"نحن نصنع عاداتنا.. ثم تصنعنا عاداتنا"
هذه العبارة هي محور كتاب "السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا" The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains للكاتب الأميركي نيكولاس كار، الصادر مؤخراً في ترجمة عربية عن إحدى دور النشر السعودية، والذي يحذر فيه مؤلفه من جناية الشبكة العنكبوتية على عقول البشر، وكيف تدمر قدرة الإنسان على التركيز المُثمر في موضوع ما، أو بتعبير المؤلف: "لقد كنت من قبل غواصاً في بحر من الكلمات، والآن أندفع على سطح الماء بزلاجة مائية".
ومن أجل إنجاز هذا الكتاب، أرغم المؤلف نفسه على الانعزال عن الإنترنت لمدة سبعة أشهر، كما يقول، لكي يبتعد عن كل المؤثرات العقلية التي من شأنها تشتيت انتباهه، ويتمكّن من العودة إلى قراءة الأبحاث المتعمقة في علم وظائف الدماغ، وعلم النفس، بعد أن أصبحت قراءة رواية من 200 صفحة أمراً عسيراً عليه.
يقول الكاتب: على مدار الأعوام الماضية، كان لديّ إحساس مُقلق بأن شخصاً أو شيئاً ما "يتلاعب" بدماغي، يُعيد تشكيل روابطه العصبية، ويُعيد برمجة ذاكرتي. إن عقلي لم يذهب بل تغيّر: أنا لم أعد أفكر بنفس الطريقة كما كنت في السابق!
و"كار"، كاتب متخصص في الكتابة عن التكنولوجيا والأعمال، له عدة كتب، من بينها "التحوّل الكبير" و"هل هو مهم"؟ يكتب ويحاضر عن التقنية والثقافة، وهو من الكتاب الدائمين لمجلة "استراتيجي آند بيزنيس" وصحيفة "الغارديان" البريطانية. وفي عام ٢٠٠٧ انتخبته مجلة "إي ويك"، من بين "المائة شخصية الأكثر تأثيراً في مجال تكنولوجيا المعلومات".

الكتاب > السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا. | المؤلف: نيكولاس كار. | المترجم: وفاء يوسف. | الناشر: دار "صفحة سبعة"، السعودية. | تاريخ النشر: مايو/ أيار 2022.
آفة "الكسل العقلي"
يرى المؤلف أن بيئة شبكة الإنترنت لا تحفّز التركيز العميق مطلقاً، بل إنها تشجّع على التفكير السطحي، وتدفع المرء إلى المتابعة قصيرة الأمد المُوزعة على مهام كثيرة، ما يصيبه بأعراض التشتت العقلي. وبسبب الكم الهائل من المعلومات التي نتعرّض لها على الدوام بشكل مستمر، سواءً منشورات "فيسبوك" أو تغريدات "تويتر"، أو رسائل "واتساب"؛ فإنّنا نفضّل بلا وعي تحصيل أكبر قدر من هذه المستجدات، على حساب التركيز المطوّل مع معلومة واحدة.
إن عليك التفكير قليلاً في عدد المنشورات والتغريدات والرسائل والصور التي تعرضت لها اليوم فقط، وكم من الوقت أمضيت مع كل منها، لكي تتبيّن – بسهولة- أن دماغك قد أصبح مُبرمجاً على التعاطي مع أشياء سطحية، وأنك تفقد يوماً بعد يوم قدرتك القديمة على التفكير المتسلسل الهادئ في موضوع ما، وأن نوعاً غريباً من "الفراغ العقلي" أصاب دماغك في مقتل.
ويطرح "كار" سؤالاً مهماً مفاده: هل حوّلتنا شبكة الإنترنت بما تحويه من مواقع ومنشورات وقصص، يكتبها أشخاص قد لا تكون لهم أدنى علاقة بالكتابة، إلى أشخاص "سطحيين" لا نستطيع التفكير بعمق؟ محذراً في الوقت نفسه من تأثيرات الإنترنت في سلوك الإنسان المعاصر، وموضحاً كيف غيّر استخدام شبكة الويب مسارات التفكير لدى الناس حول العالم، وساعد على استبدال العقل البارع الموجّه لقراءة الكتب بفكر مضطرب ومشوش، يلهث وراء "التفاهة".
يستعرض المؤلف في مطلع كتابه تاريخ عادة القراءة عبر العالم، وكيف تطورت بمرور الزمن، مشيراً إلى أن القراءة ليست عادة فطرية لدى الإنسان مثل تعلّم القدرة على الكلام من المحيط الاجتماعي، بل إنها سلوك مكتسب. وكانت المخطوطات القديمة تُكتب من دون ترك مسافات بين الكلمات، على اعتبار أن المتحدث لا يصمت بين الكلمات، وبالتالي كان على الناس القراءة بصوتٍ عالٍ، لكي يستطيعوا "تفكيك الكلمات" من بعضها، فالقراءة الصامتة عادة مستحدثة.
ويقول إن كل تطور في وسائل نقل المعارف وتسجيلها منذ عهد اليونانيين القدامى، حتى الآن، ترك أثراً ملموساً على الوصلات العصبية داخل الدماغ البشري، فقد سخر الفيلسوف المعروف سقراط من "اختراع الكتب" بدعوى أنها تخلق آفة النسيان في نفس المرء، بدلا من أن يعتمد على ذاكرته في الحفظ والاستظهار.
هذا الأمر، وفق الكاتب، ليس محض بلاغة من سقراط، فطبقاً لمفهوم "اللدونة العصبية" Neuroplasticity، الشائع لدى أطباء الأعصاب؛ فإن لدى الوصلات الدماغية القدرة على إعادة التشكّل حسب الاستعمال أو الإهمال، وهو ما يشير إلى ليونة الخلايا العصبية في أدمغتنا وأجهزتنا العصبية وقابليتها للتغيير، حيث تسمح اللدونة العصبية بتجدّد الدماغ، وتدعم قدراته على التذكر وإعادة التركيب، وتحد من تأثير الاختلالات التركيبية التي تؤدي إليها أمراض مثل "التصلب المتعدد، وباركنسون، وألزهايمر".
وفي حين تتحسّن "وصلات الدماغ" المختصة بالقراءة المتعمقة، مع المواظبة على التركيز، فإنها تتغيّر بسبب "ثقافة التشتت" التي تخلقها الإنترنت، لكي تستقبل أكبر قدر ممكن من المُدخلات من دون الحاجة إلى تمحيص كل مُدخل منها بتعمق. وعلى الرغم من الجوانب المفيدة للّيونة العصبية، إذ تعطي أملًا في تغيير أي عادة مهما كانت، إلاّ أن الكاتب يركز على جانبها المظلم في هذا الكتاب، فالإفراط في استعمال الإنترنت ومواقعه يكيّف الدماغ على القراءة السريعة للمحتوى والاستقبال السطحي لمعلوماته، ما يجعل العودة لقراءة كتاب ما أو القيام بعمل يتطلب تركيزًا عميقاً أمراً بالغ الصعوبة في نهاية المطاف.
ويقضي غالبيتنا ممن يمتلكون اتصالاً بالشبكة ساعتين على الأقل، أو أكثر من ذلك بكثير في بعض الأحيان، على الإنترنت. وفي أثناء هذه المدة، نميل إلى تكرار الأفعال نفسها مرة بعد مرة. وبينما نقوم بهذه الأفعال، يرسل الإنترنت سيلاً ثابتاً من المعلومات إلى القشرة المخية البصرية، والجسدية الحسية، والسمعية الخاصة بنا.
ووفق المؤلف، فإن قدرة الدماغ البشري غير محدودة، والممر من الإدراك إلى الفهم ضيق، لذلك يتطلب الأمر صبراً وتركيزاً لتقييم المعلومات الجديدة، وقياس الدقة، وتقييم مدى ملاءمتها وقيمتها، ومن ثم وضعها في السياق الخاص بها، لكن الإنترنت، نظراً لطبيعة تصميمه، يُفسد كلاً من فضيلة الصبر والقدرة على التركيز، معاً.
بيئة الإنترنت الخادعة
كان من المفُترض أن تتناسب الثورة المعلوماتية الراهنة، بشكل طردي، مع المستوى المعرفي والثقافي لرواد مواقع الإنترنت ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن ما حدث هو العكس تماماً، فقد انعكست هذه الثورة بشكل سلبي على المستخدمين عامةً، ورواد منصات التواصل خصوصاً.
يعممّ المؤلف فكرة الكتاب على العلاقات الإنسانية في مواقع التواصل الاجتماعي، معتبراً أن العلاقات بين البشر تصبح شيئاً فشيئاً أكثر سطحية وابتذالاً. بل وأكثر من ذلك، فنحن نفقد جزءاً كامناً من ذواتنا كبشر بسبب قصور الإنترنت عن الحلول محل التواصل الحقيقي، فقد بات أغلب الناس يكتفي بالمشاركة الإلكترونية في المناسبات، سواء السعيدة أو الحزينة، عبر ضغط زر "لايك"، من دون أن يكلف نفسه عناء حضورها بنفسه.
كما أن مستخدمي مواقع التواصل قد يعرضون الجوانب المشرقة فقط من حيواتهم، ما يخلق بيئة مخادعة في الواقع الافتراضي، فلا أحد ينشر لحظات فشله على صفحته الشخصية، ولن يصوّر أحدهم نفسه وهو جالس في بيته وحيداً لينشرها على "الإنستغرام" مثلاً.
وهناك واحدة من النقاط الأساسية التي يحذر منها الكتاب، وهي نقطة الروابط التشعبية Hyperlinks التي تُرسل المستخدمين إلى صفحة جديدة أثناء قراءة موضوع ما. وهذا هو ما يحدث غالباً في المواقع بهدف تحسين محركات البحث Search engine optimization أو ما يُعرف اختصاراً بالـ SEO، عندما تقرأ مقالاً، وتجد في منتصفه رابطاً لمقال آخر، فتضغط عليه، وهكذا تتشتّت بين المقالات، بحيث لا تعود تعرف من أين بدأت، أو إلى أين سوف تنتهي.
معنى ذلك، حسب المؤلف، أننا أصبحنا نعيش في عصر لا تكتمل فيه أي مهمة على الإطلاق، فلم نعد نستمتع بأي شيء، فهناك دائماً موقع ويب أو رابط آخر لمشاركته، وكل نقرة تؤدي إلى نقرة أخرى، حتى أصبحنا نُراكم باستمرار هذه "المعرفة السطحية" التي لن نستخدمها أبداً.