الشِّعرُ الخالِصُ للشّعر

إبراهيم ناجي في ميزان النقد

د. عبد العظيم محمود حنفي



تفتحت موهبة إبراهيم ناجي الشعرية باكراً، فقد بدأ حياته الشعرية حوالي عام 1926 بترجمة بعض أشعار شعراء الغرب، ومن أشهر ما ترجمه قصيدة "البحيرة" للشاعر الفرنسي لامارتين، وقصيدة "أغنية الريح الغربية" للشاعر الإنجليزي الرومنتيكي شيلي وترجم كذلك أشعاراً لـ"الفريد دي موسييه وتوماس مور". كما اهتم بالثقافة العربية القديمة فدرس العروض والقوافي، وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي.
 

وناجي شاعر محلق حتى في أسماء دواوينه: وراء الغمام، ليالي القاهرة، الطائر الجريح، وهو شاعر في اختيار أسماء قصائده، نجد من هذه الأسماء: المآب، قيثارة الألم، السراب، الفراشة حديث فراشة، في معبد الليل، وقفة على دار، رياح وشموع، صخرة الملتقى، الأطلال... وأمثال ذلك. وكان الشعر عنده كما يقول: "هو النافذة التي أطل منها على الحياة، وأشرف منها على الأبد وما وراء الأبد، هو الهواء الذي أتنفسه، وهو البلسم داويت به جراح نفسي عندما عز الأساة.. هذا هو شعري"1.

وانضم إبراهيم ناجي إلى جماعة أبولو عام 1932، وإذا كان الدكتور أبو شادي زعيم مدرسة أبولو قد قال الشعر في جميع الميادين والفنون كافة، حتى أصبح كالسيل الزاخر الذي يحمل اللآلئ مع الأحجار والزبد؛ فإن هذا السيل كانت ترفده داخل الجماعة روافد رقراقه مقلة أحياناً، وشعر هؤلاء الشبان الذين سماهم الناقد محمد مندور ب"روافد أبولو"2، فيتسم في الغالب بسمة الشباب وخصائصه الروحية، فهو شعور متوقد في لهفة، متطلع إلى آفاق من الحياة يتعجلها الشباب ويرمقها في لهفة، ومتطلع إلى آفاق من الحياة، يتعجلها الشباب، ويرمقها من بعيد في شوق وحسرة، ولكنه قد لا يستطيع الوصول إليها، فيتولد في نفسه الشعور بالحرمان، ويتخذ من الشعر تنفيساً وتعويضاً عما تنزع إليه روحه دون أن يستطيع تحقيقه. وقد عبر الدكتور إبراهيم ناجي عن هذا الحرمان الذي ينمي الشعور بالوحدة، عندما قال في قصيدته "أصوات الوحدة" (وراء الغمام)3:
يا وحدتي جئت كي أنسى وها أنذا
ما زلت أسمع أصداء وأصواتا
مهما تصاممت عنها فهي هاتفة:
 يا أيها الهارب المسكين هيهاتا
جرّتْ عليّ الأماني من مجاهلها
وجمعت ذكراً قد كنَّ أشتاتا
ما أسخف الوحدة الكبرى وأضيعها
إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا
بعثن ما كان مطوياً بمرقده
ولم يزلن إلى أن هبّ ما ماتا
تلفّت القلبُ مطعوناً بوحدته
وأين وحدته؟ باتت كما باتا
حتى إذا لم يجد ريّا ولا شبعا
أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا

وإذا كان ناجي يجمع في هذه المقطوعة بين ذكريات الماضي وأشواق الروح فأكبر الظن أن هذه الذكريات لم تكن هي الأخرى غير أشواق تقضت. والقارئ لشعر ناجي في دواوينه الثلاثة (وراء الغمام – وليالي القاهرة – والطائر الجريح)، يحس في وضوح أن خير ما قاله ناجي من شعر يكاد ينحصر في موضوع واحد هو المرأة والظمأ إليها، ومع ذلك لا نكاد نمل هذا الحديث لأنه دائم التجدد مع تتابع حالات وجدانه، كما أن الحرمان قد ولد في نفسه تسامياً مرهفاً، وفتح أمام خياله آفاقاً فسيحة غزتها أشواق روحه، وعادت منها بفنٍّ خفيف مجنح، كالطائر الغرد الطليق الذي يطير من فنن إلى فنن، على نحو ما كان الدكتور ناجي في شخصه الصغير الحجم الدائب الحركة، بل في ملامح وجهه التي كانت تشبه الطائر إلى حد بعيد.

وقد تحكم طبع ناجي في إنتاجه الشعري، وجرى هذا الطبع على سجيته، وغذّاهُ ناجي بمطالعاته في الآداب الغربية، فتميز بالطابع الوجداني وبالحب المثالي وأشواق الروح، وهذا الشعر يلقى أكبر الاستجابة من نفوس الشبان المحرومين رغم تفتحهم للحياة4. وقد مر ناجي بظروف صعبة في حياته وتخلى عنه الأقارب والأحباب في أحيان كثيرة.. ولكن كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحياة هي محبته أيام الدراسة الثانوية لفتاة كانت زميلته، وتعلقه بها حتى إنها حينما تزوجت بغيره تهدمت مشاعره، وكتب أكثر قصائده شهرة عن نظرته لهذه التجربة، مصوراً أن ما بقي من الشاعر مجرد أطلال لروحه ولكنه عاد في نهاية القصيدة يستسلم للقدر، وحملت القصيدة عنوان "الأطلال"، وتقع في أكثر من مائة وثلاثين بيتاً في شكل مقاطع، يتألف كل مقطع من أربعة أبيات، أكثر المقاطع منظومة على الرمل، وقد غنّت أم كلثوم مقاطع منها مع بعض التعديل في الألفاظ، وضم مقاطع من قصيدة أخرى عنوانها "الوداع".

ويقول أحمد الصاوي محمد في مقدمته لديوان ناجي الأول (وراء الغمام): "إن ظهور هذا الديوان الصغير هو في تاريخ الأدب يوم مشهود وحركة وثّابة جديدة؛ لأنه الشعر الخالص للشعر، والحب الخالص للحب، والرحمة الخالصة للإنسانية".

وقد كان شعر ناجي هذا بدأ مدرسة جديدة في الشعر العربي فتن بها معي، شباب الشعراء، وكان هؤلاء تأثرهم بشعر ناجي قوياً بارزاً، وكان ظهور أثره في شعرهم على قدر استعدادهم للتأثر بروح ناجي وشاعريته وصدقه وحساسيته، كان أثر ناجي بارزاً في شعر صالح جودت، ومختار الوكيل، وحسن كامل الصيرفي، إلى حد ما وقد تأثرت به أنا أيضاً، ونشرت بعضاً من شعري هذا في مجلات "الرسالة"، و"الثقافة"، و"الأديب" البيروتية، وفي هذا وذاك أثر لا شك فيه من روح ناجي وفنه ومنهجه في التعبير والأداء5.

 ناجي في ميزان الدكتور محمد مندور 

يرى الناقد محمد مندور أن ديوان (وراء الغمام) يضم من روائع قصائده مثل: العودة وهي قصيدة تصور أحاسيسه، وقد عاد إلى دار الحبيبة فوجدها قد تغيرت فقال:
هذه الكعبة كنا طائفيها ... والمصلين صباحاً ومساءً
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها ... كيف بالله رجعنا غرباء

ويقول مندور: "هذه القصيدة التي أحسبها من روائع النغم في الشعر العربي الحديث، وهي تندرج تحت فن عربي قديم هو فن بكاء الديار. ومع ذلك أية جدة في هذه القصيدة وأية أصالة، وأي جمال في هذا التصوير البياني الرائع الذي جسم المعنويات أروع تجسيم وأقواه: فالبلى يبصره الشاعر رأى العيان، ويداه تنسجان العنكبوت، وهو يسمع أقدام الزمن، بل خطى الوحدة فوق الدرج، وكل ذلك فضلا عن ذلك الجو الروحي الزاخر الذي تسبح فيه القصيدة كلها، فتنفذ نسماتها إلى النفوس بأسى مشج يبلغ في قوته برغم رهافته – قوة العاصفة التي تثير الوجدان وتحرك أعماق النفس".

ويرجع محمد مندور السبب في تفضيله لشعر ناجي على أبحاثه وفلسفته وقصصه النثري "إنما يرجع إلى طبيعة ناجي نفسه، وهي طبيعة دائمة التوثب والتنقل من فن إلى فن كالطائر سواء بسواء، ومثل هذه الطبيعة لا قدرة لها على التحليل والدرس والصبر... ولذلك كنا نراه دائماً يقفز في بحوثه من فكرة إلى أخرى، ولكنه قلما يستطيع بناء فكرة على أخرى، أو توسيع الأساس الذي يبني عليه لبنات أفكاره في بناء متكامل سليم. وعلى العكس من ذلك نرى هذا الطبع الناري يواتي الشعر ويتمثل فيه، وبخاصة الشعر الغنائي منه، حتى لنرى دواوين الشاعر الثلاثة يدور فيها الشعر كما قلنا حول الحب وتباريحه، والأشواق وما إليها.. ومع ذلك لا نمل هذا الحديث لأن الشاعر كالنحلة التي تطير من زهرة إلى زهرة وتأتينا من كل زهرة بعطرها الخاص"6.

✧ ناجي في ميزان الدكتور طه حسين 

ولكن قُوبِل ديوان وراء الغمام، بهجومٍ قاسٍ من الدكتور طه حسين، الذي نقده نقداً مرّاً7، واصفاً شعره بأنّه ذو جناحٍ ضعيفٍ لا يقدر على التحليق ويضيف: "هو شاعر هيّن ليّن رقيق حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، وفضل عليه الشاعر علي محمود طه الذي وصفه بأنه مهيأ ليكون جبّاراً في فإنّه، كما وصف طه حسين شعر ناجي بأنه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه". وقال: "ونحن نكذّب شاعرنا الطبيب إن زعمنا له أنه نابغة، بل ونحن نكذبه إن زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يكدرنا، ويفر عنه الجمال قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل"، ويأخذ طه حسين على الشاعر ناجي قوله في قصيدة قلب راقصة:
أمسيتُ أشكو الضيقَ والأينا ... مستغرقاً في الفكرِ والسأمِ
فمضيت لا أدري إلى أين ... ومشيتُ حيث تجرُّني قدمي

فيقول: "إن الشاعر المجيد لا يستقيم له الاستغراق في الفكر والسأم معاً فالفكر لا يسأم واللئيم لا يفكر؛ لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم، ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير ولا يخلي بينه وبينه، وعلى كل حال فقد أحسّ الشاعر ضيقاً متعباً مغرقاً في السأم والتفكير، فخرج لا يدري إلى أين، ومضى حيث تجره قدمه.. فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعراً ولا تلائم لغة، فالقدم لا تجر صاحبها وإنما تحمله"8.

ويرد عليه محمد مندور بالقول: "فهذا النقد بعيد عن حقائق النفس البشرية في قوله إن السأم لا يجتمع مع التفكير، كما أنه بعيد عن عبقرية اللغة والفن عندما أخذ على الشاعر قوله إن قدمه أخذت تجره بدل أن يجرها هو، فالسأم كما يكون نتيجة لفراغ النفس من كل فكر أو إحساس، قد يكون منصباً على السأم نفسه، كما أن التعبير بالقدم التي يجرها صاحبها تعبير رائع دقيق؛ لأنه يوحي بالحالة النفسية التي كانت مسيطرة على الشاعر أكبر الإيحاء، فهو لا يسير عن قصد وارادة وهدف، بل يتحرك في شبه آلية وعندئذ تجره قدمه لا العكس".

"وعلى أي حال فإن التذوق الفني الذي أخذ ينمو في الأجيال الناهضة لا أظنه يقر الدكتور طه على هذا النقد، كما لا أظنه يخطئ الإحساس بما في هذا الشعر الأصيل المبتكر من قوة وجمال وصدق"9.

ويرى مندور "والذي لا شك فيه أن موضوع الغرام أو الشوق إليه والاحتراق بلواعجه لم يكن ولن يكون وقفاً على ناجي، ولكن ميزة ناجي أنه استطاع أن يستخرج من هذه المشاعر العامة الدارجة فناً رفيعاً، وأن يواتيه في هذا الفن طبع أثيري خفيف، بل ساذج أحياناً سذاجة حلوة تشرق من خلال تعابيره المصورة إشراقة نضرة كوجه الطفل، على نحو ما تحس به في البيت الآتي من قصيدة "الوداع":
هل رأى الحب سكارى مثلنا ... كَمْ بَنينا من خيالٍ حولنا

✧ ناجي في ميزان الدكتورة نعمات أحمد فؤاد 

وبالرغم من جمال شعر ناجي الذي يجمع بين بساطة الإحساس وصفاءه وقوة التعبير وأصالته، أخذت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها عن ناجي تعيب قوله: "وإذا الفجر مطل كالحريق" زاعمة أن الفجر لا يمكن أن يشبه الحريق وهو بطبيعته ندى رطب، وهذا أيضاً ضرب من نقد الفقهاء الذين لا يستطيعون النفاذ إلى أسرار الشعر. فالشاعر هنا لا يتحدث عن الفجر الندى الرطب؛ وإنما يتحدث عن الفجر الذي وضع حد الليل الجميل الذي يضم الشاعر وحبيبته، فرأى في ضوء هذا الفجر حريقاً يوشك أن يلتهم لحظات السعادة التي كان ينعم بها في ظلال الليل.. وهذا التعبير وحده يعدل ديواناً من الشعر التقريري الدارج10.

وحتى مشاعر الحب ولو كانت المرأة هي هدفها الأول لا بد أن توسع من نطاق هذا الحب حتى يمتزج بالطبيعة، بل يمتزج بالله أحياناً.. ومن هنا يستمد الشاعر كثيراً من صوره وتشبيهاته من الحياة الدينية ومشاعرها الروحية الأليفة إلى النفوس مثل قوله:
تتعاقبُ الأقدارُ وهي مسيئةٌ ... كَمْ عَقّنا ليلٌ وخان نهارُ
وكأنما هذا الفضاء خطيئة ... وكأنّ همس نسيمه استغفار

✧ ناجي في ميزان عباس العقاد 

أمّا نقد محمود عباس العقاد لديوان (وراء الغمام) فكان أكثر حدّة وعُنْفاً، وقال: "أظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع"، واصفاً أسلوبه بـ"البكائية والرخاوة المريضة"، وقال: "وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة: الضعف المريض والتصنّع، فإن صاحبها كما يدلّ عليه كلامه، من أولئك الذين يفهمون أن الرقة ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكي ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى، وإذا تناجى مع حبيبة قال لها.. "مات حديث السقم والوصب". وذهب العقاد أبعد من ذلك، فاتهم ناجي بالسرقة منه: "ولو كان صاحب "وراء الغمام" أكثر أدباً في الاعتراف بالفضل، لأعرضنا عنه وتجاوزنا له كما نتجاوز لغيره، ولكنه يحتاج لدرس كهذا الدرس، قد ينفعه إذا كان فيه منفع".

وفي عام 1961 يُطلُّ العقاد على قُرائه بمقال آخر عن ناجي يقول فيه: "هو في الحق واحد من أولئك الشعراء الذين تجمعهم الصنعة، ولا يجمعهم عصر واحد أو مكان واحد، وهم ظرفاء الشعراء الذين تشابهوا بالمزاج، وتفرّقوا بالزمن والمواطن من أوائل عهد الشعر العربي إلى عهده المذكور في هذه الأيام. فلا نخال أننا نتلقى ديواناً غير ديوان ناجي في هذا العصر إذا دعوناه بديوان الشاعر الظريف"! ومن ثم جعل العقاد ناجي من الظرفاء، وجمعه مع ابن الأحنف وابن سهل في كفة واحدة، وفرقه في العصور والأزمنة11.

وقد صدرت عن الشاعر إبراهيم ناجي بعد رحيله عدة دراسات مهمة، منها: إبراهيم ناجي للشاعر صالح جودت، وناجي للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، كما كتبت عنه العديد من الرسائل العلمية بالجامعات المصرية.
 


الهوامش: 1. محمود الشرقاوي، إبراهيم ناجي الشاعر والإنسان، مجلة الهلال، العدد التاسع، السنة الخامسة والسبعون، سبتمبر 1967. ┋2. محمد مندور، الشعر المصري بعد شوقي، القاهرة، نهضة مصر 1955.┋3. إبراهيم ناجي، وراء الغمام ص: 188.┋4. محمد ناجي، من روافد أبولو. إبراهيم ناجي: قصيدة غرام، مجلة المجلة، عدد يونيو 1957.┋5. صالح جودت، ناجي حياته وشعره، القاهرة، المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1965.┋6. محمد مندور، من روافد أبولو. إبراهيم ناجي: قصيدة غرام، مجلة المجلة، عدد يونيو، 1957.┋7. طه حسين، حديث الأربعاء، الجزء الثالث، دار المعارف 1945.┋8. انظر تفصيل ذلك في طه حسين، حديث الأربعاء، الجزء الثالث، دار المعارف، 1945.┋9. محمد مندور، الشعر المصري بعد شوقي، القاهرة، نهضة مصر 1955.┋10. نعمات أحمد فؤاد، ناجي الشاعر، القاهرة، رابطة الأدب الحديث 1954.┋11.  جهاد فاضل - قسوة العقاد وطه حسين على شعر ناجي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها