الورد والفخّار

باسم سليمان

عندما وقعت عيناها على أصص الفخّار المنقوش على جوانبها أبيات من الشعر، كبيت الأعشى في وداع حبيبته هريرة:
ودِّعْ هُريرةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ... وهلْ تُطِيقُ وداعًا أَيُّها الرَّجلُ

طلبت من صاحب دكّان الفخاريّات أن يشحن إلى محلّ بيع الزهور جميع الأصص المزيّنة بالأشعار. لم تأخذ نفسًا، فما إن وصلت الأصص، بدأت تختار لكلّ زهرة أصيصًا مناسبًا من وحي بيت الشعر المكتوب عليه، فكان حظّ الأصيص الذي حمل بيت الأعشى؛ زهرة أذن الفأر، والتي تعني "لا تنساني/ forget me not". أمّا نبتة الصبار، فقد اختارت لها أصيصًا حمل بيت شعر لأبي صخر الهذلي:
عجبتُ لِسَعْيِ الدهرِ بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بينَنا سكن الدهر

هكذا اختارت لكلّ زهرة ونبتة في محل بيع الزهور الذي تمتلكه أصيصًا وبيت شعر. كان وقع هذا الأمر على عشّاق نباتات الزينة رائعًا، فأصبح محلّها علامة فارقة في المدينة يُقصد من كل مكان.

نمت مبيعاتها وكأنّها في فصل الربيع، فطلبت من تاجر الفخّار أن يؤمّن لها طلبيات جديدة من تلك الأصص التي رصّعت بأبيات الشعر، وتمنّت عليه أن يطلب من صانع الفخار أن يزيّن أصصه بشعر أدونيس، ومحمود درويش، ونزار، فوعدها خيرًا.

لم يكن صانع الفخار الذي يسكن في قرية نائية غرب البلاد، يأمل أن تزدهر مبيعاته بهذا الشكل، والأهم أنّ محبته للشعر، هي من فتحت له باب هذا الرزق. بدأ يتخيّر أبياته ويستذكر حبّه القديم، ففي كل بيت شعر ينحته على الفخار، هناك تفصيل يخصّه ويجمعه بتلك الفتاة التي سحرت قلبه، عندما كان في ريعان الشباب؛ فنحت على أصيص يميل لونه للزرقة شعرًا لأدونيس في ذكرى لقائه الأول بها:
"خَرَجَ الوردُ من حَوْضِهِ ... لمُلاقاتها، كانتِ الشَّمسُ عُريانةً.. في الخريفِ، سِوَى خَيْطِ غيمٍ على خَصْرها.. هكذا يُولَدُ الحبُّ.. في القريةِ التي جئتُ مِنها".

حاولت بائعة الزهر أن تعرف من التاجر، من هو صانع تلك الأصص الرائعة. خاف التاجر على رزقته، فقال لها بأنّه يستوردها عبر البحر، وأنّه من اقترح على ورشة الفخار في تلك البلاد خلف البحار أن يزيّنوا الأصص بأبيات الشعر، فشكرت له رهافة ذوقه، وقالت له: أودّ منك أن تطلب منهم أن يكتبوا على بعض الأصص جملة لمحمود درويش: "بكأس الشراب المرصَّع باللازوردِ انتظرها، على بركة الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا انتظرها"، فوعدها خيرًا.

كان يسافر التاجر في بداية كل شهر إلى تلك القرية الجبلية المطلّة على البحر، ويشتري ما أنتجه صانع الفخار، ويعطيه ورقة بالأشعار الجديدة التي طُلبت كتابتها. غدا صانع الفخار سعيدًا بإنجازه الخاص الذي يعيشه كما يشتهي، ويحياه مع بيت الشعر كما يود، من اللحظة التي يخلط فيها الصلصال بالماء، ثم يديره على العجلة ويشويه في الفرن، ويضعه بعد أن تنضجه النار تحت ضوء الشمس والهواء، وأخيرًا يقرأ بيت الشعر الذي نحته عندما كان الصلصال لينًا على الفخّار القاسي.

كان يفكّر أنّ حياته عبارة بيت شعر مكتوب على صلصال لين، لكنّه لم يمتلك الحظّ، ولا الجرأة؛ لأن يضع حياته في الفرن؛ لذلك كان يعتبر كلّ فخارة تخرج من الفرن وعليها بيت شعر من اختياره أو من تلك الورقة التي كان يأتي بها التاجر؛ بديلًا عن حياته التي لم تتقسّ في فرن الحبّ.

كثيرًا ما تمعّن بالخطّ المكتوب على تلك الورقة، التي حملها التاجر له، فكان قلبه يخفق كما لم يعهده منذ زمن طويل. ومع كل جملة شعرية أو بيت شعر مكتوب يقرؤه، تتدفق عليه الذكريات من الزمن الماضي، ولا يستفيق منها، إلّا وقد أنجزت يداه أصيصًا رائعًا من الفخار مكتوبًا عليه:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ...

فتتساقط دموعه على الصلصال الطري.

كم تمنّت أن تنام في المحل بين الأصص والزهور، لتقرأ على ضوء الشمعة بيتًا لأبي نواس:
حامِلُ الهَوى تَعِبُ.. يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ.. إِن بَكى يحقُّ لَهُ.. لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ"، ومن ثم تمسك زهرة وتنزع تويجاتها قائلة: يحبني، لا يحبني..

أمّا هو، عندما أضناه الشوق أمسك بأصيص، وحدّق فيه كثيرًا، كأنّه يرى حياته من خلاله، وبعد ذلك رفع نظره إلى الرفوف التي تحمل الأصص، ومن ثم ضرب الأصيص بالحائط، فتهشّم وتناثر إلى قطع عديدة، فالتقط آخر، وقذفه نحو الحائط، وهو يقول: تحبني، لا تحبني...

تقول الحكاية: منذ عشرين سنة تخاصم حبيبان؛ هي أصبحت بائعة ورد في العاصمة، وهو أمسى صانع فخار في قرية نائية غرب البلاد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها