مدخل إلى عالم الذاكرة والنسيان
"خانتني الذاكرة"، "الصغير لا ينسى"، "العلم في الصغر كالنقش على الحجر"، مقولات سمعناها كثيرًا من أجدادنا، تعكس تجارِب وخبرات تلخص عمق العلاقة بين الإنسان وذاكرته. كم مرة تذكرنا أحداثًا من طفولتنا البعيدة، بينما عجزنا عن استرجاع ما حدث بالأمس القريب؟ ما هو السبب العلمي وراء ذلك؟ ولماذا تضعف الذاكرة أحيانًا بينما تبقى ذكريات الماضي البعيد محفورة في أذهاننا؟
الذاكرة هي أحد أعظم الهبات التي يتمتع بها الإنسان، فهي وسيلته لحفظ تجاربه وماضيه، وأساس تشكيل شخصيته، لكن مثل أي قدرة بشرية، فالذاكرة ليست معصومة، حيث يلعب النسيان، وهو الوجه الآخر للذاكرة، دورًا هامًا في تنظيم واستيعاب ما نختبره يوميًا. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما هو سر هذا التوازن بين التذكر والنسيان؟
الذاكرة ◂ العمود الفقري للتعلم
تُعد الذاكرة واحدة من أهم العمليات العقلية العليا، حيث تعتمد عليها العديد من الوظائف الأخرى كالإدراك، والتعلم، والتفكير، وحتى حل المشكلات. فكل ما نقوم به تقريبًا يحتاج إلى ذاكرة نشطة، بدءًا من حفظ أسماء الأشخاص، وحتى استرجاع معلومات معقدة لحل مسألة رياضية. يشير العلماء إلى أن الذاكرة لا تعمل بمنطق "الأرشيف" الثابت، بل هي ديناميكية تعيد بناء الذكريات مع كل استرجاع، كما تساهم هذه المرونة في تحسين التفكير وحل المشكلات، لكنها أيضًا السبب وراء التشويه التدريجي لبعض الذكريات.
في مرحلة الطفولة، تكون الذاكرة أكثر نشاطًا وتطورًا. فالأطفال، بفضل مرونة عقولهم، يستطيعون تذكر التفاصيل بدقة أكبر. ولهذا السبب نجد الطالب الصغير قادرًا على تذكر موقع المعلومة في الكتاب أو حتى صوت معلمه وهو يشرحها. هذا التميز يعود إلى قابلية الدماغ الطفولي لاستيعاب وتخزين المعلومات بكفاءة.
الذاكرة ◂ بين الضعف والقوة
يقع أغلب الناس تحت تأثير أوهام ضعف الذاكرة بدعاوى وذرائع مختلفة، ولعل أهم هذه الذرائع "هذه طبيعتي" أو "لقد شخت"...إلخ، لكن الحقيقة أن معظم مشاكل الذاكرة ليست من عيوب جوهرية في الدماغ، لكنها تنبع من الضغط النفسي أو من قلة التدريب، حيث يشبه العلماء الذاكرة بالعضلات: إذا لم تُدرَّب، تضعف وتفقد مرونتها.
أمثلة ملهمة:
ولتوضيح ذلك الأمر سأورد بعض الأمثلة:
لننظر إلى حالة الصحفي الروسي شيرشيفسكي، الذي اشتهر بذاكرته الفذة، ولم يكن بحاجة إلى تدوين ملاحظاته، فقد كان بإمكانه استرجاع كل كلمة قيلت في الاجتماعات، وعندما درسه الطبيب النفسي الروسي ألكسندر لوريا، تبين أن ذاكرته الاستثنائية لم تكن نتيجة "قدرة خارقة"، بل كانت بسبب اكتشافه المبكر لمبادئ تقوية الذاكرة. وفي برنامج إذاعي مصري استطاع أحد المواطنين من غير المتعلمين وهو مكفوف البصر أن يسبق الآلة الحاسبة في حالة جمع وطرح وضرب بعض الأرقام التي وصلت إلى ثمانية أرقام في ثمانية أرقام.
أيضًا هناك قصص مماثلة في التراث الإسلامي، فالإمام ابن إدريس الشافعي- رحمه الله- كان يقرأ الصفحة فيحفظها عن ظهر قلب، بل ويضع يديه على الصفحة المقابلة لكي لا يتداخل محتواها في عقله مع محتوى سابقتها. ويروى عن الأئمة العظام والشافعي منهم أنهم كانوا يختمون القرآن مرة كل يوم، وفي رمضان يختمونه مرتين، بل ومنهم من كان يصلي بالقرآن كاملا في الليلة الواحدة في الأيام العادية. هذه القدرات ليست معجزة، بل دليل على أن التدريب والمثابرة يمكن أن يحققا ما يبدو مستحيلاً.
لماذا ننسي؟
هل سبق أن قابلت أحدًا من قبل فسألته عن اسمه، ثم قابلته بعد أيام قلائل ولم تتمكن من تذكره؟ هل تجد صعوبة في تذكر أرقام هواتف أصدقائك أو كلمات السر الخاصة بحساباتك الإلكترونية؟ مثل هذه المواقف تحدث لنا جميعًا بشكل متكرر... كثيرًا ما نتعرض لمثل هذه المواقف.
لكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ننسى؟ وهل النسيان يتبع قانونًا معينًا؟ وما هي العوامل التي تساهم فيه؟ اختلف العلماء في أمر النسيان، فذهب بعضهم إلى أن كل ما يدخل في خبرة المرء ويتأثر به لا يزول أبدًا ولا يمحى، بينما يرى آخرون أن الإنسان لا يمكنه الاحتفاظ بكل شيء في ذاكرته.، بينما اعتبر بعضهم الثالث أن الأشياء التي يتم حفظها بشكل جيد ومن خلال التكرار، هي التي تبقى في الذاكرة، ويمكن استرجاعها في حالات خاصة مثل الهذيان أو التنويم المغناطيسي.
ومع تقدم العمر ومرور الزمن، تضعف الذاكرة تدريجيًا، مما يؤدي إلى بطء عملية التذكر أو استرجاع المعلومات. وقد أظهرت الدراسات أن الذكريات والخبرات التي نحتفظ بها مع مرور الوقت لا تبقى كما هي، بل تتعرض أحيانًا للتشويه أو ضياع بعض التفاصيل، أو قد تحدث عمليات إضافة وحذف للمعلومات.
يعتبر البعض النسيان مجرد غياب مؤقت أو تأمل لبعض الأفكار التي مر بها العقل، فهو ليس بالضرورة فقدانًا نهائيًا للذكريات. ومع ذلك، فإن هذا الفهم للنسيان كظاهرة مرضية أصبح مرفوضًا اليوم. لذلك، يجب التفرقة بين النسيان الذي يعد ظاهرة مرضية والنسيان الذي يكون عابرًا، فالنِسيان لا يعد دائمًا نقيضًا للذاكرة، بل قد يكون مكملاً لها.
أنواع النسيان:
يُقسِّم علماء النفس النسيان إلى نوعين رئيسيين، يختلفان في أسبابهما وتأثيرهما على حياة الإنسان. ويعكس هذا التصنيف الطبيعة الثنائية للنسيان، حيث يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من آلية الدماغ الطبيعية، لكنه قد يتحول إلى عائق كبير عندما يأخذ طابعًا مرضيًا.
النسيان الطبيعي: يُعد النسيان الطبيعي عملية فطرية موجودة لدى جميع البشر بدرجات متفاوتة، وهو ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل آلية ضرورية للحفاظ على كفاءة الذاكرة، حيث يعتمد العقل البشري على هذه الخاصية للتخلص من المعلومات والصور التي لم تعد ذات أهمية، مما يفسح المجال لاكتساب وتخزين تجارب جديدة، ولولا هذه الآلية، لظل الماضي حاضرًا في الذهن بشكل مرهق، مما يعوق التفكير في الحاضر ويضعف القدرة على التعامل مع المستقبل.
النسيان المرضى: أما النسيان المرضي فهو حالة غير طبيعية ترتبط بمشكلات في وظائف الدماغ، وتظهر بشكل واضح لدى من يعانون من اضطرابات الذاكرة، وهذا النوع يُضعِف القدرة على استرجاع المعلومات ويعرقل سير الحياة اليومية، حيث يجعل التكيف مع المواقف والتحديات أمرًا بالغ الصعوبة. وبعكس النسيان الطبيعي الذي يدعم كفاءة الدماغ، فإن النسيان المرضي يؤدي إلى اختلال وظيفي في الذاكرة، مما يؤثر بشكل مباشر على السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية.
النسيان بين الإيجابيات والسلبيات:
يمكن القول إن النسيان سلاح ذو حدين لأنه ظاهرة إيجابية وسلبية في الوقت نفسه.
الجانب المشرق للنسيان: يساعد في تجاوز الذكريات المؤلمة مثل الصدمات العاطفية أو التجارب الفاشلة، مما يعزز الصحة النفسية.
- يُتيح للعقل التركيز على الحاضر ومواجهة تحدياته بفعالية بدلاً من الانشغال بالماضي.
- يُعزز القدرة على تعلم معلومات جديدة من خلال التخلص من المعلومات غير الضرورية وإفساح المجال لما هو جديد.
الجانب السلبي للنسيان:
- قد يؤدي إلى فقدان معلومات هامة، مثل المواعيد أو الالتزامات اليومية، مما يؤثر على الأداء اليومي.
- يسبب مشكلات اجتماعية مثل نسيان مناسبات أو تفاصيل تخص الآخرين، مما قد يُشعرهم بعدم التقدير.
- يعوق التقدم المهني والدراسي، خاصة إذا كان مرتبطًا بمعلومات أساسية أو ضرورية للنجاح.
فقدان الذاكرة:
ذاكرة المرء كتاب تسطَّر صفحاته على مر الأيام، فهي أشبه بالمفكرة التي يسجل فيها الإنسان يومياته ويكتب فيها الأحداث التي مرت عليه، ليرجع إليها في المستقبل عند الحاجة. كذلك ذاكرة كل واحد منّا فهي تُثبِّت وتمحو؛ تُثبِّت ما يهمنا وتُغفِل ما لا نحفل به. وكما تصاب اليوميات بآفات فتتآكل منها ويبهت الحبر الذي تكتب به الصفحات ثم تضيع بعضها، كذلك الذاكرة الإنسانية تصيبها مثل هذه الآفات فتضيع منها صفحات ويبهت منها صفحات ويمحى البعض الآخر، كل ذلك في صفحات الماضي الذي سجله المرء خلال الحياة. وهذه الآفات هي التي يعبَّر عنها بأمراض الذاكرة أو فقدان الذاكرة.
فالإنسان يملك مليارات الخلايا الدماغية، ولكن مع التقدم في السن يموت معظمها من دون أن يتم استبدالها، كما يأخذ الجسد بإنتاج كميات أقل من الكيميائيات التي يحتاجها الدماغ ليعمل بشكل طبيعي. وبالرغم من أن الذاكرتين القصيرة الأمد والبعيدة الأمد لا تتأثران بهذه العملية عادة، إلا أن الذاكرة القريبة العهد من شأنها أن تتدهور مع التقدم في السن، إن الذاكرة ليست سوى شجرة متواصلة النمو تتغذى بالمعلومات الجديدة، فقط على الإنسان أن يحاول -من وقت لآخر- تشذيب فروعها، وإزالة بعض أغصانها الجافة والهشة التي لا حاجة لها.
الخلاصة: خانتني الذاكرة" ليست نهاية المطاف، بل دعوة لتطوير الذات وتدريب العقل على التذكر، فالذاكرة هبة عظيمة يمكن الحفاظ عليها بتطوير عادات صحية وتقنيات عقلية فعالة، فبدلاً من التذمر من نسيان التفاصيل، فلنركز على جعل ذاكرتنا أداة تساعدنا في بناء مستقبلنا، مستلهمين من قصص العظماء الذين تجاوزوا حدود الممكن.. النسيان ليس عدواً لذاكرتنا، بل هو رفيقها الذي يساعدها على أداء وظيفتها بكفاءة، إنه جزء من النظام الذي يسمح لنا بالعيش دون التعلق المفرط بالماضي، ويفتح لنا آفاقًا للتقدم نحو المستقبل، لذا، يجب أن نتقبل النسيان كجزء طبيعي من حياتنا، وأن نتعلم كيف نستفيد منه لنعيش حياة أكثر توازنًا وسعادة، فبالتقبل والتطوير، يمكننا تحويل النسيان من عقبة إلى فرصة لبناء حياة أكثر إشراقًا.
مصادر يمكن الرجوع اليها:
◅ كتاب: التفكير والتعليم في ضوء أبحاث الدماغ. د. إبراهيم بن أحمد مسلم الحارثي.
◅ كتاب: استخدم ذاكرتك- توني بوزان.
◅ مقتطفات من كتابات ستيفن كوفي.
◅ العديد من مواقع الشبكة العنكبوتية.