
تقع رواية أفندينا للروائي المصري محسن الغمري في 393 صفحة، حيث نجد في بدايتها شخصية تلتقي صديقها السفير بعد طول غياب، وخروجه على المعاش، وتذهب للقائه في بيته الذي يعيش فيه بمفرده، وهذا البيت مليء بالكتب والكراكيب غير المنظمة، فيتفق الصديق مع صديقه على ترتيب هذا الوضع القلق، وتقع يده على مخطوط يظهر عليه أثر الزمن جلبه السفير معه من "قولة" قرية محمد علي في اليونان، حيث أعطاه له حفيد كاتب ذلك المخطوط، ففي [ص: 19] الشيخ أحمدوف ذو الثمانين عاماً يهدي السفير كنزاً ثميناً "حزمة من الأوراق أخذت لوناً ضارباً للصفرة بفعل الزمن".
على الرغم من أن اللقاء تم في 2020م بين السفير وصديقه وشروعهما في فتح ذلك المخطوط وقراءته؛ فإن المخطوط وصل إليه في السبعينيات من القرن العشرين.
حينما شرعا في قراءة المخطوط عرفا أنه لرجل ولد في "قولة"، وذهب إلى مصر حينما عرف بتولي ابن قريته محمد علي السلطة فيها وأصبح مقرباً جداً من الحاكم، بل أصبح كاتبه في القصر.
ومن هنا؛ فإن عملية التراسل بين زمنين حاضرة بقوة في هذه الرواية لأننا ندخل عالمها ونحن في اللحظة الراهنة، وهذا العالم يتفاعل بالأساس مع فترة خصبة في تاريخ مصر، هي فترة حكم محمد عليه وما فيها من أحداث جسيمة، وفترة حكم حفيده عباس الأول الذي انتهت حياته في عام 1855م.
كما يظهر فيها ذلك التراسل بين النص/ الرواية من ناحية وخارج النص/ الأحداث التاريخية من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أن السارد الذي ظهر في بداية الرواية كان مرشحاً بأنه سيظل مهيمناً على السرد؛ فإننا نفاجأ بأن الهيمنة السردية تنتقل لجد الشيخ أحمدوف كاتب المخطوط.
ومن هنا؛ فإن الزمن في هذ الرواية له بنية خاصة، لأن الرواية على الرغم من طولها الواضح وتفاعلها مع أحداث مختلفة؛ فإنها تأتينا عبر الجلسة التي جلسها السارد الأساسي مع صديقه السفير وانتهيا سوياً من قراءتها.
ولذا نجد الامتداد الزمني الكبير في داخلها يأتينا محكوماً بفترة زمنية صغيرة هي مقدار هذه الجلسة.
وإذا كان سرد السارد الأول يأتينا من خلال صوته هو؛ فإن سرد السارد المحوري في المخطوطة يأتينا عن طريق الكتابة وما خطه في مخطوطته. وعلى الرغم من أن السارد الأول قد سمح لنا بالدخول في عالم المخطوطة وتراجع دوره في السرد مفسحاً الطريق للشيخ صفاء الدين القولي جد الشيخ أحمدوف كي يأتينا ما كتبه؛ فإن هذين الصديقين ظلا حاضرين بقوة، سواء كان هذا الحضور في ذهننا أم كان حضوراً عن طريق تدخلهما في السرد عن طريق قطعه بالتعليق أو إظهر الدهشة على ما يقرآنه. على نحو ما نجد في [ص: 318] من ظهور صوت الصديق مع صديقه السفير يتعجب من تشويه عباس حلمي، فقد رأى فيه شخصية عادلة ولها رؤية.
كما أن بنية الرواية من حيث مجيء الكتلة المهيمنة فيها عن طريق مخطوط، وتفاعل هذا المخطوط مع فترة تاريخية نحن نعلم انتهاءها؛ فإننا نجد المتعة السردية من خلال دور الرواية في تمثيلها الرمزي للعالم وملئها لفجوات معرفية بطريقة فنية ورسم الخطوط التي تجمعت من أجل ظهور الحدث بطريقة معينة، واستغلال الوصف من أجل نقلنا إلى عالم الرواية.
كما أن التعدد المكاني الواسع في هذه الرواية يأتينا أيضاً من خلال مكان محدد هو شقة السفير البسيطة، التي يجلس فيها هو والسارد الأول ويقرآن ذلك المخطوط بصوت نسمعه.
وقد تجولت بنا الرواية عبر أماكن شديدة التنوع والثراء في مصر واليونان وتركيا، والجزيرة العربية وبلاد الشام والسودان ومنابع النيل ودول أوروبا.
فظهرت الأماكن المغلقة متمثلة في القصور وما تحمله بين جنباتها من نعيم وفي الوقت نفسه ضغوط هائلة على من فيها. وظهرت الأماكن المفتوحة على نحو ما نجد في صحراء نجد التي نقلت لنا حياة الحرب التي عاشها الجيش المصري ضد الوهابيين. وظهرت المياه سواء كانت مياه البحر، خصوصاً البحر المتوسط الذي كان مسرحاً لكثير من الكتل السردية في الرواية أم مياه النيل التي نالت نصيبها من الكتل السردية أيضاً.
ومن هنا فقد كان التنوع الكبير في البنية المكانية متراسلاً مع الحركية العارمة التي أحدثها محمد علي والجيش المصري في تلك الفترة.
تثار مسألة النوع بقوة في هذه الرواية، فعلى الرغم من بنيتها الروائية الواضحة فإننا نجد فيها مخايلة لفنون أخرى، مثل فن القصة القصيرة، لأن طول الرواية الواضح قرابة 400 صفحة وما فيها من تعدد زماني وتعدد مكاني، وتعدد شخصيات وتعدد أحداث، وبما فيها من مستويات متنوعة للغة مثل اللغة السردية واللغة الحوارية واللغة الوصفية، كل ذلك يكرس للنوع الروائي، ولكن كل ذلك قد جاءنا في جلسة واحدة ومن خلال شخصيتين اثنتين فقط، يجلسان في شقة بسيطة مغلقة، مما أدى إلى ظهور سمات تكرس للقصة القصيرة مثل وحدة الزمان/ جلسة واحدة ووحدة المكان شقة السفير المتواضعة ووحدة الحدث قراءة المخطوط وانحسار الشخصيات في شخصيتين جوهريتين.
ومن هنا؛ فإن هذه الرواية تظهر من خلال بنية روائية ولكنها داخل بنية القصة القصيرة. كما تثار مسألة الكتابة التاريخية من خلال التفاعل الواضح مع فترة تاريخية لها حضورها الكبير في كتابات المؤرخين، ومن خلال وجود المراجع التاريخية التي وضعها الروائي محسن الغمري في نهاية الرواية.
كما تثار الكتابة الرسائلية من خلال ذلك المخطوط الذي نجد داخل بنيته استحضاراً واضحاً لشخصية المرسل إليه من خلال ذكر كلمة قارئ المخطوط الذي يرددها الشيخ صفاء الدين القولي أكثر من مرة. على نحو ما نجد في [ص: 155] من خطاب صفاء الدين لقارئه "عفواً يا من تقرأ مخطوطي الآن...".
تحتوي هذه الرواية على شخصيات كثيرة جداً ومتنوعة، ولكن يتم التركيز فيها على شخصيات محورية مثل شخصية محمد علي باشا والي مصر، وهو يظهر في هذه الرواية في مرحلة عمرية ممتدة تنتهي بموته في قصره بعد أن عاش حياة حافلة.
وهو شخصية لها تأثير كبير ليس فقط على محيطها الاجتماعي وإنما على أحداث عصره كله.
وهو شخصية إيجابية مليئة بالعزم والحزم وله رؤية استباقية واسعة وطموح كبير لتكوين إمبراطورية واسعة تكون مصر في القلب منها.
كما أنه على الرغم من أميته فقد كان مؤمناً بالعلم الحديث، ويتمسك به باعتباره هو الحل الوحيد للإمبراطورية المصرية حتى تصبح قوة عالمية. كما أنه يتميز بالأفق الواسع جداً يستعين بأهل العلم والخبرة، وكثيراً ما كانوا من دول تظهر عداءها له وتقف ضد مشروعه الكبير، وكثيراً ما كانوا على غير ديانته أيضاً.
ولكنه في مسألة ابنته نازلي لم يكن بسعة الأفق المعروفة عنه، فهو حينما نما إليه أن ابنته على علاقة غير شرعية بأحد حراس قصرها من الضباط، كلم حفيده عباس حلمي الأول وطلب منه أن يذهب لقتلها، خوفاً من الفضيحة، هذا من غير أن يتحرى في هذه المسألة أو يعالجها بطريقة يتجنب فيها إراقة دماء ابنته.
ولكنه على الرغم من نجاحاته المدوية؛ فإن الحياة لم تكن كريمة معه على طول الخط، فرأينا الزمن يصيبه في مقتل في بعض فترات حياته، فقد مات ابنه طوسون نتيجة لطموحاته متأثراً بإصابته بمرض الطاعون.
وقتل ابنه إسماعيل كامل في السودان على رأس حملة وجهها أبوه إلى منابع النيل، ومات ابنه إبراهيم متأثراً بمجهوده الفائق في حروب دولة أبيه، وماتت ابنته أيضاً، وزوجته أمينة أم أولاده ماتت في حياته.
كل ذلك يجعل منه شخصية -رغم نجاحاتها الباهرة- تحمل في أعماقها مأساة واضحة.
وعلى الرغم من تمتعه في معظم فترات حياته بقوة جسدية وعقلية كبيرة؛ فإنه في نهاية حياته فقد تركيزه العقلي وأصبح في حالة من التيه وعدم التركيز، وفقد قدرته الجسدية أيضاً حتى ذهب الحكم منه إلى ابنه إبراهيم باشا في حياته، ولكنه لم يلبث في الحكم طويلاً إذ وافته المنية سريعاً فذهب الحكم إلى حفيده عباس حلمي الأول حفيده من ولده طوسون، رغم وجود أولاد لمحمد علي لكن قاعدة الحكم التي أسسها الفرمان العثماني أن الحكم لمحمد علي وأبنائه من بعده الأرشد فالأرشد.
أما الشخصية المحورية التي أخذت نصيباً كبيراً جداً من الكتل السردية فهي شخصية عباس حلمي الأول حفيد محمد علي من ولده طوسون.
وقد كان عنوان الرواية ذا دلالة وغلافها أيضاً، فعلى الغلاف صورة كبيرة لمحمد علي، وبجانبه صورة صغيرة ولكنها أكثر وضوحاً لعباس حلمي الأول، وهنا قد يجد المتلقي نفسه متحيراً حول هذا العنوان وهل المقصود به محمد علي أم حفيده؟ ومن هنا فقد أخذت هاتان الشخصيتان أكبر نصيب من الكتل السردية في هذه الرواية.
وهذه الرواية أضاءت لنا حياة عباس حلمي الأول منذ ما قبل الميلاد حتى بعد وفاته، فهو ابن طوسون باشا أحب أبناء محمد علي إليه وإلى الرعية وأمه بمبا جاري أصبحت حرة بعد ولادته.
وقد ولد في صحراء الحجاز أثناء حملة أبيه طوسون لإخضاع الوهابيين، ولكن أمه أصيبت بالحمى وهي حامل فيه مما جعل طفلها يصاب بالصرع.
وهو أول حفيد لوالي مصر محمد علي باشا الكبير.
نشأ الطفل محباً لجو الصحراء محباً للخيول العربية الأصيلة. وعندما عاد إلى مصر ما لبث أن فقد أباه طوسون وأصبح يتيماً مما جعله يكسب تعاطفاً كبيراً من جده الذي طبّقَ "حكم مصر لأبناء محمد علي الأرشد فالأرشد"، وعليه؛ فإن جده قد بدأ مبكراً تجهيزه لتولي شؤون الحكم.
وقد جعل من الشيخ أحمد الحنبلي الإشراف على تربيته، وهو شيخ حجازي متشدد يدين بالأفكار الوهابية، مما ترك أكبر الأثر على شخصية الطفل، وبعد تقلبات عدة يصبح عباس حلمي الأول حاكماً لمصر لتتحقق نبوءات كثيرة قيلت له، وتطل مقارنة حادة بين عصره من ناحية وعصر جده محمد علي من ناحية أخرى.
وقد ظهر بوضوح اختلاف طريقة كل منهما في الحكم. وقد وضحت الرواية كيفية تشكيل نفسية هذا الحاكم وقراراته، وإذا كانت هناك سلبيات واضحة طاردته فقد كانت هناك بعض الإيجابيات التي ذكرتها الرواية. ومنها حبُّه للشعب ومحاولته توفير المال اللاّزم في خزينته وانطلاقه من منطلق ديني في الحكم، ولكن هذا المنطلق الديني جعله يهمل الجيش ويهمل الاستعانة بمعظم الأجانب بسبب عدم حبه لهم.
كما أن هذه الشخصية تظهر وهي تعاني من مرض لا يرحم هو مرض الصرع الذي أصيب به نتيجة إصابة والدته بالحمى وهي حامل فيه.
كما أن الرواية كشفت عن العوامل التي شكلت أفكاره وبالتالي كان لها أثرها في اتخاذ قراراته، وكشفت عن سبب عداوات الأسرة الحاكمة له، وعن كيفية مقتله وسبب ذلك.
ومن هنا فهو شخصية ظهرت على مدار الرواية وهي تُعاني من قلق نفسي بسبب حالة من عدم التواؤم مع معظم ما يحيط به من مجتمع.
فقد كشفت عن خلاف في الرأي والتوجه جعل جده في كثير من الأحيان يلقي عليه باللائمة.
وقد حاول الكثير من أفراد أسرة محمد علي الحيلولة بينه من ناحية، وبين حكم مصر من ناحية أخرى ولكن كل مساعيهم باءت بالفشل؛ إذ مالبث أن تولى الحكم في حياة جده الباشا وتحققت نبوءات مختلفة، كما جاء في [ص: 221] من لقاء عباس بورد ونبوءاتها له، وتحقق هذه النبوءات.
و[ص: 252] نبوءة الشيخ حسن الأعمى لعباس باشا أثناء صلاته في زاويته بأنه سيصبح حاكم المحروسة على الرغم من تنكر عباس حلمي ودخوله هذه الزاوية لأول مرة في حياته،
و[ص: 268] حيث تنبأ هذا الشيخ أيضاً بأن عباس يسعى لنهايته.
وإذا كانت مكائد الأسرة المالكة لم تنجح في إبعاده عن حكم مصر فإنها نجحت بتعجيل نهايته، حيث لقي حتفه على يد غلمانه الموكلين بحراسته بعد ستة أعوام فقط من حكمه.
ويظهر في هذه الرواية التجاوب الكبير بين أحداثها القديمة من ناحية وأحداث حديثة على أرض مصر من ناحية أخرى، على نحو ما نجد في [ص: 315] من تراسل التاريخ مع الحاضر في وجوب ترشيد الاستهلاك.
ومن هنا؛ فقد ترك الماضي أثره على الحاضر وأثر الحاضر بدوره في فهمنا للماضي، وهذه قيمة الرواية التاريخية.
وتظهر ملامح البيئة في هذه الرواية بوضوح شديد، خصوصاً في الكتل السردية التي رصدها الراوي للوصف، فوجدنا وصفاً سردياً لافتاً للجماد والنبات والحيوان والإنسان.