في الحاجة إلى إيكولوجيا جديدة

الفاهم محمد


تقف حضارتنا المعاصرة في مواجهة أزمة غير مسبوقة. ظاهرة لم يتمكن الفكر البشري من معاينتها. إنها الأزمة البيئية والتي تدعى أيضاً بالمشكلة الإيكولوجية. نحن لا نجد على سبيل المثال محاورة لأفلاطون تتحدث عن الاحتباس الحراري، ولا مصنفاً لأرسطو يتناول فيه قضية الطاقات المتجددة، ولا تأملاً لديكارت يعالج مأساة الانقراض الجماعي للكائنات.


لأول مرة في تاريخ البشرية، أصبحت الأرض برمتها في كف عفريت "منزلنا يحترق"، تقول الطفلة السويدية المناضلة العالمية من أجل البيئة غريتا تونبورغ. مع ذلك ليس البيئويون والعلماء، هم وحدهم من يجهرون عالياً بهذه الحقيقة. بل كل شيء يصرخ اليوم: الاشجار، الحيتان، الحيوانات... الأرض برمتها تئن وترفع عقيرتها، تطلب النجدة بما آلت إليه أوضاعها.

 

ضعف الحضارة المعاصرة

نعتقد عادة أننا محصنون داخل مدننا، محاطين بجدران الإسمنت التي تحمينا، غير أن الضعف The vulnerability الذي نعيشه، يضرب عميقاً في جذور الحضارة التي نحيط أنفسنا بها.

المحاذير كثيرة: ارتفاع نسبة الكاربون في الغلاف الجوي، الاضطرابات المناخية، ذوبان القلنسوة الجليدية... ولكن رغم كل هذا يصر البعض على مواصلة سياسة النعامة. لا شيء يحدث يمكن أن يقض مضجع الاستهلاك المعمم؛ أي التخريب المنهجي لأمنا الأرض. وهكذا تواصل: "سفينة الحمقى العقلانيين" تقدمها المجنون نحو الهاوية.

نحن أبناء هذا العصر نجد أنفسنا رهينين للحظة تاريخية غير مسبوقة. لقد ورثنا إرثاً تقيلاً، يتطلب الأمر منا أن نقرر ما يجب أن نفعله بصدده. إرث الميتافيزيقا الغربية التي بلغت أوجها واكتمالها، في المشروع التقني الذي يطمح إلى الهيمنة الشاملة على الكرة الأرضية. هذه هي أسطورة الذات المتعالية، استبعاد الحيوانات لصالح البشر. استبعاد الروح لصالح المادة، استبعاد الطبيعة لصالح الآلة.

لذلك؛ فما نحن مطالبون به يتجاوز مجرد إجراءات بسيطة وتدخلات محدودة. الأمر يرتبط بإيجاد عالم جديد، حضارة بديلة لهذه الحضارة، التي تعيش المراحل الأخيرة لشيخوختها. أو هي بكلمة واضحة آيلة إلى السقوط حسب الأطروحة الشهيرة للكولابسولوجيا.

هل علينا أن نعترف -وإن كان بمرارة- بفشل المشروع الأنواري ونهاية المحكيات الكبرى، كما نظر لذلك فرانسوا ليوطار. "لقد ضل ما يسمى بالفكر العقلاني طريقه"، يؤكد عالم الفيزياء والكوسمولوجيا الفرنسي أورليان بارو في خاتمة كتابه: التحدي الكبير في تاريخ الإنسانية.

عصر الأنثروبوسين

لم يبخل علينا العلماء بمنح تسمية لهذه الأزمة. الأنثروبوسين The Anthropocene هذا هو المصطلح الذي راج منذ عام 2000. حيث تمكن الحائز على جائزة نوبل بول كروتزن من نحت هذا المفهوم، الذي يدل على أن الأنشطة البشرية، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالثورة الصناعية، قد غيرت بشكل ملحوظ التاريخ الجيوفيزيائي للكرة الأرضية. لقد أثار هذا المفهوم في بداية ظهوره بعض الشكوك، لكنه أصبح الآن مقبولا في المجتمع العلمي.

لا يصف الأنثروبوسين الوقائع الآنية فقط، بل أيضاً ما يحتمل أن تعيشه الأرض في المستقبل. على سبيل المثال توصي جل المؤتمرات البيئية بضرورة تخفيض درجة حرارة الأرض إلى حدود 1،5 درجة مئوية، أو الاستقرار في حدود درجتين على أكثر تقدير. غير أن الدراسات المستقبلية تؤكد أن الأمور ستزداد استفحالاً في المستقبل؛ إذ من المنتظر أن ترتفع درجة حرارة الأرض، لتصل إلى ما بين 3 و5 بحلول سنة 2100، وهذا من شأنه أن يفاقم الكوارث البيئية، التي بدأنا نعيش مقدماتها الآن: الجفاف والاضطرابات المناخية، وانتشار موجات الحرارة، الصيف الطويل كما يحمل عنوان كتاب بريان فاغان. وانخفاض المحاصيل الزراعية، حرائق الغابات واللائحة طويلة. في المحصلة النهائية يمكن التأكيد على أن: "ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي ليس مجرد ظاهرة نظرية. ولكنها ظاهرة تم قياسها والتحقق منها، عبر التخصصات العلمية وترتبط بشكل قاطع بالانبعاثات البشرية".
 

التنمية المستدامة

من الحلول الجدية التي تطرح من أجل الخروج من عنق الزجاجة، التنمية المستدامة، والمقصود بهذا المفهوم محاولة إيجاد التوازنات الضرورية والأساسية، بين الموارد الطبيعية والأنشطة البشرية، بما يحفظ البيئية بكل مكونتها، ويحفظ كذلك حقوق الأجيال القادمة. ثمة عدة تعريفات قدمت لهذا المفهوم، لكن جلها يركز على ضرورة احترام الأنظمة البيئية، والتعامل معها بشكل متوازن، بما يتطلبه ذلك من ترشيد للاستهلاك، وتخفيض استخدام الطاقة، خاصة الطاقات الاحفورية، واعتماد الطاقات البديلة سواء في عملية التصنيع، أو في الاستهلاك اليومي، كتدفئة المنازل وقيادة السيارات، بل والقيام بتغيير جذري لنمط الحياة المعاصرة.

هكذا تسعى التنمية المستدامة، إلى تحقيق مجموعة من الإجراءات، مثل تلك التي تعمل على مكافحة التغيرات المناخية، أو الحفاظ على التنوع البيولوجي سواء في الغابات أو المحيطات، ومكافحة التصحر، وانقراض الحيوانات، والعمل على تشجير الغابات.

بصورة مجملة تتحطم أسطورة الذات المطلقة، التي كانت الفلسفة الأنوارية تعتد بها. ذلك أن التنمية المستدامة لا تهدف فقط عن البحث عن رفاهية الإنسان، بل أيضاً الحفاظ على هذا العالم الذي يعيش فيه. هذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال مراجعة مفهوم الذات الأنوارية المتمكنة، والوعي بأن الكائنات جميعها متساوية في الحق في الحياة. فالإنسان جزء من الكل، ولا يمكنه أن يتوهم يوماً أنه يعلو على هذا الكل.

بطريقة أخرى نقول: بأننا نتجه اليوم إلى بناء فلسفة شمولية، يتقاطع ويتكامل فيها ما هو اقتصادي وسياسي، مع ما هو اجتماعي وبيئي ضمن بوتقة واحدة. هذه الفلسفة الجديدة، لم يعد بإمكانها بأي حال من الأحوال تجاهل الطبيعة، ومنح وضع اعتباري خاص للإنسان، مقارنة مع باقي الكائنات.

فلسفات جديدة

هناك العديد من الأمثلة على مثل هذه المنظومات الفكرية المستحدثة، التي تحاول أن تؤسس لعلاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة، نذكر من بينها فلسفة هانس يوناس الذي يتحدث عن مفهوم موسع للمسؤولية. بحيث لا يضطلع الإنسان بمسؤولية القرارات التي تهم شؤونه الخاصة، بل عليه أن يفكر أيضاً بما يمكن أن يؤول إليه فعله في المستقبل، بحيث لا يتعارض مع حقوق الأجيال القادمة.

لدينا أيضاً فيلسوفة البيئة الأمريكية راشيل كارسون صاحبة الكتاب الشهير: "ربيع صامت"، والتي ينسب لها وضع اللبنات الأولى لما سيعرف لاحقاً بعلم البيئية المتقدم. تؤكد كارسون في هذا الكتاب أن المبيدات الحشرية، التي استعملها الإنسان لعقود طويلة، قد ألحقت أضراراً جسيمة بالتوازنات البيئية. وبما أن جل الكائنات الحية مترابطة ضمن السلسلة الغذائية، فإن هذه المبيدات الحشرية، لا بد أن ينتهي بها المطاف إلى الاستقرار داخل جسم الإنسان والمس بصحته. ليس هناك شيء ثانوي في الطبيعة، سواء كان من النباتات أو الكائنات الحية. كل شيء له مكانته ودوره الحيوي، الذي يجب أن يصان ويحترم. تقول الكاتبة: "هذه النباتات ليست أعشاباً ضارة، إلا بالنسبة لأولئك الذين يكسبون المال من مبيدات الأعشاب الكيميائية".

في نفس السياق يذهب الفيلسوف النرويجي أرون ناييس صاحب مفهوم الإيكولوجيا العميقة، فهو لا يتوقف فقط عند إيجاد التدابير اللازمة لمكافحة الخراب الذي أحدثه التلوث على النظم البيئية، بل يذهب إلى ضرورة مراجعة الأسس الفكرية والحضارية، التي قادتنا إلى ما نحن عليه اليوم. فمعالجة المشاكل البيئية بالنسبة له ليست مجرد إجراءات تقنية. بل هي أكثر من ذلك بكثير إذ تتطلب تغييراً عميقاً في نمط الوعي البشري.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها