكارت، وفيه وُلدت الفلسفة الحديثة.. ذاع صيته كمفكر إشكالي معارض اضطهدت محاكم التفتيش أسرته في إسبانيا، فغادرها إلى هولندا حيث اتهم بالهرطقة وبخيانة اليهودية، فطرد من الجماعة اليهودية عام 1656 بسبب تفسيره النقدي لنصوص التقاليد اليهودية، وهذا ما سوَغ للكنيس اليهودي تكفيره بفتوى لاهوتية (1665)، وهذا أيضاً حرمه الإرث العائلي، ثم غادر إلى هولندا التي كانت أرض لجوء لأولئك الفارين من الاضطهاد السياسي والديني. درس التوراة بالعبرية اللغة الأصلية، ثم تحول إلى المسيحية، لكنه ظل مخلصاً لدينه اليهودي، ثم انتقل إلى دراسة الفلسفة في القرون الوسطى، لا سيما كتب ابن ميمون، أبو عمران موسى (1135 – 1204م). مات اسبينوزا عام (1677) بالسل، وهو يردد " ليس للحرية الفلسفية حدود". اطلع باروخ اطلاعاً واسعاً على الأديان والمذاهب، وساعده في ذلك سيطرة البروتستانت الليبراليين في هولندا، حيث أقام علاقات سرية معهم. ولم يلبث أن تعلم اللاّتينية التي سمحت له بأن يطلع على الفلاسفة المعاصرين، وأهمهم فرانسيس بيكون (1561 – 1636)، وتوماس هوبز (1588–1679)، ورينيه ديكارت (1596–1650)، هؤلاء الفلاسفة أشبعوا تطلعه نحو المعرفة الكلية، التي أسهمت بدورها في مغادرته التراث اللاهوتي.

كانت رياح الحرية التي هبّت على جمهورية هولندا الفتية حاسمة في مساره الفكري، وهناك نشر أول كتبه "مبادئ فلسفة ديكارت". يشكل فكر اسبينوزا ثورة سياسية ودينية وأنثروبولوجية ونفسية وأخلاقية حقيقية. فقد تعرف باروخ اسبينوزا في هولندا على العالم هويغنز Huygens، ثم تعرف على جان دوفيت Jan Dewitt زعيم الحرب الليبرالي، ثم ألّف كتابه الإشكالي الشهير "مقالة في اللاهوت والسياسة Traité Thélogico-politique"، وهي مقدمة عصر التنوير وديمقراطياتنا الحديثة. ولا بد من التنويه أن مقالته في جانب كبير من جوانبها دفاع عن رجل الدولة الليبرالي جان دوفيت، صديقه الذي أعدمه الغوغاء في 20 أغسطس 1672 والذي حماه مدة حكمه، والذي كان أيضاً يمثل خرقاً لحكم الأوروبي المطلق في هولندا وغيرها، فقد بشر عبر سلوكه السياسي والفكري بعصر العلم والديمقراطية، وكان يعلن صراحة احترامه لحرية الفكر، ويثمن غير قليل الضمير الحي للمفكرين ورجالات العلم في عصره، ولم يكتف باحترام رجالات العلم بل دعا إلى استقلال الدولة عن سلطة الكنيسة. في الحقيقة، أراد اسبينوزا التنديد بجريمة إعدام صديقه التي تركتها السلطات السياسية دون عقاب. وتعتبر هذه الأطروحة اعتذارًا عن حرية التفكير والتعليم، ونداء لحرية الفلسفة.

يُظهر اسبينوزا في مقالته الشهيرة أن الكتاب المقدس ليس له مصداقية فلسفية، وأنه ليس نصاً يبحث عن الحقيقة. لا يوجد شيء فلسفي حوله سوى الأوامر الزجرية، التي هدفها الوحيد طاعة الجماهير. لذا؛ فإن الحرية (وخاصة حرية الفكر) تفترض بالضرورة انتقاد أي دين، والكتاب المقدس، على العكس من ذلك، يحافظ –حسب رأيه- على الخرافات، وبهذا المعنى هو عدو الفلسفة. وعلى هذا الأساس، يسمح الناس لأنفسهم بأسوأ الفظائع، أما النبوءات فهذه قرارات السياسيين. على سبيل المثال، لا يمكن أن يغضب الله (ليس لديه عواطف). لكن الحديث عن غضب الله يمكن أن يخدم السلطة السياسية. لا يمكن أن توجد حرية الفلسفة إلا في دولة ديمقراطية، أي في دولة تأسست على فكرة أن القوانين هي دائمًا إنسانية. القوانين هي سياسة وليست قانونية فقط؛ لأنه من الطبيعي أن نعيش معاً، وليس هناك ما هو أكثر فائدة للإنسان من إنسان آخر، يجب أن تكون الحرية تعاوناً، وهو ما يفترض في الديمقراطية، وليس الاستبداد الأعمى. لا يستطيع الإنسان الهروب من السياسة؛ لأنه -كما سنرى من تحليل حالة الطبيعة- هو حيوان خطير. إن الوجود البشري عاطفي بشكل أساسي، ومعظم الناس غير قادرين على العيش فقط بالعقل. في هذا السياق يشكك اسبينوزا في الجموع والجسد السياسي. في الأطروحة اللاهوتية السياسية، يتجسد هدف السياسة والدولة، حسب قوله، في الحرية. لكن يتعلق الأمر بمعرفة كيفية التوجه نحو هذه الحرية مع ضمان استقرار الجسم السياسي. لا يجب أن تضمن الدولة السلام والأمن فحسب، بل يجب أن تضمن الحرية أيضاً. للقيام بذلك، يستخدم اسبينوزا طريقة واقعية : يجب على المرء أن يعتمد على الطبيعة البشرية والأداء الفعلي للدول للحفاظ على الجسم السياسي واستقراره، وليس على تصور مثالي للجسد السياسي.

هدف هذا الكتاب الذي جر عليه الويلات، وتحالف اللاهوتيون اليهود والمسيحيون ضده، هو تحرير عقول الناس من الآراء المسبقة لرجال الدين التي تحول بين الفلسفة وعقول البشر. وقد شن الأصوليون عليه حملة عارمة، وكانت الفتوى التي صدرت ضده –وما تزال– تمثل اغتيالاً للعقل ولحرية الفكر ولحرية الرأي، وهي محاولة غير مناسبة لطبيعة القرن السابع عشر، فقد نجح اسبينوزا والفلاسفة في أن جعلوه عصر العقل، وجعلوا من الفلسفة الدين الحر الأهم. لقد بنى من خلال هذا الكتاب عملاً فلسفيًا ثوريًا في سن مبكرة جدًا، في سن العشرين. كيف يمكن لهذا الرجل، في أقل من عقدين، بناء فكرٍ عميق بقدر ما هو ثوري؟!

انتقد اسبينوزا بنفس القوة جميع الأديان التي تنشط المشاعر الحزينة لدى الأفراد، وخاصة الخوف، من أجل استعبادهم بشكل أفضل عندما يبتعدون عن دعوتهم الفريدة، لتعزيز تنمية العدالة والإحسان من خلال الإيمان، وتقليل كراهية الآخرين وعدم التسامح؛ عندما يُظهر المؤمنون النفاق أو يعتقدون أنهم متفوقون على الآخرين، لذلك فهو يرى أنه بمجرد اتباع العقل الطبيعي، لن تحتاج إلى الدين بعد الآن. عرض اسبينوزا آرأه في الدين من خلال أطروحته "مقالة في اللاهوت والسياسة traité Thélogico-politique"، حيث بيّن أن الدين والفلسفة ينشدان غاية واحدة، ويسعيان وراء غرض مشترك هو سعادة الفرد والمجتمع، وإذا كان كل منهما ينتهي إلى ضرب من اليقين، ويحقق السعادة المرجوة فليس هناك ما يدعو إلى اختلافهما، وما يعزى إليها من خلاف لا يرجع بحال إلى طبيعتها؛ وإنما منشأه في الواقع سوء تصرف المشتغلين بهما؛ فإن كنا نريد لهما صفاء دائماً، فلنفصل كل واحد منهما عن الآخر، ولنترك للفيلسوف فلسفته، وللمتدين عقيدته، وعلى الكنيسة أن تعطي العلماء حريتهم الكاملة في الدراسة والبحث، فالفلسفة واللاهوت ميدانان مستقلان لا علاقة لأحدهما بالآخر، ولا يمكن لمبادئ الفلسفة والعلم أن تتناقض مع الدين، أو أن تشكل خطراً على الفضيلة الدينية، وعلى الحالة الأخلاقية للمجتمع.

وقد بيَن اسبينوزا في رسالته رأيه في أصل التوراة، وأنها ليست وحياً بل مجموعة من الكتب عكست التصورات والمثل الأخلاقية للناس الذين وضعوها، وتتلاءم مع المستوى الأخلاقي للعصر الذي وضعت فيه، وقد أثار هذا الرأي هجوماً عنيفاً على اسبينوزا من الأوساط الكنسية واللاهوتية... فقال: "عدوني إنساناً، عدوني مواطناً عادياً، ولا تنظروا إلى أصلي وفصلي، أو إلى ديني ومذهبي، فأنا إنسان قبل كل شيء، ولم أختر هذا الدين ولا ذاك، لم يخبرني أحد لكي أولد في عائلة يهودية أو في عائلة مسيحية، في عائلة كاثوليكية أو في عائلة بروتستانتية... حاسبوا الناس على وطنيتهم وعلى أعمالهم، أي على شيء لهم الخيار والتقرير فيه".

انحاز اسبينوزا انحيازاً تاماً للعقل، وتأثر بفلسفة ديكارت التي كانت شائعة في هولندا، والتي تقدس الفكر والعقل، وبدا في ذلك مفكراً تجريدياً خارج الأزمنة الأوروبية وخارج الجغرافية البشرية، اقتبس سبينوزا من ديكارت المنطق والطريقة، ولكنه بسطهما لا بل فقرهما، واتبع في عرض أفكاره أسلوب اللاهوت المألوف ولغته، وقد يحسب من يقرأ كتاب "الأخلاق"، وهو من أشهر كتبه وأهمها، أن الفيلسوف يتكلم لغة الأتقياء، ولكنه ينتقد في الباطن جميع الأديان انتقاداً مراً، ولاسيما اليهودية والكاثوليكية، وقد يبدو كتابه "مقالة في اللاهوت والسياسة Traité Thélogico-politique" دعوة إلى انتظام السياسة بالدين الصحيح، ولكنه في الواقع سلاح عقل جبار يحارب رجال الدين جميعاً. وقد أثرت فلسفة ديكارت الأخلاقية في نظرة اسبينوزا للأخلاق، لقد شاركه في نظريته الأخلاقية إلى الإدراك الواضح وسيطرة الإرادة العاقلة على الانفعالات والأهواء، فقد عرّف الكمال تعريفاً عقلياً وجعل السعادة المثل الأخلاقي الأعلى، وغاية السلوك الإنساني، وهي تتمثل في كسب اللذة والخلو من الألم، وحلل مفهوم الأنانية ونشأتها عن غريزة حب الذات؛ وأنه لا خير من حب الإنسان لنفسه ولا بد من الفهم كأساس للفضيلة، وأن الهوى فكرة ناقصة، والعاطفة عمياء، وسلوك الإنسان فاضل متى جرى بمقتضى العقل، وتحرر من الشهوات والأهواء، وأن الإنسانية تسمو بمقدار تحررها من سيطرة الغرائز. وقد أشاد به أرنست رينان وهو يدشن تمثالاً له بقوله: "ولم ير أحد الله عن كثب مثلما رئي من قبل اسبينوزا". في الوقت الذي رآه معاصروه اللاهوتيون: "ليس يهودياً صالحاً ولا مسيحياً فاضلاً".

في نظامه الفلسفي، يضع اسبينوزا إذاً العقل في مركز كل شيء. إنه مقتنع، وسيحاول إثبات ذلك، أن كلية الواقع -من المجرات البعيدة إلى قلب الإنسان- تحكمها قوانين ثابتة، تفسر كل الظواهر، وبأن العقل قادر على فهم الآليات التي تحددنا، فإنه يقترح طريقًا للتحرر قائمًا على الملاحظة الدقيقة لأنفسنا، وعواطفنا، ورغباتنا، وتكويننا المادي، الذي وحده سيحررنا. آمن اسبينوزا بالعقل كمصدر للحقيقة، ولم يعتمد منهج الشك كما فعل ديكارت، ولم يقل مثله بضرورة مطابقة الفكرة للواقع؛ لأن الفكرة عنده تحمل شهادة صدقها بذاتها، أي أن الحقيقة هي فعل العقل الذي تخلص من الأفكار العامة المجردة، ومن صور الحس والمخيلة، ومن الأفكار الخاطئة. فهو يقول : (الفكرة الحقيقية شيء منفصل عن موضوعها المتحقق، فالدائرة شيء، وفكرة الدائرة شيء آخر). وقد عمل جاهداً ليحرر الفكرة الحقيقية من كل سطان عدا ماهيتها الذاتية، وليبين أن العلم المعقول فقط ولا شيء غيره. أي أن منهج اسبينوزا هو عقل العقل لذاته، فكلما اتسع فهم العقل للأشياء كان المنهج أكمل، وللعقل حدود، فهو لا يتمكن من إدراك ماهية الجوهر اللانهائي إلا في علاقة الفكر والامتداد.

وجد اسبينوزا نفسه منذ بداياته في مواجهة أمرين خطيرين متلازمين هما: الدين والسياسة، إذ اكتشف أن المشكلة تكمن في اللاهوت الظلامي القمعي الذي يخلع التسويغ الإلهي على الاستبداد السياسي، ومن هنا أبدى قناعته أنه لا يمكن التحرر من الاستبداد السياسي ما لم يتم التحرر من الاستبداد الديني... بدأ اسبينوزا مشروعه من نقد الكتاب المقدس بقوله: "الكتاب المقدس ذو طابع تاريخي وبشري أيضاً"، وقال: "ليس هدف الروح القدس أن يعلمنا من خلال النصوص المقدسة التركيبة الفيزيائية أو الفلكية للسماء، وهذه من اختصاصات العلوم الطبيعية؛ وإنما هدف الروح القدس هو تعليمنا كيف نصل إلى السماء، وليس كيف صنعت السماء.. سعى اسبينوزا إلى تحرير الدين والسياسة، وكان يرى أنه لا يمكننا فعل ذلك إلا إذا فكرنا بحرية، وفهمنا أن الديمقراطية هي أفضل صيغة من صيغ الحكم؛ لأنها تحقق متطلبات الحرية والعقل، ويرى أن من حقوق المواطن الأساسية المشاركة في السلطة العليا وإشعاره أنه هو الذي يسير أمور الدولة، وأنه يعيش وفق إرادته الخاصة ووفق عقله وتفكيره الخاص.

شجب اسبينوزا التواطؤ بين الدين والسلطة السياسية، الذي كان أسلافه ضحايا له... وإن رغبته في حرية الضمير والتعبير تنبع من خلفيته العائلية الصعبة في تاريخ عائلة اسبينوزا، هناك الكثير من المعاناة المرتبطة بالتواطؤ بين الديني والسياسي، مما أدى إلى ظهور شكل من أشكال الاستبداد حيث يتم اضطهاد بعض الطوائف. في الواقع، عانى الأخيرون في أجسادهم من الفظائع المروعة لمحاكم التفتيش في إسبانيا. وهولندا –كما أسلفنا- هي أحد الأماكن القليلة حيث تم التسامح مع ممارسة اليهودية. كان اسبينوزا يعتقد أن اللاهوت المسيحي هو الذي يخلع المشروعية على الأنظمة الفاسدة، سعى إلى تفكيك النظام السياسي الاستبدادي بعد أن فكك النظام اللاهوتي التقليدي. وكان يعرض على العامة، للخروج من هذه الحالة، بأن يطبقوا المنهجية العقلانية على النصوص الدينية من أجل التخلص من الانحرافات والأوهام، وبعدئذ ينبغي تطبيقها على طبيعة المؤسسات السياسية. في الحقيقة، خط اسبينوزا للفكر الغربي منهجاً جديداً في الفلسفة الحديثة، وهي فلسفة تقوم على ثلاثة محاور: "الحرية، العلمانية، الديمقراطية".

إن أطروحته اللاهوتية السياسية كانت بيانًا لحرية الضمير. لقد دعا إلى استقلالية الدولة عن سلطة الكنيسة، وغدا منارة لكل باحث عن الحرية، ولكل من وجد يقينه العقلاني في الفلسفة، كان يسعى إلى تقوية السلطة الزمنية ضد سلطة الكنائس المسيحية. ويعد أول فيلسوف يدافع عن التساح في العصر الحديث. كان اسبينوزا رائد السياسة الحديثة، كونه الفيلسوف الأول الذي حدد أفضل نظام سياسي، في هذه الحالة الديمقراطية، التي تفصل السياسة عن الدين وتضمن حرية الضمير والتعبير. من نواحٍ عديدة، لم يكن سبينوزا سابقاً لعصره فحسب، بل لعصرنا أيضًا. لكنه يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يخبرنا أن الديمقراطيات لن تعمل بشكل جيد طالما أن هناك عواطفَ حزينة، ويعذب الأفراد بالخوف والاستياء والغيرة، والتي ستولد دائمًا الظلم والعنف في مجتمعاتنا. تثبت الأزمة الحالية في ديمقراطياتنا أن اسبينوزا كان محقًا تمامًا. كان سبينوزا يمثل "طريقة أخرى"، بديلة عن تلك التي سادت القرون التي سبقتنا، وهي طريقة ستؤكد على الذاتية حيث سيكون الإنسان المعاصر هو الذات الحرة التي تقول "أفكر" وتعرف قوة المحدود. إن الذاتية التي حملها الفلاسفة المعاصرون في جلالهم، ديكارت، كانط، فيشت، هيجل، نيتشه... هو أحد أعظم المفكرين المعاصرين للديمقراطية والعلمنة. بالنسبة له، لا ينبغي أن يكون الدين قوة، لكن "أحب قريبك كنفسك" هو أحد أسس الجمهورية الحديثة. أحد أعظم المفكرين المعاصرين للديمقراطية والعلمنة.

هذا هو كل ما يندد به اسبينوزا بقوة في جميع الأديان. انتقد بشدة اليهودية وكذلك المسيحية أو الإسلام. فكلما ذكر الإسلام، كان عليه أن يوجه نقدًا خبيثًا للخلط بين القوى الزمنية والروحية التي يحافظ عليها هذا الدين. لقد أعطت فلسفة اسبينوزا الإنسانية تصورًا متفائلًا للإنسان الذي يحتفل بحياته وتأثيراته النشطة، وكذلك البحث عن الحرية، ولكن من خلال كتابتها في الطبيعة وربطها بالله. سعى اسبينوزا باستمرار إلى تأكيد الذاتية التي حملها الفلاسفة المعاصرون. سبقت أفكاره عصره، بل إنه أسس لظاهرتي العلمانية والحداثة، وقد تبنت الظاهرتان منهجه فيما بعد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها