حماية الأحلام.. الثقافة الفردية أمام التناول اليومي

عمران مصباح


تتسم الحياة المعاصرة بنمط متسارع الأحداث، تتخلله فضاءات تواصل متداخلة، ومفتوحة على كل الاحتمالات، فانعدام التدقيق في تأثير ما ينشر عبر الشاشات - بشقيها التلفزيوني، والهاتفي - يساعد في ارتفاع احتمالية أن يقع الإنسان ضحية محتوى محبط، فالأشلاء الموزعة على الأجهزة، والكاميرا المكرسة لإظهار الدمار، والمناخ الذي تشكله المشاعر السلبية، تنال من كل متلقٍ، ولو بدرجات متفاوتة؛ لأن الشخص الذي يتعرض بشكل يومي لما ينال منه، يصبح من الصعب عليه أن يحافظ على نفسه بمستوى عالٍ من السلامة النفسية، فالغرق في متابعة القضايا العامة، وصل إلى الحد الذي بات فيه من النادر، وجود فرد ما زال يحتفظ بطموحه، ويسعى لتحقيق ما يتوق إليه، لأن ذلك يتطلب إيماناً داخلياً عميقاً للتمسك باستقلاله في زمن "الترند"، وضرورة الجمع بين ثقافة عالية، ونظام وعي يعمل كتعقب نفسي داخلي، لتنقيح ما يصادف، وانتقاء ما يجب الاهتمام به، قبل أن تتحول حياته إلى حزن على انهيارات أكبر من حدوده، ومُصطفٍ ضمن قائمة طويلة من أصوات لا تصنع شيئاً!

لشدة ما كُرِسَت مشاهد العنف في حياتنا، عبر كل الوسائل الإعلامية، وغير الإعلامية، بات تناول موضوع آخر، ليس فيه ضحايا، مستغرب إلى حد ما، وإن تم استحضاره على مضض، لا يحظى بالمساحة الكافية، فعلى سبيل المثال، من بين أكثر الناس اهتماماً بالأدب، لو تم البحث عن عدد الأشخاص الذين لا زالوا حتى اللحظة يتذكرون اسم الفائزة في جائزة نوبل للأدب هذا العام، هان كانغ، لظهر بأن عددهم قليل جدّاً، ليس لضعف ذاكرتهم، أو لعدم اهتمامهم، بل جراء التدفق الدائم لمواضيع مختلفة يتعرضون لها بشكل يومي، وجميعها، أو جلها غير جيدة، أو لا تعنيهم، لكنها تأخذ مساحة من وقتهم، وحيزاً ما في ذهنهم، وأمام استمرار هذا الضخ، واستقبال لا يخضع لأي تفحص، يقع الإنسان بين سندان الانجراف مع التيار، ومطرقة الانفصال عن الواقع، وهنا يتطلب وعياً خاصاً؛ لكي يبقى محافظاً على الاتزان، يركز على ما يريد دون الانقطاع عن المحيط، ويطالع شؤون العالم دون الوقوع في قيودها.

عرض مشاهد الدم، والدمار، مؤخراً، باتت ترتفع باستمرار، دون أن يحصل أي اعتراض مجتمعي، أو نقد كبير لها، والغريب أنه مؤخراً ظهرت حملة شعبية على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل مناهضة الاعتياد، معتبرين المشكلة الحقيقية ليست في ما يعرض، أو فيما يحدث بالفعل، بل في عدم الاستجابة كما يجب من قبل المتابع، كأن هناك نتيجة حتمية لعرض المجازر، وهي استثارة الناس، ودفعهم، هل فكر هؤلاء، بأن هذه المناظر قد يكون لها أثر آخر، هزيمة الآخرين، وإحباطهم، أيضاً، في الحملة اعتبروا عدم تحرك المشاعر مشكلة، وهنا بالضرورة، يقتضي أن عدم الاعتياد، والاستمرار في الاستجابة المتوترة مع الجرائم هو الذي يجب أن يبقى، بينما في الحقيقة، أن المشكلة الفعلية ليست في نوع ردة الفعل، بل في الفعل ذاته، بالعرض، ونوع المشاهد القاسية، والتي تحفر عميقاً في العقل الباطن، واستخراجها فيما بعد ليس سهلاً، أي أنها تسكن هناك، وسوى حصلت معها مشاعر خارجية، أو استقبلها الشخص ببرود كبير، فإن الأثر الداخلي -بشكل أو بآخر- يأخذ مجراه.

فيما ذكر سابقاً؛ ليس القصد منه تجريم ما يعرض من دمار، وقتل، فالجريمة الحقيقية واضحة، وتتمثل فيما جرى على أرض الواقع، ومن قام بذلك الفعل البشع، لكن، النقد هنا لعدم مراعاة ما تصنعه المظاهر تلك في نفسية المتابع، وهو نقد مهم؛ لأن استمرار العروض يساهم في اتساع دائرة الضحايا، فبدلاً من أن يكون هناك ضحايا بأرقام محدودة، تعم القائمة كل البعيدين، فالحزن هنا لن يستثني أحداً، ومن يتحرك بسبب مشاعر الهزيمة التي خلقها تقديم الانهيار، لن يحقق أي نصر، كما أنه - ومع تقديس روح التضامن، والإعلاء من شأنها - لا يجب على الجميع البكاء، لأن هناك مدن تدمع، فالإسناد للآخر، يتطلب إنساناً متماسكاً، لا محطماً، لذا، هل انعدمت الوسائل التي من شأنها التناول بطريقة أفضل، وهل الصراع في مساحة بسيطة، يتطلب تفرغ الجميع، وتخصيص حياتهم لأجل تلك المسألة، مع العلم أن الاحتشاد مهما كان قوامه لن يرجح الكفة المرجو انتصارها، لأن خلق واقع يتطلب المضي في دروب معروفة، ليس من بينها صناعة الكربة في أرواح البسطاء، وسلب فردانيتهم، ومستقبلهم، لصالح شتات الشعارات العامة.

الواقع السيء، ينعكس على وسائل التواصل الاجتماعي، على شكل حصار للمجتمع، يتم عبر الصورة، أو المواضيع المتداولة، ويبدو معها الوضع، عبارة عن صورة أحادية ممتثلة لأجواء الحروب، وشروطها، إلى الحد، الذي يصبح معه، نشر شيء شخصي جرح في حق الفضاء العام، الذي يعيش مناحة لا نهاية لها، فالشاعر الذي كتب قصيدة عن عيون حبيبته، والفنان الذي يسعى إلى إصدار ألبومه الأول، والعازفة التي وثقت مقطعاً لها، وأصابعها ترقص على البيانو، جميعهم يغردون خارج السرب، فالطابور المنتظم لموضوع واحد، تحت مسمى الترند، يرحب بالحشد، وينبذ أي اختلاف.

في الفلسفة هناك نظريتان متناقضتان، أخذت مساحة من السجال في التناولات المختلفة للعديد من الفلاسفة، وكل فيلسوف أراد إثبات قناعته، بينما مضى هذا الجدل دون حسم، النظرية الأولى، تتحدث على أن الواقع هو من يصنع الوعي، ويشكله، فيما يعني أن الإنسان لا يمكنه النجاة داخلياً مما يجري في الخارج، بينما الأخرى، تقول إن الوعي هو من يرسم الواقع، ويحدد نوعه، أي أن الشخص بإمكانه صناعة نتائجه بحسب ذهنه، وبين هذا وذاك، هناك شيء نسبي، أي أنه، حتى الوعي الشخصي المستقل عن الواقع، لا يأتي من العدم، بل يساعد في تشكله الظرف العام، والعكس أيضاً؛ لا يمكن القول إن الواقع يسيطر بشكل كامل على كل أفكار الإنسان، لكن، ومن خلال واقع اليوم، بكل تأكيد، أن تسليم الإنسان عقله للمحددات الخارجية، من إعلام، ووسائل تواصل اجتماعي، وكذلك للأوضاع السياسية لبلده، وطريقة تناولها، بإمكانه أن يصبح بمثابة انتحار صريح؛ لأنه قد يقضي على نفسه تماماً، عكس الوعي الذي ترسمه الاهتمامات الشخصية الخاصة، من الثقافة، والكتب، والسينما، والموسيقى، ومراقبة أعماقه الداخلية، والعالم الخارجي، والتعلم من تجاربه، وتحديد ما يريد، والمضي نحو تحقيقه، بعد إدراك ما يلزمه في سبيل ذلك، فهذا من شأنه أن يحمي الشخص، ويستطيع فيه الحصول على مساحته الخاصة، وحتى إذا لم يحقق ما يسعى إليه، بفعل ما، على الأقل، لن يكون خاسر نفسه لمصلحة هتافات، لا يضيف لها أي شيء، ويفقد لصالحها كل ما لديه.

في كل شيء بالحياة، البناء يتطلب أعواماً، بينما الهدم يتم في لحظات، وهكذا على الصعيد النفسي، فالأثر الذي يعلق جراء ما عايشته خلال ثوانٍ، لا يمكن الخلاص منه فور الوقوع فيه، هذا إذا استطاع الشخص تجاوزه في الأساس، لكن، وبعيداً عن التأثير السلبي في المشاعر، جراء التعرض لمشاهد عنيفة مباشرة، وما إلى ذلك، فهذا بالإمكان للشخص أن يتحاشاه، الأكثر فداحة، هو قضاء العمر برمته في فضاء مشحون على الدوام، والصراع من أجل عدم الغرق في اهتمامات لا يشعر الشخص بالانتماء إليها؛ لأن كل ما هو موجود، لا يجد فيه ما يتوافق مع قناعاته الداخلية، وهكذا، يجد نفسه مجبراً على الاستمرار في التعايش مع النقيض منه، وتكاد الوحدة، والغربة أن تنفك عنه، ومع ذلك، وبوجوده مع ما لا يريد، عليه أن يمضي في الطريق إلى آخره، لذا؛ لا سبيل هنا سوى الاستقلالية في الاهتمام، والمطالعة، والتلقي، والفعل، فلا شيء يقتل الأحلام الذاتية، أكثر من التسليم النفسي لما يتابعه الجميع، فهذا من شأنه أن يصنع شخصاً تتلقفه التناولات اليومية، ويتجه حسب العابر، والآني.

في ظل كل هذا، تعتبر الثقافة الشخصية مهمة، والمقصود بالثقافة هنا ليس المعنى الواسع لها، أي المعرفة الكبيرة، في مجالات عدة، بل امتلاك معرفة في أساسيات الحياة، ووعي بما يجب أن يقوم به الفرد لصالحه، وكل ذلك سينتج عنه احتراس ذاتي من كل فكرة غير مجدية، أو تقوده للتدمير، كما أن نقد طريقة العروض، والتناول، أساسه هو الشعور بأنها تساهم في حشد الناس للالتحاق بجماعات تجد نفسها في حروب أبدية، جماعات لا تجد في وجود الفرد سوى جندي يقاتل لصالح أفكارها، كما أنها تسيء لصور مجتمعات برمتها، فعلى سبيل المثال، لا يوجد حزن أكثر من النظر إلى لبنان من زاوية العمامات، والشعارات، بينما بيروت التي يجب أن تبقى في كل ذهن، هي "ما قال الفتى لفتاته، والبحر يسمع"، والصباح الذي يصعد من صوت فيروز، ويتوزع على منازل العرب، والفاتنة التي أدهشت زها حديد، وألهمتها لكل تلك الأعمال العبقرية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها