سرْدِيَّةُ الماء في رواية "تغريبة القافر"

د. عبده منصور المحمودي



في روايته "تغريبة القافر"، -الصادرة عن دار مسكلياني 2022م، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" 2023م، في دورتها السادسة عشرة- أقام الكاتب العماني زهران القاسمي اشتغاله السردي على تيمة الماء، من خلال التعاطي مع أحداثٍ من حياة الشخصية الرئيسة (سالم)، بصفته "القافر"، المحيلة -في أصلها اللغوي- على التّتبع والاقتفاء، والتي تصَدّرت عتبةَ العنونة، مضافةً إلى مصدرية "التغريب"، تلك المصدرية الدالة على التمادي في السفر. وبذلك، أضاءت العنونة جوهرَ الحياة التي عاشها سالم باحثًا عن الماء في بطون الأودية.
 

وقد ارتبطت -بحياة هذه الشخصية الرئيسة- عددٌ من الشخصيات الثانوية، التي تتشارك معها الحيز المكاني المُشار إليه بقرية "المسفاة"، في ريف سلطنة عمان، ومثله الحيز الزماني الذي لم تظهر معالمه بوضوحٍ، عدا إشاراتٍ تحيل على عودته إلى حقبةٍ قديمةٍ سابقةٍ للحياة الحديثة وثورتها التصنيعية، منها تلك الإشارة الواردة ضمن الحديث عن رحلة مرضعة سالم إلى زوجها المريض في قرية بعيدة، والذي لم تصل إليه إلا بعد أيامٍ ثلاثة، مسافِرةً على ظهر حمارٍ يقوده دليل. ومثل هذه المسافة، لم تكن تُقطع على ظهور الحيوانات، إلّا قبل ظهور صناعة وسائل المواصلات الحديثة.

 

خَطُّ الحكاية

على لسان الراوي العليم تساردت أحداث العمل، استهلالًا بحادثة ولادة سالم، التي أُثِّثَتْ لحظتُها باستعادةٍ لشطرٍ من حياة الأبوين: (عبد الله بن جُميِّل)، "الذي يعمل في الضواحي، فيقضي جلّ وقته في سقي النّخيل والاعتناء بالمزروعات، ويعطيه أصحابُها ثمنًا لجهده حسب الاتّفاق، أو جزءًا من الثمار عند جنيها" [ص: 16]. وشريكة حياته (مريم بنت حمد ود غانم)، التي تأخر حملها سنواتٍ، وحين نالتْه، داهمتْها نوباتُ صداعٍ، لم يكن يشفيها منها سوى الماء بعدما تضع فيه رأسها. ومع أشهر الحمل الأخيرة زاد صداعُها حدّةً وشراسةً، واستجد في حياتها حلمٌ رأت فيه مناديًا يناديها من قعر البئر، فتتداعى إليه. لم يقف الحلم عند حدوده المجردة؛ وإنما تمثّل حقيقةً في تداعي مريم، وهبوطها إلى قعر البئر، على حبلٍ انقطع قبل وصولها إلى الماء، الذي لفظتْ أنفاسَها الأخيرة غريقةً فيه.

يتنامى السياقُ السردي مع حادثة الغرق، ساردًا تداعياتها؛ إذ اجتمع أهل القرية نساءً ورجالًا على حافة البئر، انتشلوا جثة الغريقة، لاحظوا حركة الجنين في بطنها دالةً على حياته، فاستعر الخلاف بينهم حول مشروعية إخراجه من عدمها. وفي خضم هرج الخلاف، أقدمت إحدى المتواجدات، على شقِّ بطن الجثة بسكينٍ أخذتها من حزام أحدهم، محرِّرةً -بذلك- الجنين من موتٍ كان في انتظاره.

تستفيض سرديةُ الحكايةِ، في تقديم سالم، وغَرابِة حاله في امتلاكه قدرةً خارقةً على سماع الماء جاريًا تحت الأرض. كذلك في تقديم ردّ الفعل الاجتماعي الذي فسّر الأمرَ بِمَسٍّ يسمع فيه سالم كائناتٍ شيطانية لا ماءً جاريًا. وتأسيسًا على ذلك بُنِيتْ لحظةُ الإنصاف في مستوىً من القحطِ الذي ضرب القرية، وأخفقَ أهلها في العثور على ماء، ساخرين من اقتراح الاستفادة من قدرة سالم الخارقة. بدأ سالم بمفرده الحفر حيث استقر سمعه على خريرِ ماء، متغافلًا عن سخريتهم التي تلاشت مع بشائر نجاحه، وتَدَفُّقِ الماء الذي اخضرّت به حياتهم، كما اخضرّت به حياة سالم؛ إذ صارت قدرته الخارقة -تلك- ميدانَ عمله، الذي غَلَبَ عليه أن يرافقه فيه أبوه.

يظهر في نسق الحكاية نسيجٌ لعلاقةٍ بين الحب والعمل في حياة سالم، وهو ما تجلّى في قريةٍ مجاورةٍ وصل إليها سالم للعمل، وفيها صادف الفتاة التي سبق وأن خفق إليها قلبه قبل سنوات، واختفت عن أنظاره. التقى بها، أطلع أباه على الأمر، فطلبها له، أقيم حفل زفافهما، لكن صبيحة الفرحة كانت مأساوية، ففيها مات الأب في مكان العمل؛ إذ حال بينه وبين الحياة سقوطُ سقف القناة. غادر سالم وعروسه إلى قريته مكلومًا بوفاة والده، عاهد نفسه على ألّا يعود إلى هذا النوع من العمل، فقد أَوّل فيه أسباب شقائه وتعاسته. لكنه بعد سنواتٍ وافق على العمل في قريةٍ أهلكها الجفاف؛ إذ كان العرض كافيًا لأن يتخلى عما عاهد عليه نفسه. لم يحالفه النجاح، فاستبد اليأس والإحباط بمن عملوا معه ومَنْ وضعوا فيه آمالهم، كلّهم غادروه، عاوَد العملَ بمفرده كمحاولةٍ أخيرة، انفجر الماء، وسحبه إلى الأعماق، حاول النجاة، لكن من غير جدوى؛ فعاش في محبسه المائي على ما يتوافر في سراديبه من هوام وعناكب. أما امرأته فقد تمزّقت بغيابه، مُبَدِّدة الزمن برعي أغنامها، كما شرعت في غزْلِ الصوف، غازلةً به أيام انتظارها عودة سالم. منح الحظ سالم فرصةَ نجاةٍ جديدة، حينما عثر على مسماره ومطرقته، حاول توسيع فتحة خروج الماء؛ كي تتسع لخروج جسمه، لكنه فقد المسمار ثانية، فاستعرَ غضبُه، واكتفى بالمطرقة، ضرب بها الصخر بقوةٍ، ثارت فيها فصول مأساته وذكرياته وغيابه وعذاباته، تهاوى الصخر، وانفتح الطريق؛ فاندفع فيه الماءُ جارفًا معه كل شيءٍ، بما في ذلك سالم.
 

القريةُ أنساقٌ سردِيّة

أثرى العمل مساراته السردية، بخصائص الحياة الشعبية، المنتمية إلى القرية في الديموجرافيا الريفية من سلطنة عمان؛ فكان امتهانُ الزراعة والرعي نسقًا جوهريًّا بين أنساقه. ومثل ذلك تعاطيه مع بعضٍ من المعتقدات الشعبية، وتقديمها على ما هي عليه، بشكلٍ يمكن توصيفه بأنه إحالةٌ على فاعلية الثقافة الشعبية في الإبداع الأدبي -سيما الأدب السردي- وعلى ما تصنعه من تمايزٍ بين آداب الأمم، بل وبين آداب شعوب الأمة الواحدة، المتشاركة قواسم الانتماء الأيديولوجي والجغرافي؛ وهو ما اضطلع به هذا العمل، من إضفاء طابعٍ من الخصوصية المحلية السائدة في ريف سلطنة عمان.

وفي سياق ذلك، يأتي استثمار هذا العمل للصلات الثقافية، التي تربط ما بين حيّزه المكاني وبين محيطه العربي، من مثل الاعتقاد الشائع في معايشة الجن للإنسان وقدراتهم على استبداله بواحدٍ من أبنائهم، بما لهذا الاعتقاد من امتدادٍ في نسيج الثقافة الشعبية العربية، مثله مثل غيره من المعتقدات والصلات الثقافية، التي لها تَمَوْضُعُها في الذهنية الاجتماعية، كما لها انعكاسُها في سلوكيات الإنسان ومسارات حياته وأفكاره ورؤاه وقرارته.

تشويقٌ وشغف

من أهم الخصائص -التي اتّسم بها هذا العمل- سمة التشويق في تَسَارُدِ أحداثهِ، بحيويةٍ اكتنزتْ مستوىً عاليًا من مشاكسة توقعات المتلقي بما لم يلُحْ له في آفاقه الاستشرافية.

وتتجلّى في مفاصل التشويقِ وانتقالاته تقنيةُ (الفلاش باك)، ودورها الفاعل في إثراء الفضاء السردي باسترجاعِ مساحاتٍ من حياة الشخصيات الثانوية، وبوجهٍ خاص ما يعود منها إلى زمنٍ سابقٍ لولادة الشخصية الرئيسة سالم، الذي كان نسقُ حكايته متصلًا من لحظة ولادته حتى نهايته الغريبة، مع ما تخلّلَ هذا النسق من استرجاعاتٍ محدودة بين الحين والآخر.

كما كان للشغفِ حضوره الفاعل في حيوية التشويق السردي؛ تطَلُّعًا لما سيفضي إليه إخلاص الإنسان لشغفه. وقد كان البحث عن الماء -والاستمتاع بالعمل على الوصول إليه- شغفًا تفرّد به سالم. وبلغ إخلاصه لشغفه الذروةَ، وهو منهمكٌ في استخراج ماءٍ، سمعه في قمة الجبل. كاد أن يظفر به، لكنه تداعى مع حالٍ انتزعتْه من ذروة الشغف، وأحلّت محلّه حافزَ الفوز بما وُعِدَ به من مكافأةٍ عظيمة، لم يكن ذاك الوعد سوى طريقٍ إلى ذاك المصير المجهول ضمن ما جرفه انفجار الماء.

الماءُ والرؤيةُ السردية

تبلورت الرؤية السردية -في هذا العمل- من علاقة الماء بالحياة الإنسانية؛ ففيه الماء نسيجٌ سرديٌّ فاعلٌ في انسياب تفاصيل الحكاية ومساراتها، بدايةً من ماهية الماء دواءً لصداع مريم، ثم ملاذًا لها تماهت غرقًا فيه، إذ غادر ماهيته العلاجية، وسكنتْه ماهيةُ الداء التي تجسّدت في هيئةِ موتٍ زعاف، تكاثف الماءُ بعده مطرًا حانيًا على جنازتها، ملأ قبرها، فكان لها قبرًا مائيًّا أُهيل عليه التراب، كما كان -في الآن ذاته- غيثًا تتابعَ، واستمر به اخضرارُ الحياة:
"مرّت خمسة عشر عامًا على وفاة مريم بنت حمد ود غانم غريقة في البئر، واستمرّت آثار ما حدث بعد ذلك من سيولٍ وخصبٍ سنواتٍ لم يشعر النّاس خلالها مرّةً بانقطاع السّحاب، بل ما عادوا يحفلون بأن تكون السّماء غائمةً أو صحوًا، إنما ظلّوا يسقون ضواحي النّخل والبساتين ويوردون مواشيهم المياهَ الوفيرةَ التي انبثقت من الأرض وشقوق الجبال"، [ص: 97].

كما تشكّلتْ بالماء تفاصيلُ حياةِ الشخصية الرئيسة سالم: فالماء ميدانُ شغفه الذي تفانى في الإخلاص له، وبه أنقذ القرية من فترة قحط ضربها بعد سنوات من موت أمه، وفيه رأى رغد الحياة حينما بحث عنه في قمة الجبل، وإليه سافر سفرته الأخيرة التي جعلت منه أسيرَ الماء بعد أن حرره من محبسه.

لقد أقام هذا العمل معماره السردي، على هذه العلاقة الملتبسة التي تربط بين الماء وبين الحياة، بما في هذه العلاقة من تناقضٍ في ماهية الماء؛ بوصفه روحًا لاخضرار الأرض وحياة الإنسان، وبوصفه المناقض مخلبًا من مخالب الموت؛ إذ صادر حياة أم سالم وأبيه، وسار بسالم في الطريق ذاته، ليصل بالمسارات السردية إلى نهايتها. تلك النهاية التي انفتحت على مصيرٍ مجهولٍ لسالم، مصيرٍ انفتحتْ احتماليتُه على اتجاهين متناقضين بتناقض ماهية الماء: الأول حياة سالم الجديدة، والثاني موتُه شبه المحقق، وهو ما يمكن استشفافه من قوة اندفاع الماء الجارف كلّ شيءٍ في طريقه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها