في محاولة لتقليد العظماء

وقفة مع قصيدة الأنثى الاستثناء

حاتم عبد الهادي السيد


الشاعرة شريفة السيد


تطالعنا الشاعرة الجميلة شريفة السيد في قصيدتها "أنا لا تشابهني امرأة"، بتقديمٍ سياقي لبيت الشعر المعروف، للشاعر حافظ إبراهيم حين يقول:

أنا إن قدر الإله مماتي ... لن ترى الشرق يرفع الرأس بعدي

وكأن البيت هو جزء أساس في القصيدة، إحالي، تناصي، سياقي، تماثلي، تتمثله - في البداية- لتخاتلنا عبر بوابات الدهشة، فالقارئ قد يعتقد –للوهلة الأولى– أنها ستقوم بمعارضة القصيدة، لكنها بدهشة التلقي تحيلنا إلى تماثل روح القصيدة، لتسقط عبر التناص السياقي روح القصيدة في القصيدة، ثم عبر الإزاحة، والمقارنة، والتماثل، والتّضامّ، تحيلنا إلى كهف الذات، خبيئة الأنثى، عبر العنوان السيموطيقي المخاتل: "أنا لا تشابهني امرأة"، وللوهلة الأولى نرى الشموخ والتعالي، والاعتزاز بالذات الأنثوية عبر ضمير المتكلم: "أنا"، والذي يحيلنا عبر إشارة التنويه إلى كينونتها التي تتمثلها عبر الفعل "تشابه" المترادف بنون الوقاية، وياء المتكلمة، التأكيدية، فهي لم تقل: "تشبهني"؛ لأن المشابهة فيها تخصيص وتمايز، ونفي لعدم وجود شبيه لها من بين النساء، وكأنها أرادت عبر العتبة الأولى للنص/ القصيدة: العنوان المتشاكل، المخاتل، التضمينى، والمفارق أيضاً، أن تحيلنا إلى العتبة الضمنية التناصية، التواشجية والتغايرية في ذات الوقت، ثم تحيلنا إلى بيت الشعر الذي يدل على التفاخر والاعتزاز بالذات وكأنها أرادت أن تقول: أنا/ الذات الشاعرة/ أنا المرأة المصرية التي لا ولن تشابهني امرأة بين نساء الأرض، لتخرج من دلالة الذات، إلى فضاءات المقارنة، ونفي التماثل والتناظر في الشبه لأي أحد، لذاتها كمفردة، وللمرأة المصرية كذلك، وما جعلنا نخرج بدلالة السياق بداية، هو هذا التقديم الإحالي الذي يدل على فرادة وعظمة مصر/ الأنا لديها، فلن ترى الشرق يرفع الرأس إن ضاعت مصر، أو ضعفت، وهي كذلك تختص بمفرداتها مفاخرة بالذات/ الوطن، عبر تناص الإحالة، الترميزي، المتضمن حمولات ومرموزات سياقية، تحيلنا إلى القصيدة البديعة عن عظمة مصر وحضارتها، وأهراماتها، ونيلها الساحر البديع.       
إنه الغناء، وهي هنا "كأم كلثوم" –سيدة الغناء العربي-، أم كلثوم القديمة/ الجديدة/ الخالدة، التي تغنت بقصيدة حافظ إبراهيم إلى مصر، نراها تتناص معها لتغني للمحبوب أيضاً، وكأنه سياق المقارنة، عبر فراديس الغناء الموجوع، في تماثلية تجمع الشجو والحنين، والحب والأمل، والألم معاً، فهي أغنية الوجع، عبر جماليات البوح الشهي الرائع الجميل.
وتعقد لنا الشاعرة –منذ البداية- حوارية مع الغائب المحبوب، عبر الذات القلقة، الموجوعة، لذا وجدناها تبدأ القصيدة بكاف التشبيه التماثلية المقارنة، (كالعمر)، وكأنها تربط الماضي بالحاضر الآني، فاليوم الذي من العمر يمر، لا رجوع فيه، وهي قررت الفراق الأبدي، لذا فلا مندوحة، ولا مناص لديها لتبدأ في وصف حياتها، التي شبهتها بالفرصة الثمينة له، لكنه لم يغتنمها، فآثرت البعاد لتشكو وجدها إلى الفضاء، وتتحرر كذلك من قيوده، ولعمري فإن هذه القصيدة تمثل مرحلة جديدة لدى الشاعرة، فتنطلق بالذات عبر الفضاء الكوني، والمخيال التصويري الباذخ لتعيد رتق قصة الوجع الشهي، لتعبر الجسر المؤدي إلى طريق الحرية، التصوف الخاص، الوجد الآسن، والشجن اللذيذ، تقول:
كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وأُمرُّ كالضّوءِ المراوغِ في المدَى حين الخُشوعْ
أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ
عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ
أنا ما بدأتُ لأنتهي
أنا لمْ أزلْ في طـَوْرِ تكوينِ الأنوثةِ بينَ جدرانِ الرَّحِمْ
أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ
مخبوءةٌ بينَ العطورِ المُثقلاتِ بنشوةِ الوجدِ العَفيّْ..
بينَ التشظِّي
عندَ مُفترق الجنونِ وعندَ وشوشةِ البَخورِ
مَنْ تمخَّضَ حُلمُها وعداً حَيـِيّْ
خمريةُ النَّبضاتِ تابتْ جبهتي مِنْ قبلِ قبل التنشئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها إذن الأنثى الاستثناء، حيث أتت بأسلوب القصر لتنفي وجود شبيه لها، أنثى سواها، لكنها عبر السرد، واستخدام التدوير الشعري تتنامى تجربتها المتشائمة لتحيلنا إلى قلقها الوجودي، حبها الرجيم، وعبر الصور الجمالية الباذخة ينثال الشعر من مرمر مزهريات الجمال الباذخ، والصور التي تتواشج من القلب إلى القلوب، عبر هارموني ينتظم عقد الشعرية الباذخ لديها، تقول:
خمسونَ حُزناً أفحموا غيري أنا
ســتون حُزناً ضد أحوالِ الزمنْ
لمْ أُغلقِ الأبوابَ في وجهِ البراءةِ حين جاءتْ منْ حدودٍ شائكةْ...
أنا للحدودِ مباركةْ

....

أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ .. وأكسِرُ الصَّمت الخجولْ
وأنحني لأخيطَ منهُ سوسناتٍ يانعاتٍ في الحقولْ
قلقي لُحافي إنْ استطالتْ تحتهُ قدمايَ أيضاً يستطيلْ
ويفكُّ قيدي عقدةَ الزمن البخيلْ
تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلاً لا أميلْ
وبجَعبتي
سـبعونَ وهماً صغتـُها أعطيتـها اسماً واحداً المستحيلْ
ناريةُ الخطواتِ أسكُنُ سدرةً مسفوكةَ الدَّمِ
واكتشفتُ اليومَ أني السَّافكةْ
تتشابهُ الفتياتُ في بُستانها
لكنني سأظلُ وحدي الواثقةْ... وأظلُ وحدي الرائقةْ
وأظلُ نهباً للظروفِ الطارئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها تباهي القارئ، وتطلب منه/ منا أن نشاركها أرجوحة الحلم، الظلم المحيط بقلبها الشفيق، فجاءت بالفعل "تخيلّ" وأضافت له واو الجماعة وألف الإطلاق لتشاركنا وجعها الزاعق في الروح، وتلك لعمري حصافة شاعرة تمسك بجمرة الشعر المستعرة، فتحيلها إلى واحة للحب والجمال، والشفقة أيضاً، تقول:
أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ
أتشمَّمُ الحُزنَ البهيّْ
أرتـِّبُ الوجعَ الذكيّْ... أُعدُّ نفسي للغيابِ العبقريّْ
أنا لا أمر كعابرةْ... أنا ماكرةْ
أنا أجمعُ الآهاتِ من تحت النوافذِ كي أُشَبِّكها حُليا مزهرةْ
أتسوَّلُ القفرَ المُدَمَّى كَيْ أُحيلَ رمادَهُ نغمًا نديّْ
وأزرعُ الأفقَ انتصاراً سرمديّْ
وأغلفُ الهرمَ الكبيرَ بأمنياتي الهادئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها قصيدة الصورة، عبر التشكيل الروحي للجمال، فهي تعيد تشكيل الأذى الذي أحاط بها، وتحيله إلى عناقيد للجمال اللغوي المبهر، عبر لغة تستنطق جماليات الحروف، وتستلب المخبأ في جيوب القلوب المحترقة، لذا تجدد تكرار الضمير "أنا" طوال القصيدة لتؤكد وجودها، قوتها لتعبر الأزمة إلى بوابات وشلالات النور من جديد، تقول مخاطبة إياه، تستصرخه، وتبكيه، تجعله يندم لفراقها، وفي نفس الوقت تتصبر بإعلان قوتها طوال الوقت رغم ضعفها وهوانها الروحي والعاطفي كذلك، تقول:
يا سيّدي
أنا لا تُشابهُني امرأةْ
أنا ظامئةْ
لجميعِ أنهارِ الحياةِ.. لكل أوديةِ الشتاتِ... إلى الجروحِ الناتئةْ
ثوبي بياضٌ.. ليس يخدشهُ اختراقُ العابرينَ وإنْ تمكَّنَ شيخُهمْ
اليتْمُ يشبهُني أنا
رغمَ ازدحامٍ يستلذُّ بوحدتي المُستمرأةْ
أنا للطلاسمِ قارئةْ
أستكشفُ الآتي إليَّ
فأزُمُّ كلَّ حقائبي
وأحُطُّ فيها كلَّ آلامي لكيْ تُدمِي يديّْ

إنه الدم المتخثر، بلغة الألوان عبر صفحات البياض، الطهر، اللذة، التوق، والوجع لزمن مضى، رغم رفضها وكبريائها وشموخها؛ لأنها تبكي في داخلها، وإن أسعدتنا، وكأنها الشمعة المشتعلة تحترق في ذاتها لتنير مشهدية للعشاق على جسر الحب الشاهق، لذا نراها تغوص في أعماق روحها، وتتشرنق كدودة القزّ على ذاتها الأقحوانة، وتتخايل عبر مرايا الذات التي تعكس الجمال الشكلي للمعاني، لكنها لا تعكس انكسارات روحها في ذات الوقت، وكأنها تهرب، تنتصر وهي المهزومة، تتوجع وتتظاهر بالقوة لتتشبث بوهن الذات لتصبر ذاتها على الحياة، تقول:
سَلِمتْ يدا حُزني الذي في لحظةِ الترحالِ عرَّفني عليّْ
أنا أكتبُ العبراتِ حتى لوْ بدتْ متواطئةْ
وأجيءُ بالبرقِ العفيِّ مفاجئةْ..
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

ستظل الراوية/ الشاعرة/ سوسنة القصيدة تخاتلنا بالقوة رغم انكساراتها، لذا تنهمر عليها الأسئلة داخل العقل، بينما روحها مشتتة، متشظية، قلقة، تتهادر كالبحر الهادر، أو تصرخ في براري الذات بحثاً عن صوفية خاصة، شجو زاعق، وبراح تندمغ عبر ترهاته لتعبر عتمة الزمان والمكان، تهرب من الذات إليها، وتحيلنا إلى زمردة روحها وجوهر روحها الآسنة، الشفوق، تقول:
العزمُ يعشقـُني أنا..
فيحُطـُّني في أولِ السَّطرِ الطويلِ الأسئلةْ
وعلامةُ استفهامِ تقفزُ لا تملُ المهزلةْ
وهزائمي تقفُ انتظاراً في مطارِ أنوثتي
(ماراثون) هناكَ علَى موائدِ رحلتي .. ماراثون قويّْ..
بين انشطاري واحتفاظي بالشموخِ تطلعًا برماليَ المتحركةْ
وعواصفي تمتدُ تقصفُ خيمتِي المتهالكةْ
فتشُدُ أزري أزمتي وتشـدُ أزري قوَّتي ملفوفةً بندَى معاركِ رِقـتي
مرآةُ قلبي ترمُقُ الكُحلَ الـ يُكَملَ زينَتي
وتمدُّ لي قلماً لأرسمَ حُمرةً في وجنَتي
أسفي لها يرتاحُ مُتكئاً على طرفِ احتضارِ أنوثتي
فتهُبُ كلُ حضارتي
ويهبُ تاريخي المُسجَّى في كهوفِ وسادتي
ومُدافعاً عنِّي يمرُّ على الدُروبِ الشائكةْ
ويلُفـني بحدائقِ الصَّبرِ الوفيّْ
وأعودُ يأكُلُني الضَّبابُ وما قبلتُ التجزئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها المرأة المترددة، الشاكية الباكية، القوية الواهنة، الصامتة، المخدوعة والخادعة، الواقفة القاعدة، الهابطة الصاعدة، تمتلئ روحها بتقابلات وثنائيات متضادة، فهي الأضداد تجمعت في واحد، والكل في مجموع الأجزاء، تبحث عن اليقين، الراحة المشتهاة، السعادة في الحزن، والنور في العتمة، والصمت في الصراخ الزاعق بقلبها القوي الواهن الممتلئ بالحب، رغم البعاد، وبالوجع رغم الراحة الشكلية التي تحاول مكيجة ذاتها وصبغها بكل ألوان قزح السعيدة، لكنه صمت الصراخ، وشجن الحزن، وبوح الأنثى الصادق الحنون اللذيذ، تقول:
أنا يا حبيبي لستُ أجلسُ قاعدةْ... أنا صاعدةْ
أتنفسُ النفسَ الصَّعودَ بأنفكَ الــ يُحيي مَمالكَ هالكةْ
هو صالحٌ للشربِ حتى إنني استخدمتُه ماءَ الوضوءِ بهِ أنا متوضئةْ
أنا قهوتي مِنْ لونِ صوتكَ في الصباحِ البابليّْ
خُبزي كذلكَ حكمةٌ هجرتْ نظامَ العقلِ حتى أُرهقتْ فتدحرجَتْ قُبَلاً عليّْ
أنا لا أجيدُ العزفَ لكنْ كم عزفتُكَ يا حبيبي في القصيدِ وفي القصصْ
أعطيتـُكَ الدورَ البطولةَ، والأماكنَ، والزمانَ، وكل كل حكايتي
أصبحتَ أنتَ قضيَّتي وبكَ احترقتُ وذقتُ طعناتِ الغرامِ الفاتكةْ
صُغتُ احتلالَكَ لي دهوراً رغم أنفَ الواطئةْ
وختمتُهُ بمفاوضاتٍ تستبيحُ مبادئَهْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها المرأة الاستثناء –على حد تعبير الشهاوي– مع مفارقات الموضوعاتية والسرد، لكنها المرأة الحقيقة، الكذبة الكبرى، الخداع عبر يقينية السرد الشعري، والحكي الأقرب إلى القصة، وإلى مسرح الروح، لذا نراها تهرق اللذة، تتحدى رغبة عشتار برغبتها، بحبها الكامن، عبر الزمان والمكان، وتستل سيف اللغة الجمالي لتبهرنا بالوميض لكنها في نفس الوقت تكشف عرى روحها المحبة له كذلك، على الرغم من الفقد والبعاد، إلا أنها أنثى الوقت المكلومة تسبح في براري الكون والعالم وتزعق في الوجود الإنساني ليستمع إلى قصتها، أو إنها تهرب كذلك لتخلو إلى وحدتها، انعزاليتها، عيشها على الحافة رغم قربها من نهر الريّ والظمأ، ليندمج البحران، ويلتقي المتوازيان في اللاتلاق، ويفترق الحبيبان رغم تماسهما عبر الخلود والاتحاد، والبعاد كذلك، وكأنها تتناص سياقياً مع الشاعر العربي الذي قال:
أنا في أنا وأنى في أنا ... رحيقي مختوم بمسك الحقيقة
أو الآخر الذي قال: "كلانا روحان حلا جسداً"، تقول:
عشتارُ تقسمُ إنني في الخصبِ كنتُ البادئةْ
أرضي يليقُ بها حضورُك يا عبيرَ ملائكةْ..
يا روعةً تهدي إليَّ سنابلاً بل أوكسيجيناً ينقذُ الصمتَ المديدْ
كيمياءُ ذاتي جازفتْ وتعلقتْ بدبيبِ صمتكَ بينما هوَ لا يريدْ
حسبي لقاؤكَ لحظةً أو ما يزيدْ
يا سيدًا يمشي بقلبي مشيةَ العبقِ العنيدْ
أنا منكَ أُخلقُ من جديدْ
أبديةُ الآهاتِ تمطرُني شموسُكَ قهقهاتٍ ترفعُ الوجعَ المُدمَّى مِنْ سجلاتِ الزمنْ
أنا فيكَ أقسمُ لا مِحَنْ
أنا فلسفاتٌ مارقاتٌ في ذُرَى أنقَى نشيدْ
أخطُو بكلِّ العنفوانِ على جسورِ التهلُكةْ
كي أزرعنّك سهرةً ورديةً عُمْقَ الرِّئةْ
مصباحيَ المفتوحُ شباكاً عليكَ وإن مضَى دهرٌ فلا لنْ تُطفئَهْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إنها حقاً امرأة النور والنار، الحقيقة والخيال، الحلم والاكتمال، الحياة والعدم، تبحث عن لحظة دفء، تكحل عينيها وقلبها بدفء الغائب الذي مضى، وتتدثر بالصمت والصراخ لتهدأ ثورة الذات الزاعقة في سرمديات الوجود الإنساني الممتد في الكون والعالم والحياة.

تظل الشاعرة/ شريفة السيد أنثى القصيدة، العطر الذي يضيء برحيق الكلمات عبر سماء الله الممتدة فينتشر عطر الشعر متبلاً بالبهار الكوني للمشتهى الروحي الجميل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها