القهوة.. مشروب العالم

فراس نعناع


يستهلكُ العالم أكثرَ من مليار فنجان من القهوة يومياً، بأنواعها المختلفة: القهوة العربية، والتركية، والفرنسية، والأمريكية، وذلك نظراً لاحتوائها على مادة "الكافيين"، والتي لها تأثير منبّه ومنشّط، مما يعطي شاربها الشعور بالطاقة والقوة. ولهذا السبب تُعتبر القهوة المشروب الأكثر شعبية في العالم.
 

تتعدّد مسمّيات القهوة، ومن أشهرها: "أرابيكا" اليمنية، روبوستا، جيشا، ومن أفخر الأنواع "الموكا" نسبة للميناء اليمني القديم "المخاء". والقهوة هي ثاني أكبر السلع تداولًا في العالم بعد النفط، وهنالك أكثر من سبعين بلداً منتجاً لحبة البنّ "القهوة" في العالم، ومنها: البرازيل ودول أمريكا اللاتينية واليمن وإثيوبيا.
 

تاريخ القهوة

مرّت القهوة برحلةٍ طويلة حافلة بالمتغيرات، منذ اكتشافها من طرف راعٍ في إثيوبيا حسب إحدى الروايات، حيثُ لاحظ أن ماعزه صار نشيطاً ومتحفزاً، بعد أكله حبوباً حمراء من بعض الشجيرات البرية على إحدى السفوح الجبلية. فتفطّن هذا الراعي لتلك الشجيرة، وأخبر الناس عنها، فصاروا يغلونها بالماء، ويصنعون منها القهوة. كان ذلك في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم انتقلت إلى اليمن حسب الروايات، حيث تشير أقدم مخطوطة 1588م "عمدة الصفوة في حل القهوة" للشيخ عبد القادر بن محمد الجزيري الحنبلي إلى أن "المتصوفة في اليمن كانوا من أوائل من اعتاد شرب القهوة"؛ إذ كانت القهوة تُعينهم على السهر، ليظلوا متيقظين لأداء الصلاة، والتركيز أثناء الذكر حتى آخر الليل. وقد واجهت القهوة مقاومةً شديدةً، من قبل رجال الدين في البداية، إذ حرّموها واعتبروها مشروباً مخّدراً يُذهب العقل، ووصفوها بأنها شراب الشيطان.

ثم انتشرت القهوة في العالم الإسلامي بفضل التجار والحجاج والرحالة من مكة إلى بلاد الشام واسطنبول أواخر القرن الخامس عشر، وإلى القاهرة في القرن السادس عشر. وذكر الجزيري في مخطوطته: "أن القهوة سببت فتناً في مكة ومصر وغيرها من بلاد المسلمين". حتى روي أن بعض الأمراء أمر بهدم المقاهي وتكسيرها وإتلاف حبوب البن ومعاقبة من يشربونها. وهناك الكثيرون ممن حرموها وأصدروا فتاوى بتحريمها، حيث قالوا إن كثيرها يؤدي إلى السكر، وقال آخرون إنها مضرة للبدن.

ذكر(الجزيري) بعضاً من أبيات الشعر في مخطوطه عن القهوة فقال:
يا قهوة تُذهب همّ الفتى .. أنت لحاوي العلم نعم المراد
شراب أهل الله فيها الشفا .. لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشراً فتأتي لنا .. في نكهة المسك ولون المداد

ومع انتشار المقاهي، أصدر السلطان العثماني سليمان الأول عام 1524م فتوى تسمحُ باستهلاك القهوة، حيثُ افتتح أول مقهى في اسطنبول في عهد السلطان سليمان القانوني منتصف القرن السادس عشر، على يد اثنين من تجار دمشق، بعد أن نجحا بافتتاح مقهى لهما في دمشق. لاحظ عالم النبات الألماني "ليونارد روولف" (القهوة) في حلب عام 1573م، والتي انتقلت إلى البندقية وإيطاليا عبر التجار البنادقة المقيميين في مدينة حلب السورية، والتي كانت فيها قنصلية تجارية للبندقية في حلب منذ عام 1562م.

في عام 1650م دخلت القهوة إلى المملكة المتحدة عبر تاجر عثماني يدعى باسكوا روزي، حيث باع بضاعته من القهوة، بمقهى بلندن على ساحة جورج بشارع لومبارد، وبعد أقل من عشر سنوات افتتح مقهى آخر سماه "سلطانيس هيد" ومعناه رأس السلطانة في كورنيهل. وبحلول عام 1700م كان في إنجلترا نحو 3500 مقهى. وبدأت المقاهي بالانتشار في العالم مُضيفة هذا المشروب القادم بقوة "القهوة" لقائمة المشروبات لديها، والتي أصبحت مرتبطة بالمثقفين والفنانين في بدايتها، ففي لندن مطلع القرن السابع عشر كان هناك حوالي 500 مقهى، وكانت تُعرف "بجامعات البنس"، حيث كان باستطاعة الزبائن الاستماع والتحدث لكبار الفلاسفة والأدباء والفنانين، لقاء تسعيرة القهوة التي تبلغ بنساً واحداً. وكانت أوروبا تستهلك شرب القهوة على طريقة المسلمين بطريقتها التقليدية، وهي غلي مسحوق البن والسكر معاً. ثم أصبح هذا المشروب المفضل في المقاهي وبدأ بالانتشار، وتكرس مفهوم المقاهي حيث باتت مكاناً للتبادل الفكري والأدبي والفني.

القهوة العربية: عادات وثقافة

ليست القهوة العربية مجردَ مشروب ساخن فحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية. فهي تُستخدم للفرح وللحزن معاً، وتعدّ رمزاً لكرم الضيافة، إذ تحملُ في طياتها تاريخاً عريقاً، وعادات وتقاليد راسخة الجذور، وتُعبر عن كتلة من الأحاسيس والمشاعر.

تتميز القهوة العربية بطقوسٍ خاصة عند تقديمها، فهي تعكس احترام المُضيف للضيف، وتُقدم القهوة المصنوعة من حبوب البن المطبوخة لعدة ساعات، حسب البلد العربي وطريقة صنعها، في فنجان صغير مصنوع من الزجاج يرمز للبساطة والتواضع. وهناك الدلة النحاسية وهي التي تحفظ القهوة المطبوخة لفترة أطول.

تحمّص القهوة في بلاد الشام لتصبح غامقة اللون، ويضاف إليها بعض حبات الهيل. أما في الخليج العربي فتُحمص لتصبح شقراء، وعادة ما تُضاف لها حبوب الهيل والزعفران، مما يمنحها رائحة عطرية ونكهة مميزة. وتقدم القهوة العربية للضيف باليد اليمنى. ويعتبر رفض شرب القهوة العربية إهانة للضيف، وفي بعض الحالات يكون للضيف مطلب عند المضيف فلا يشرب قهوته إلا إذا لبى له طلبه.

أدرجت القهوة العربية ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي –"اليونسكو" عام 2015، وعلى الرغم التطور والتغيرات التي يشهدها العالم، إلا أن القهوة العربية لا تزال تحتفظ بمكانتها الخاصة وتحافظ على خصوصيتها وجوهرها الأصيل.


القهوة مصدر الإلهام

ارتبطت القهوة بالإبداع، ففي فنجانها الدافئ وجدت العقول المبدعة الإلهام، وقد حظيت لدى الكثير من الأدباء والفنانين، وصانعي السينما والمسرح، وصناع الفنون المختلفة، بمكانة خاصة في حياتهم، فكانت محفزاً لأفكارهم، ورفيقاً لهم في أيامهم الطويلة التي يقضونها في الكتابة والتأليف، وكانت جزءاً مهماً من طقس عملية الكتابة، فهي تمنحهم التركيز والتأمل لإطلاق العنان لمخيلتهم.

وعلى سبيل المثال كان الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير يشرب كميات كبيرة من القهوة ويعتبرها "نبيذ الفلاسفة". وقد وصف الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي القهوة بأنها "الوقود الذي يحرك العقل"، أما الكاتب الساخر جورج برنارد شو فكان يعتبر القهوة "مشروباً إلهياً"، وكان يشربها طوال اليوم. ومثله كان الكاتب فيكتور هوغو يستهلك كميات كبيرة من القهوة، ويطلب من خادمه إعداد خمسين فنجاناً في اليوم. أما الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي فقد كان يشرب القهوة السوداء القوية ويقول عنها: "مشروب الفلاحين". والرسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو كان يستهلك هو الآخر كميات كبيرة من القهوة ويعتبرها "مصدراً للإلهام".

إن العلاقة الوثيقة بين القهوة والإبداع، تؤكد على الدور الفاعل لهذا المشروب في حياة المبدعين، فالقهوة أكثر من مجرد مشروب ساخن، بل هي رمز للإلهام واليقظة، ففي فنجان القهوة يلتقي العالم المادي بالعالم الروحي، وتتولد الأفكار وتتحول إلى تُحف فنية وأدبية.

القهوة والمقهى في السينما والمسرح

ظهر المقهى في العديد من الأفلام والمسرحيات، ومثالاً على ذلك مسرحية "القهوة السوداء" للكاتبة البوليسية أجاثا كريستي، حيث تدور الأحداث في قصر يُقتل فيه عالم كيمياء، بعد سرقة إحدى المعادلات التي اخترعها، وتدور الشكوك حول الضيوف الذين تجمعوا لشرب القهوة، ثم يكتشف المحقق القاتل من خلال فناجين القهوة. وقد تحولت هذه المسرحية إلى فيلم سينمائي بريطاني، من إخراج البريطاني ليزلي. س. هيسكوت بالأبيض والأسود عام 1931م.

ونستذكر في هذا المجال الفيلم الكلاسيكي "كازبلانكا" الصادر عام 1942م، والذي أخرجه مايكل كورتيز، وقد تم تصويره في مدينة الدار البيضاء بالمغرب، وحصل على جائزة الأوسكار عام 1944م. تدور أحداث الفيلم حول شاب أمريكي يعيش منفاه بالدار البيضاء إبان الحرب العالمية الثانية، وهو يمتلك مقهى "ريك" الأمريكي، ويعتبر هذا المقهى موطناً لجميع الشخصيات، وفنجان القهوة في هذا الفيلم كان رمزاً للحب والخسارة والحنين إلى الماضي.

وهناك عدة أفلام كانت القهوة والمقهى مكاناً فعالاً لبينة الأحداث فيها، مثل فيلم "سجائر وقهوة" عام 1993م، وفيلم "عطلة رومانية" 1953م، ومسرحية "غرباء لا يشربون القهوة" للكاتب محمود دياب. والعديد من الأفلام والمسرحيات.
 


قهوة نجيب محفوظ

لعب المقهى دوراً هاماً في حياة الكاتب المصري الكبير الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ، حيث تجلت هذه العلاقة الحميمة في العديد من أعماله الأدبية الروائية. فالمقهى بالنسبة له لم يكن مجرد مكان لتناول القهوة، بل كان فضاءً اجتماعياً وثقافياً يتلاقى فيه الناس ويتبادلون الأفكار والآراء. لقد صُورت مقاهي القاهرة في رواياته بوصفها قلب الحدث، وعكست الهوية المصرية الأصيلة، ونرى هذا جلياً في عمله الروائي "الثلاثية: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، حيث ظهرت المقاهي كأماكن للتجمع والنقاش، وتبادل الأحاديث وتناقل الأخبار عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية. كذلك نجد المقهى "المكان = البطل" في عمله الروائي "زقاق المدق" حيث يجتمع سكان الزقاق للحديث عن حياتهم ومشاكلهم وأحلامهم، وقد تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه للمخرج حسن الإمام عام 1963م. أما عمله الروائي البديع "الكرنك" فتدور أحداثه في مقهى الكرنك الشهير في مصر، والذي كان مركزاً للحياة الثقافية والسياسية في الأربعينيات من القرن المنصرم، وقد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي أيضاً من إخراج علي بدرخان عام 1975م.

لقد كان المقهى، وفنجان القهوة جزءاً لا يتجزأ من الروتين اليومي لنجيب محفوظ، حيث كان يقضي ساعات طويلة في المقاهي، ومنها مقهى "ريش" المشهور وسط القاهرة، يكتب ويقرأ ويتحدث. وربما استمد نجيب محفوظ الإلهام في أعماله الروائية من الأحاديث والنقاشات التي كانت تدور في المقاهي، والتي كانت تعكس نبض الشارع المصري. فالقهوة والمقهى في أدبه عنصران أساسيان ساهما في بناء شخوصه، وأثّرا في مسار الأحداث.

قهوة محمود درويش

كانت القهوة حاضرة بقوة في شعر الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، فلقد ارتبطت بطقسه اليومي، وكانت جزءاً من تجربته الإنسانية والنفسية والشعرية. قال: "القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني والوحيد الذي تقف فيه وحدك".

والقهوة لديه هي لحظة تأمل وانعكاس على الذات. هي رمز الأمل والحنين حيث قال: "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي".

وفي الكثير من قصائده، كانت القهوة رفيقة له في لحظات الصمت والوحدة، قال: "وحيداً أصنع القهوة، وحيداً أشرب القهوة".

وهي صديقة له في لحظات التأمل والحلم، كما في لحظات القوة والألم. يقول: "أريد رائحة القهوة لأتماسك"، وكذلك في لحظات الانتظار والوقت. يقول: "القهوة لا تُشربُ على عجل.. القهوةُ أختُ الوقت.. تُحتَسى على مهل.. القهوة صوتُ المذاق، صوتُ الرائحة.. القهوة تأمل.. وتغلغلٌ في النفس وفي الذكريات".

أضافت القهوة عمقاً نفسياً مختلفاً لقصائد محمود درويش، وكشفت عن جوانبَ خفية من شخصيته، ولعل من أجمل ما كتبه هذا الكشف والبوح حين يقول: "القهوة لمن أدمنها مثلي هي مفتاح النهار، والقهوة لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت".

لقد باتت القهوة رمزاً متكرراً في شعره، كما أضافت القهوة جماليات لغوية وبصرية لقصائده، حيث وصفها بدفئها ولونها ورائحتها.
 

قهوة فيروز

في الصباح المحمّل بنسمات باردة ما من شيء ينافس رائحة القهوة، وما من صوت عذب ملحمي يجعل الروح تزهر وتنعش الذاكرة حنيناً كصوت فيروز.

ومما لا شك فيه أن صوت فيروز ارتبط ارتباطاً عضوياً مع فنجان قهوة الصباح في بلاد الشام على أقل تقدير، إذ تربّت أجيال بأكملها مع هذا الطقس الملحمي اليومي (الصباح، فنجان القهوة، صوت فيروز..)، وهي علاقة هرمية متينة.

"في قهوة ع المفرق، في موقدة وفي نار، نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار". هذه الأغنية ربما تكون الأشهر التي ذكرت فيها القهوة، والتي ألّفها ولحّنها الأخوان رحباني عام 1974م. حيث تصور الأغنية لقاءً رومانسياً في مقهى.

استطاعت فيروز أن تجعل من فنجان قهوتنا الصباحي الدافئ، في يوم بارد من صباحات شهر كانون البارد، رمزاً للتفاؤل بيوم جديد، وطقساً يعكس بساطة وصدق اللحظة، وربطها بين أول رشفة من فنجان قهوة أنيق، وصوتها العذب.

ويبقى حبنا لأول رشفة من فنجان قهوتنا الصباحي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها