إنَّ فِكرةَ تَزاوُج أو تَشابُك كُلِّ العقول يُعدُّ بمثابةِ مدرك قديم العهد لِكلٍّ منَ الفلسفةِ الصُّوفِيَّةِ الشَّرقية والغربيَّةِ على حد سواء، فالذَّاتُ الكَونِيَّةُ في الهندوسية تشير إلى الوعي الكوني، الَّذي يُشَكِّلُ البنية الأساسية للوعي الشَّخصي عند كلِّ فردٍ، وقدْ تخلت البوذية عن الذَّات لتسمح بدمج الوعي الشَّخصيِّ مع حالة الوعي الأولى اللاَّمتشكلة في صورتها الحاضرة بالكون. وعلى حد تعبير Meistre Eckhart الكاثوليكي المتصوف: متى يصل الإنسان لحد الفهم؟ عندما يرى الشَّيءَ الواحدَ ينفصلُ عن بعضه البعض. ومتى يصل لأقصى فهم؟ عندما يرى أنَّ كُلَّ شَيءٍ واحد. فما معنى العَقلُ الكَونيِّ؟ وَمَا مَزَاياهُ؟ أسئلةٌ يجيبنا عنها عالم النفس الأمريكي إيدموند ج. بورن والَّذي أبدع في تقديم قراءة مثيرة لهذا العقل الكوني.
انطلاقاً من هذه الفكرة، يخلص إيدموند إلى أنَّ الفكرةَ المشتركةَ بين زوايا هذه الرؤى، هي أنَّهُ في أساسِ كُلِّ عقلٍ فردي يوجد وعيٌّ كونيٌّ، ينتشر ويتخلل الكون المعروف والكون المتجاوز لما نعرفه. وكُلُّ وعي فردي مغمور في أو منبثق من هذا الوعي الكوني اللامحدود. يقول إيدموند: "ولو أنَّ هذا حقيقي، فعند أعمق المستويات لا بد أن تتزواج وتتشابك وتترابط كُلُّ عقول البشر. وعند المستوى النهائي تجد أنَّ عقولنا المنفصلة على اتصال مع بعضها البعض ومع الوعي الكونيِّ على اتساعه. وهذا يُشَكِّلُ أساس الوعي الوحدوي المركزي المتكامل... ويمكن التَّعبير عنه على أنه "الوعي الكوني" أو "العقل الكوني"، وفق هذا الوعي الكوني الله خالق هذا الكون وخالق هذا الوعي، وهو الذَّاتُ العظيمةُ التَّي تفوق كُلَّ وصفٍ، ولا يمكن وصفها مهما تأملنا أو فكرنا، وقد يكون الوعي الكونيُّ هذا هو أعلى المستويات والتي تشكلت في بداية الوجود". فما الدَّليلُ إذاً على وحدة الوعي؟
إنَّ الأحداثَ فوق المعتادة تقدمُ دليلاً على وحدة الوعي، فظاهرة التخاطر العقلي على سبيل المثال، يبدو أنَّها توضح كيفية ارتباط العقول، حيثُ إنَّ جوهر التخاطر هو أن عقلاً يستقبل معلومة من عقلٍ آخرَ دونَ أيِّ اتَّصالٍ لَفظيٍّ أو ظاهري، والأمثلة الشائعة عن التخاطر تتضمن:
- معرفةُ ما يمكنُ أنْ يقوله فرد ما قبل أن يذكره.
- الشُّعورُ بمن على الهاتف وهو يرن.
- الشُّعورُ بالارتباط أو الاضطراب أو الألم أو ترقب الشر، عندما يعاني من نحب، وذلك من دون معرفة حقيقة أنه يعاني، وأين كان مكانه.
- وجود رد فعل، سواء عقلي أو عاطفي أو جسمي عند موت عزيز بغض النظر عن بعد حدوث هذا أو قربه.
ويضيفُ إيدموند إشارة أخرى لوحدة الوعي، وهي تبدو في الطريقة التَّي يتأثر بها الأفراد عند وقوع أحداث عالمية كبيرة، كالكوارث الَّتي تقعُ حول العالم بما يتناسب مع حدوثها، حيث يشعر العديد من الأفراد أنهم متأثرون أو مصابون على الرَّغم من أنهم لا يتابعون أخبار التلفاز أو الصحف وربما لا يعرفون شيئاً عن الحادث أو المصاب. ويبدو أنَّ مثل هذه الحوادث تصبغ مزاج الأفراد عبر العالم سواء علموا بها أم لا. إنَّ وجود كل من التخاطر وكذلك التأثير الفيزيقي العالمي بأحداث العالم مؤيد ليس فقط بالتقارير الروائية، ولكن أيضاً بكميات لا يستهان بها من الأبحاث الإمبريقية المحكمة.
ومن تجارب التخاطر، يذكر إيدموند أنَّه قد أيدت أجيالٌ عديدةٌ من الأبحاث وجود التخاطر، وتعد أشهر سلسلةٍ من التَّجارِب في هذا المجال ما قام به جوزيف بانكس ريهان بجامعة ديوك، أواخرَ العشرينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي، حيث كان لريهان طاولة من (25) بطاقة تعرض (5) أشكال مختلفة، حيث يلتقط المرسل أحد الكروت بوقت ما، ويركز على رمزه، وبعد ذلك يرسل هذا الرمزَ عقليّاً لشخص بعيد عنه، وهو المُستقبِل. ووفقا لقوانين الصدفة، على المستقبل أن يخمن (5) كروت صحيحة من (25) رمزاً. وعبر 4 مليون محاولة وآلاف التَّجارِب المسجلة بأكثر من (100) دورية ومطبوعة، فإنَّ المُستقبلَ أظهر تزايداً متتابعاً يفوق توقعات الصدفة. وقد أُعدَّتْ تجارب ريهان بإحكام فائق لتجنب أخطأ طرق البحث، وقدَّمتْ الدَّليل المُحكم الأولَ لعمليات السُّلوكِ فوق المعتاد.
وهنا يتوقف إيدموند مُؤكِدّاً أنَّ وجودَ وعيٍّ كُلّيٍّ موحد يتضمنُ بعضَ المضامين المهمة. فلو أنَّ كُلَّ العقولِ مرتبطةً بَينيّاً ببعضها البعض عند مستوى عميق، إذاً فكل منا يمكن وصفه كخلية في الجسم الجمعي الكلي للوعي الإنساني، ولو أنَّ الأمرَ كذلك، فلا بُدَّ لكلِّ واحد منا أن يبذل الجهد للإسهام في هذا الكُلِّ، وعلى كُلِّ واحد منا أن يسعى لمداواة وعينا –لنجني السَّلامَ لأنفسنا- وَكُلُّ هذا سيكون له بعض الأثر، ولو بشكل بسيط، على الإنسانية جمعاء.
ومن هذا المنطلق، يتطلع إيدموند إلى تحقيق هدف نبيل لو صح ما سبق ذكره –التخاطر- حيث يقول: "إنَّ عدداً كبيراً منا يعيش في سلام جزئي مع نفسه، وهذا يمكن أن يؤثر على نحو ما على العالم الأرحب، وعلى الجانب الآخر من العالم، هناك عدد متزايد من الأفراد الذين يعيشون على كوكبنا في ضغوط، وإحباط، ويعانون من العنف، وهكذا فمزيد من الاضطراب والعنف يؤثر في الوعي الإنساني ككل، وأبعد من هذا، فلو أن هناك وحدة أساسية موجودة بالفعل بين كل العقول، إذاً فكلُّ الفروق بين بني البشر التي ترجع للنوع، أو العمر أو العرق، أو الثقافة أو القومية، مسألة نسبية. فعلى المستوى الأعمق نحن جميعاً متشابهون، إذْ إنَّنا ثمرة نفس الوعي، وأيّاً كانَ الَّذي نفعله، سواء أكان جيدّاً أم سيئاً لفرد آخر، فإننا نفعله لأنفسنا ويعود علينا، وبالتالي فالقاعدة الذهبية والإلزام الأخلاقي بكل ديانات العالم هي: "عامل النَّاس كما تحب أن يعاملوك"، إنما هي انعكاس في الحقيقة للبناء الأساسي للواقع".
وَبعدَ هذهِ النَّظرةِ يَخلُصُ إيدموند إلَى أنَّ السُّلوكَ بحبٍ وشفقةٍ نحو بني البشر، ليس مجرد إلزام أخلاقي عالمي فحسب. إذْ إنَّهُ يتبعُ مباشرةً البنيةَ الفطريةَ للواقع، حيثُ كُلُّ الوعي –من خلال أجسام مادية متباعدة- هو في حقيقته مجالٌ موحدٌ. وإيقاظ هذا الوعي العالمي بوقتنا هذا هو خطوةٌ نحو معرفة أرحب بالحقيقة. فعندما نتخطى اهتمامات الذَّات، لنرعى بئتنا وكذلك كُلُّ الإنسانيَّة، فإنَّ كُلاًّ منا يكونُ جزءاً متضمناً في هذا الارتباط العميق بأسره.