نُسختانِ من الحروب الصليبية

الجذور التاريخية للإسلاموفوبيا كأسطورة سياسية

تشاو هوا تشونغ

 


عند الحديث عن الحروب الصليبية، يستحضر الناس ذكريات الدمار والخراب والعواقب الوخيمة التي جلبها الصليبيون، الذين أفسدوا في أراضي الشرق الأوسط نهباً وحرقاً وقتلاً، بدءًا من القرن 11م، واستمراراً حتى القرن 15م، إضافة إلى الشعارات التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تلوّح بها حينذاك، والمتمثلة في مكافحة "الكفار" واستعادة الأماكن المقدسة، مما أفضى إلى جعل التناقض الديني الخلفية الأساسية للعلاقات العربية الغربية منذ مئات السنوات ما بعد انتهاء الحروب.


لذا؛ هل الحروب الصليبية هي فعلاً عبارة عن الجذور التاريخية التي تنامتْ منها الصدامات بين الإسلام والغرب، التي تحوّلت إلى خوف الأخير المَرضي تجاه الأول، كما يزعم بعض الباحثين والمؤرخين الغربيين الذين ذهبوا أبعد من ذلك، للوصول إلى استنتاج أن الصراعات بين الطرفين صراعات حضارية دينية، بواعثها التناقضات في الحضارة والدين.. حتى يظلّ التصادم قائماً؟

حقائق الحروب الصليبية

أولا، ما المسببات الحقيقية المؤدية إلى الحروب الصليبية؟ لنعُد إلى بدايتها، عندما ألقى البابا أوربان الثاني خطبةً دعا فيها المسيحيين الأوروبيين لاستعادة القدس من "القبائل الشريرة"، وأشعل بها فتيل الحروب التي استمرت قرنين تقريباً، وذلك استجابةً لنداء الإمبراطور البيزنطي أليكسيوس للتصدي للسلاجقة بعد انتصارهم على جيوشه، بينما كانت وراء تصريحات البابا الحاثّة على محاربة الإسلام من أجل المسيحية ونجاحها العارم عوامل سياسية واقتصادية أكثر تعقيداً، حيث كان البابا يطمح إلى رفع سطوته وتعزيز مكانة البابوية أمام تحديات إمبراطور روما الغربية؛ ومن ناحية أخرى، كان التجار الأوروبيون يرغبون في احتكار القنوات التجارية التي سيطر عليها المسلمون لكسب أرباح أكثر، إضافة إلى البارونات الذين كانوا يتطلّعون إلى ثراء الشرق وأراضيه، فاستثمروا في الحروب بالأموال والأفراد. ومما يلاحَظ هنا أنه لم تُوقَد الحروب بسبب العوامل الدينية والحضارية بقدر ما أوقدت بسبب العوامل السياسية والاقتصادية.

أما بنسبة لما صرّحت به الكنيسة من فظاعة أفعال "القبائل الشريرة"؛ فإنه في الحقيقة، مقارنة مع تصرفات الفرسان الصليبيين القاسية والوحشية، كان الحكماء المسلمون يتعاملون مع المسيحيين والمعتقدين بأديان أخرى برحابة صدر وموقف منفتح على مدار القرون، ما بين الفتوحات الإسلامية وبدء الحروب الصليبية، حيث منحوهم الحرية والاحترام كما يتمتع بها المسلمون باستثناء بعض الاختلافات بشأن الضريبة، ووفّروا للسكان غير المسلمين حقوق الحكم الذاتي إلى حد كبير، بل وفروا لهم أكبر مما كانوا يملكونه عندما خضعوا لحكم المسيحيين، فتمكنوا من ممارسة طقوسهم الدينية وعاداتهم التقليدية على هواهم بشرط الالتزام بالقوانين طبعاً. من هنا اتضح أن ما زعمه البابا من الصدام بين الديانَتيْن هو صنيعة اصطنعها لتحريض المزاج العام، استغلالا لرغبة فرسان القبائل الشديدة في الحصول على منزلة في الحياة الآخرة، وذلك كان يتوافق مع أطماع التجار وملاك الأراضي، فأشعلوا الحروب بجشعهم وعدوانيتهم.

مـا بين الثقافتين العربية والغربية

لكن يبدو أن الغرب لم يراجع وقائع الحروب الصليبية باعتبارها إرثاً مخجلاً، بل على العكس، إذا رصدنا الأعمال الأدبية أو الأفلام والمسلسلات الغربية المتعلقة بهذا الموضوع؛ نجد أنها ممتلئةٌ بمدائح وترانيم مغنية لروح الفروسية، لا تغرّد سوى للبسالة والإخلاص والتضحية الذاتية، بينما تبقى صامتة عن وجه العملة الأخرى القبيحة المظلمة والمضرجة بالدم، لكن من المفارقة أنّ هذه القصائد بذاتها يرجع أصلها إلى ثقافة العرب الذين حرص الغرب على تشويه صورتهم وشيطنتها، فقد شكلت الثقافة العربية مصدر إلهام لجميع المذاهب الشعرية الغربية من خلال الثقافة الأندلسية الإسلامية، التي انبثقت منها قصائد شعراء بروفانس الذين يُعتبر أنهم الآباء المؤسسون للشعر الغربي، حسبما قاله الفيلسوف والمؤرخ أرنولد توينبي في كتابه دراسة للتاريخ.

ولا يقتصر تأثير الثقافة العربية على الثقافة الغربية على الأدب فقط؛ بل يتخطَّى ذلك بكثير إلى مجالات الفلسفة والطب والرياضيات والفلك وغيرها من المجالات خلال حركة الترجمة العربية، حيث تمّ نقل عدد هائل من النصوص التراثية الإغريقية والسريانية والفارسية وغيرها إلى اللغة العربية، تحت رعاية الخلفاء وكبار المسؤولين ابتداءً من عهد الدولة الأموية، وصولاً إلى قمتها في عهد الدولة العباسية وكان بيت الحكمة رمزاً لها، وخلالها كان المترجمون معروفون بوصفهم كبار الفلاسفة أو الأطباء أو العلماء في الوقت نفسه؛ فقد قاموا بإضافة تفسيرات وتعليقات إلى الكتب المترجمة تزامناً مع نقلها إلى اللغة العربية، وجمع أجزاء الكتب المتناثرة لجعل المضمون أغنى والهيكل أكثر تنظيماً، وذلك ما ساهم في الحفاظ على ثمار دراسات الأسلاف، بل دفع تطور هذه العلوم والمجالات حتى أتى بكنوز ثقافية لا تُقدّر بثمن، حيثُ بدأت تنتشر في أوروبا خلال الفتوحات الإسلامية عبر الأندلس وصقلية، ثم سافرت مع المبشّرين المسيحيين الذين عادوا إلى بلدانهم بعد رحلتهم إلى الشرق مع الجيوش الصليبية، ومن ثمَّ قامت مدرسة طليطلة للمترجمين بنقل هذا التراث العلمي من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، ليصل الإقبال على تعلّم الغرب من العالم العربي إلى أوجِه.

أما من ناحية تداعيات الحروب الصليبية، فرغم أنها أسفرت عن دمار وقتل وإصابات كارثية، لكنها أسهمت في دفع تحولات المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، حيث أُضعفت نفوذ الكنيسة وسطوتها وعُزّزت قوة طبقة التجار، الأمر الذي وضع أسساً لصعود الأخيرة لاحقاً؛ ومن البعدين الثقافي والفكري، فأسهمت في تعزيز التواصل والتبادل بين الشرق والغرب، وذلك تجسّد في استفادة الغرب المتخلف حينذاك من الثقافة العربية المتقدمة، ونهله منها العلوم والمعرفة التي ضخّت دماء جديدة في الفكر الاجتماعي والمجالات العلمية التي أثارت فيها روح البحث، ليشهد المجتمع الأوروبي النهضةَ بفضل ما نتج عن التغذية الثقافية العربية من التحرير الفكري، الذي شكّل سلاحاً قوياً للمقاومة ضد حكم الكنيسة المستبد القامع.

لكن المؤسف أن الثقافة العربية التي أضفت مساهمات لا تمحى في تهيئة انطلاق مسار الحداثة الغربية، لم تحصل على التقدير كما ينبغي ولا حتى الاحترام المستحق، فمنذ وقت طويل، ظل كثير من الغربيين يصفون العرب بالبدوِ والجهل ولا يعرفون إلا القتال. لكن المثير للاهتمام أن المعركة من أجل السلطة والمصالح في العصور الوسطى لم تمنع المبشّرين والعلماء الأوروبيين من التعلم من الحضارة العربية الإسلامية الباهرة، ولو ساد يومها التنافس الجيوسياسي الحاد، وبفضل روحهم الطالبة للعلم والمعرفة شهد المجتمع الأوروبي ولادته الجديدة. فيذكّرنا ذلك بتجربة العرب في استمدادهم من الحضارة الإغريقية المزدهرة علماً رغم الاختلافات بشأن الدين والمعتقدات، لكن ذلك لم يشكّل عائقاً في طريق دراستهم منها بل تحولت إلى سلم الصعود الذي بلغوا به قمة الحضارة الإنسانية.
 

الإسـلاموفوبيا.. أسطورة أم حقيقة؟

عندما صدر تقرير للأمم المتحدة يُشير إلى أنّ الشك والتمييز والكراهية الصريحة تجاه المسلمين قد وصلت إلى أبعاد وبائية1، لا نتمالك إلا أن نتساءل: ما جذور هذه العنصرية والمعادات كلها؟ هل الصراع الحضاري فعلاً هو عقدة المشكلة.. أي يوجد صدع محال رأبه بين الحضارتين العربية والغربية أدى إلى كل ذلك؟ لكن ما مصدر النظرية التي شكلت بذاتها هيكلَ مَبنى الكراهية بعد أن وضعت له أساساً متيناً لتبرير شرعيتها؟

لقد اعتبر كثير من الباحثين والعلماء الحروبَ الصليبية الأصولَ التاريخية لقصة التعارضات بين العالم العربي الإسلامي والغرب التي تتمادى حتى يومنا هذا. لكن كما ناقشنا سابقاً؛ فإن الحروب بذاتها لا تشكل بالضرورة حجةً لإثبات التناقض بين الطرفين.. لفتح تاريخ كراهيتهما، سواء من جانب مسبباتها، أو تداعياتها وذلك أنها اندلعت جراء جشع الكنيسة وطمع الطبقة البرجوازية بدلاً من ظلم الحكماء العرب المزعوم، فضلاً عما استفاده الغرب من العلم والمعرفة من خلال التواصل مع العالم العربي الناجم عن الحروب، وما انتفع منها في زعزعة قاعدة المجتمع الفاسدة.

لذا، لدينا نسختان من نفس الحروب، نسخة حقيقية كما حدث قبل مئات السنوات، وأخرى كما رآها الغرب وروّجها حسب تصوراته وأغراضه، واستعملها لتصبح أسطورة تدور بين الجانب الغربي العادل الشريف والجانب العربي الظالم الشرير، ثم استغلّ هذه الخرافة المصطنعة البعيدة عن ماهية التاربخ لشنّ حروب بشعة جديدة وتشريعها.

ولعلّ الأكثر إثارة للجدل بهذا الشأن هو تصريحات جورج بوش التي استخدم فيها تعبير "الحملة الصليبية" لوصف الحرب ضد الإرهاب عقب حادث 11 سبتمبر، ورغم اعتذاره لاحقاً عن قوله ذاك، فتبين أنه في تصور الغربيين، تعتبر الحروب الصليبية عملية عسكرية نبيلة حيث يمثل الغرب طرفاً عادلاً والعدو طرفاً ظالماً، لذا لا يستغرب عندما أعاد بوش استخدام التعبير نفسه في خطاب لحملته الانتخابية عام 2004.

يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه بتصريحاته هذه التي تشابه ما نادى به البابا أوربان الثاني قبيل حروبه الصليبية، فكلاهما رفع شعاراً متوَّجًا بهالة مقدسة لتوجيه أصابع الاتهام إلى الخصوم الذين لا يصبحون خصوماً إلا بتهمهما التي نسجت الأسطورة المكوّنة من بطل وشيطان، والمقدس (أو العدل) المفقود، لتشبيع القلوب الشائقة إلى قصص جميلة مهدية إلى الفردوس بما يحقق أهدافهما السياسية العظيمة!

لكن، هل يوجد سياسي لا يستخدم شعارات.. لا يستعمل حِيّلاً ولا يستغل المشاعرَ العامة؟ هذه السياسة أمر طبيعي، أمر لا يستغرب منه أحد، أمر يستحق الفخر كأنه تراث وهبه الأجدادُ. فوَرث بوش أسطورةَ الحروب الصليبية ليزيد دعواه ثقلاً تاريخياً، كما ورث الغربيون الذين يطعنون على العرب والمسلمين – نظراً لموازاة بعضهم في هذين المصطلحين – وديدنهم الكراهيةَ القديمة. ثم يضيفون عليها التحامل الحديث؛ ليصنعوا أسطورة أخرى حافلة بنزاعات وصراعات تُنبئُ بفتنة جديدة في حلقة مفرغة.

مأساة لا مفرّ منها ولا مخرج منها، إذًا، على ما يبدو، لكن ترى هل من المستحيل حقاً أن تتخذ القصة مساراً آخر يسلط الضوء على مساهمات النخب العرب والمسلمين.. تاريخياً وعصرياً في إثراء الغرب، بدلاً من الحروب والصراعات؟ أليس التاريخ كتاباً مفتوح المعنى.. شرحه في يد الإنسان، خاصة من يسيطر على سلطة الكلمة مباشرة أو غير مباشرة ليقرر استحضار الماضي كسلاح للهجوم، أو قناة للحوار، ومن خلال ذلك يحسم مواصلة كتابة مستقبل يسوده البلاء والتقاتل، أو الرخاء والتناغم؟

التاريخ لا يكرر نفسه؛ وإنما الإنسان هو من يكرر أخطاءه، أو بالأحرى، إنه لا يصححها، بل يستمر في ارتكابها حتى يُغرق نفسه في مصائب تلو أخرى.. ناتجة عن تجاهله لدروس التاريخ وتحذيره من خطورة الغلطات السابقة وضرورة التخلص منها، لكن للأسف الشديد، ما يشهده الإنسان اليوم ليس إلا امتداداً لتداعيات العداوة التاريخية وما وُلد منها من الكراهية المتراكمة التي ظلت تهترس بعضها البعض لتصل به إلى ما هو عليه الآن، وكأنه ما زال يقف فيما كان عليه قبل مئات السنوات، هذا هو السبب الرئيس لدراسة المؤرخين في غبار الماضي الكثيف محاولين البحث عن بصيص الأمل لفك لغز الدواهي.. غامرةً وحاضرة.

ويجمع كثير من المؤرخين على أن العالم العربي الذي يتربع على مفترق الطرق بين الشرق والغرب، حيث تلتقي فيه مختلف الحضارات ويصطدم بعضها ببعض في الوقت ذاته، جعل المنطقة جسراً للتواصل الحضاري من جهة، وساحةً للتنافس والتنازع من جهة أخرى، وذلك يوفّر مسبباً لا غنى عنه لتناسخ حروب مثل الحروب الصليبية في هذه المنطقة، إضافةً إلى الموارد الطبيعية الغزيرة التي تختزنها، الأمر الذي يجعلها بؤرة التنافس بين نفوذ العالم وجذب أشباح العداءات القديمة، التي تحلّقُ مع أغوال النزاعات الجديدة، حتى إعادة إنتاج الأفلام الحربية المأساوية بسناريوهات متفاوتة، لكن كلها تنتهي بسقوط الملايين من الضحايا.

رغم أن التاريخ من المحال تعديله.. والعوامل الموضوعية بما فيها مواقع البلدان والموارد الطبيعية لن تتغير طبقاً لإرادة الإنسان، بل إن الجشع والأنانية يظلاّن على ما كانا عليه، تماشياً مع شريعة الغاب جنباً إلى جنب وهي ترتدي لباساً مختلفاً عن ما مضى. لكن إذا اتّعظنا من التاريخ فسوف نجد أن الحضارات تتطور في تبادل وتعاون بينما تتضرر في صدامات وصراعات، ودليلا على ذلك أن الحضارة العربية ازدهرت بعدما ضمّت إلى ثقافتها الأصلية خلاصةَ الحضارة الإغريقية التي توارثتها الحضارة الغربية من أيدي العرب لاحقاً، حتى تستقبل النهوض الحضاري، وذلك يظهر أيضاً أن تشارك الحضارتان العربية والغربية إلى حد كبير المصادرَ الثقافية ألا وهي الثقافة الإغريقية والرومانية، وغيرها من الثقافات العريقة التي تم حفظها وتطويرها بفعل جهود العلماء العرب، فما يسمى بـ"الصدام الحضاري" يدعو للشكوك في الأصل نظراً للمصدر الحضاري المشترك.

ولكن، ومن حسن الحظ أنّ التبادل الثقافي والفكري لم ينقطع لحظة بين الحضارتين شعبياً وأكاديمياً، خصوصاً أن عصرنا عصر الانترنت والتواصل الاجتماعي، فرغم السلبيات والجداليات المحيطة بها، تساهم في تفاهم الشعوب بعضها ببعض والدراسة من بعضها لبعض، ولعلّه يدفع لمراجعة التاريخ حيثُ الاحتكاكات لا مفرّ منها خلال التفاعل الحضاري، فتتقدم الحضارة البشرية إلى الأمام، ولو لم يُسمع صوتها أحياناً، على عكس صيحات المدافع وأصداء التفجيرات، لكن الشغف بالعلم والمعرفة والسعي الدؤوب وراءهما يلمعان في مجرى التاريخ، وذلك أن المحبة والتعاطف اللذان نحرص عليهما تجاه الآخرين تؤكد على صفتنا المشتركة كأبناء آدم، وبما يمنحنا القدرة على كسر غيوم البروباغندا.

 


 -1- https://www.un.org/ar/observances/anti-islamophobia-day

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها