بين الحِرف الشعبية والوعي الثقافي

حوار مع الشاعر والباحث د. مسعود شومان

حاوره: محمود وجيه

التراث الشعبي أحد أهم ركائز الهُوية الثقافية لدى الشعوب، ويمتلك قيمة فنية وأدبية كبيرة، كما أنه ثروة ثقافية غنية تعكس هُوية الشعوب وتاريخها؛ لما يحتويه من أثر القصص والأغاني والأمثال والأساطير التي تنتقل من جيل إلى جيل، كما يحمل قيّم ومفاهيم اجتماعية وثقافية مهمة، ويعتبر جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية للشعوب.


في هذا الحوار الممتد، نقترب من رؤية أحد أبرز الأصوات المعنية بالثقافة الشعبية وشعر العامية المصرية، وهو الشاعر والباحث د. مسعود شومان، الذي لم يكتف بالكتابة الإبداعية؛ بل انشغل أيضًا بالتأصيل النظري والميداني لهذا الإبداع المهمَّش نقديًا، رغم حضوره العميق في وجدان المصريين.


مسعود شومان شاعر وباحث مصري حصل على دبلوم الدراسات العليا في فلسفة الفنون الشعبية عام 1992م من المعهد العالي للفنون الشعبية – أكاديمية الفنون، كما حصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة القاهرة‏ عام 2024م، وهو أحد أبرز الأسماء التي ساهمت في دراسة وتوثيق التراث الشعبي من خلال أعماله الشعرية والبحثية، حيث قام بتقديم رؤية جديدة حول التراث الشعبي وأهميته في تشكيل الهوية الثقافية المصرية والعربية.

 يمضي شومان في حديثه كمن يرسم خريطة مزدوجة: خريطة للهامش الذي يريد له أن يكون في القلب، وخريطة لأغنية منسية تسكن في أذن الوطن. يتناول الحوار أسئلة حول غياب الثقافة الشعبية عن المؤسسات الأكاديمية، وإمكانيات استثمار الفنون الأدائية في التنمية الثقافية، وأهمية الرقمنة في حماية التراث، كما يعرّج على الأغنية الشعبية بوصفها إحدى بوابات التربية الأولى، ويتوقف طويلًا أمام واقع شعر العامية، مشيراً إلى ضرورة إعداد ببليوغرافيا وخرائط نقدية دقيقة لهذا الفن الذي ساهم بجدارة في الحراك الثقافي والاجتماعي.


هذا الحوار لا يكشف فقط عن رؤى مسعود شومان، بل يعيد طرح سؤال كبير: لماذا نهمّش ما هو منسوج من يومنا؟ ولماذا لا نُراكم رؤيتنا للعادي باعتباره نافذتنا الأهم إلى الهُوية؟



 لماذا لا تحظى الثقافة الشعبية بالاهتمام الكافي داخل المؤسسات الأكاديمية؟ وما أهمية هذا الإبداع الشعبي في سياق الثقافة المصرية؟

بعيدًا عن النظرة التراتبية التي تضع الثقافة الشعبية في مرتبة دونية، أو على أقصى تقدير في هامش الهامش من الدرس الأكاديمي، تظل قلة الدراسات الميدانية أحد الأسباب التي تُعيق فهم العقلية الشعبية وآليات تفكيرها وملامح إبداعها، رغم أنه يشكل جزءاً جوهرياً من الثقافة المصرية.

إبداع الجماعات الشعبية يُعد عنصراً أصيلًا في مواجهة التبعية الثقافية، خاصة في ظل ما تروّج له الأسواق الإلكترونية من ثقافة استهلاكية على حساب الصناعات الثقافية والإبداعية. ومصر تملك من هذه الصناعات ما هو متجذر في تربتها ويمتد في فنونها الأدائية الحية.

⊙ ما المقصود بـ"الفنون الأدائية"؟ وهل يمكن استثمارها؟

الفنون الأدائية تشمل فنون الأداء الشعبي مثل: رواة السير، المغنين الشعبيين، لاعبي التحطيب، فناني العرائس والأراجوز، الحرفيين في الحرف اليدوية، والعازفين على الآلات الموسيقية الشعبية... إلخ. وهي ليست مجرد موروث جمالي، بل تمثل كنوزًا بشرية حية، يمكن استثمارها محلياً وقومياً وعالمياً كجزء من هوية ثقافية متجذرة، وقد تم تسجيل عدد من هذه العناصر في قوائم اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، ومنها:

السيرة الهلالية (2008) - التحطيب (2016) - الأراجوز (2018) - النخلة (2020) - النسيج اليدوي (2020) - الخط العربي (2021) - رحلة العائلة المقدسة (2022) - النقش على المعادن (2023) - الحناء (2025) - السمسمية (2025).

⊙ كيف يمكننا استثمار هذا التراث على مستوى التنمية؟ وما المطلوب لحماية هذه الكنوز البشرية؟

هذه الكنوز تفتح أفقاً واسعاً للتنمية الاقتصادية، وتدفع نحو الاستلهام والتوظيف والابتكار، دون تشويه للأصل المتجذر في الهوية المصرية. فالهُوية من ثوابت الثقافة، والتنوع الثقافي المصري أحد أبرز عناصر خصوصيتنا ومكانتنا.

أول خطوة تبدأ بالاهتمام بالرواة والصناع، من خلال توفير مظلة اجتماعية تحميهم وتدعمهم في نقل الخبرات ومواصلة الإنتاج. بالإضافة إلى ضرورة إيجاد كيان مؤسسي موحد يجمع تحت لوائه الحرف التراثية، لتجنب تشتتها بين المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية، ما يضمن دعماً حقيقياً للصناعات الثقافية والإبداعية، باعتبارها أحد أعمدة الهُوية.

⊙ كيف نبدأ تفعيل الصناعات الثقافية والإبداعية؟ وهل أصبحت الرقمنة جزءاً من هذا التفعيل في العصر الحالي؟

إن الجمع الميداني للمواد المأثورية والحرف التراثية التقليدية يمثل الخطوة المنهجية الأولى نحو تفعيل الصناعات الثقافية والإبداعية، شريطة أن يتم ذلك وِفق استراتيجية تُراعي الأبعاد الجغرافية والاجتماعية، وتُميز البيئات المنتجة. ولا بُدّ من ضبط قاعدة بيانات دقيقة تتعلق بهذه المنتجات والعاملين عليها؛ لأن هذا النوع من الجمع والتوثيق ليس ترفًا معرفيًا، بل هو جوهر المواجهة ضد تنميط المنتج الثقافي وتذويبه داخل سياق استهلاكي معولم.

في عالم تهيمن عليه قيم الاستهلاك وآليات العولمة، يصبح من الضروري الإسراع في رقمنة عناصر التراث والمأثور الشعبي، وإتاحتها على منصات تضمن حقوق الملكية، وتدعم الكنوز البشرية الحاملة لهذا التراث. هذه الرقمنة لا تُحافظ فقط على الكينونة الأصيلة للمنتج الثقافي، بل تضعه في موضع التقدير، وتدعو الفنانين والمبدعين لاستلهامه وتقديمه بصورة عصرية.

⊙ كيف يمكن استغلال التراث الشعبي باعتباره كنزاً ثقافياً للمستقبل؛ لينتقل من الزينة إلى الاستعمال كجزء من رؤية استراتيجية للثقافة والتنمية؟

المتأمل في عناصر التراث والمأثور الشعبي، بعد جمعها وتدوينها وتصنيفها وتحليلها، سيقف على كنز ثقافي يجب أن يكون جزءاً أصيلًا في خطط التنمية. فهذه العناصر تمثل البنية العميقة لرؤى وأفكار الشعوب العربية، وتُعبّر عن منظومة من القيم المتجذرة في الحياة اليومية.

الهدف الأسمى من الاهتمام بعناصر التراث الثقافي غير المادي يتمثل في دعم الصناعات الثقافية، لا باعتبارها ترفًا للنخبة، بل بوصفها فضاءً للثقافة الوطنية يمكن من خلاله توفير بيئة خصبة لنمو المنتجات الثقافية. كما أن دعم الطاقات الإبداعية في هذا السياق يُعيد الاعتبار إلى المنتج الثقافي بوصفه وسيلة للتواصل والتأثير، لا مجرد زينة تُعرض في المعارض.

نحتاج إلى وعي عميق بطبيعة التنوع الثقافي، وفهم للخصائص البيئية التي تُسهم في ترسيخه، لخلق فرص تسويقية للمنتج الثقافي على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. كما أن إبراز هذا المنتج يمكن أن يُسهم في تعميق العلاقات الثقافية، وجعل التراث وسيلة فعّالة للتواصل مع الثقافات الأخرى.

⊙ ما أهمية أغنيات الطفل الشعبية في تعزيز الهوية الثقافية واللغوية للطفل العربي؟

ليست الأغنية الشعبية مجرد مفردات متراصة أو قوافي وأوزان، بل هي تشكيل عميق للوعي الجمعي، تنسجم فيه الكلمات مع منظومة القيم والعقائد والمناسبات الاجتماعية. فالأغنية الشعبية ليست تعبيراً فنياً فقط، بل هي وثيقة حياة، ومشاركة حقيقية للجماعة الشعبية في تفاصيل وجودها. يبدأ تأثير الأغنية الشعبية مبكراً، من رحم الأم، حين تُغنى لها وللجنين معًا، فتصبح الموسيقى أول ما يتعرف عليه الطفل. تُغني الأم ما يُرشدها إلى حالة الجنين كل شهر، ويكون الغناء وسيلة للحماية من الحسد أيضًا، بحسب المعتقدات الشعبية.

تتنوع الأغاني المرتبطة بالطفل ما بين أغنيات تُغنى "للطفل"، وأخرى يغنيها الطفل بنفسه. في الأولى نجد أغاني الميلاد، الهدهدة، الفطام، الختان، التعليم، الرقية، وأغاني تخص البنت أو الولد. أما في الثانية، فنجد الطفل يردد أغاني عن الأشخاص، الحيوانات، المدرسة، المناسبات كرمضان والمطر، وأغاني الألعاب بجميع أشكالها.

⊙ كيف يمكن لهذه الأغنيات أن تساهم في تطوير مهارات اللغة والتواصل لدى الأطفال؟

هناك وظائف متعددة للصوت والغناء يتحول فيها الصوت إلى أداة تعليمية وتربوية تدرب الأذن على الإيقاع والاتساق، وتتعرف العين على الألوان، ويكتسب الطفل وعياً بالأرقام، أعضاء الجسد، الطعام، الحشرات، البلدان، الأحرف، والأوقات.

ومن هنا أصبح الأمر ضرورة أن نقوم بدمج الأغنية الشعبية في مدارسنا لأنه لم يعد ترفًا، بل ضرورة تربوية. فهذه الأغاني تستعيد القيم الكبرى مثل الجماعية، التسامح، المشاركة، الاتساق بين لغة البيت والمدرسة، وترسم خارطة جديدة للهوية. إن إعادة تداول هذه الأغنيات بين الأطفال تضمن بقاء الجسر الممتد الذي حمل ثقافتنا عبر الزمن.

⊙ تمتلك إسهامات ثرية في شعر العامية المصرية كتابةً ونقداً، في رأيك، لماذا لم ينل شعر العامية المصرية ما يليق به من اهتمام نقدي وأكاديمي رغم تأثيره الكبير في المشهد الثقافي والاجتماعي؟

إن أي قراءة لواقع شعر العامية المصرية تحتاج إلى استقصاء لأهم التوجهات والمفاصل لهذا النوع الذي لم ينل ما يليق بمنجزه من الدرس النقدى، كما تحتاج لإعداد مسح شامل يطل على شعر العامية وشعراء العامية، للكشف على أهم السمات الجمالية التي يختص بها أحد الشعراء عبر دراسة أعماله الكاملة، وهو جهد لا نستطيعه، ويحتاج إلى كتائب من الدارسين والنقاد في ظل غياب تاريخي عن دراسة هذا اللون من الشعر، فلدينا أجيال مارست كتابة هذا النوع الشعري الذي بدأت قامته في السموق، وبرزت في منجزه اتجاهات وظواهر شعرية كان لها أثرها البالغ في حركة الشعر الحديث، فضلا عن تأثيره الاجتماعي الواسع. فهو -إذنْ- بحاجة إلى معاينة لدوره المجتمعي، وما يقدمه من توجهات اجتماعية أو سيسيو جمالية خاصة مع اتساع الفترة الزمنية التي تحتاج لرصد ببليوغرافي دقيق لم يقدر له أن يتم حتى الآن، وليس مستغرباً ألا تتوفر تلك القاعدة المعلوماتية حول شعر العامية.

⊙ قمت بإعداد ببليوغرافيا شاملة لشعر العامية من 1952 حتى 2015، كيف ترى أهمية هذا الجهد في رسم خريطة دقيقة لهذا اللون الشعري؟ وما الذي ينقص المؤسسات الثقافية اليوم لتكمل هذا الدور؟

نعم، وهي القاعدة التي لم تتوفر لغيره من الأنواع الأدبية، الأمر الذي يجعلنا نصرخ في وجه المؤسسات الثقافية لإنجاز هذه الخطوة التأسيسية لأهميتها ليس على مستوى الرصد والتوثيق الببليوغرافي ولكن على مستوى القراءة الدالة مجتمعياً وثقافياً وجمالياً، وكلها عناصر مرتبطة ببعضها في بنية النصوص الشعرية، كما أن توفرها سوف يمنح الدارسين قدرة على التعرف على تضاريس الخريطة الإبداعية لشعر العامية وأجيالها المتنوعة في فترة مفصلية ساهم فيها شعر العامية بقدر كبير في الحراك الثقافي وبالتالي في الحراك الاجتماعي والسياسي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها