جعل محمد سلام جميعان من ديوانه "جمر الورد" الصادر عن دار الخليج للنشر والتوزيع عام 2023م ساحةً مفتوحة لحوار طويل بين الذات الشاعرة والآخر، امتد على قصائد الديوان المختلفة بلغة شعرية فريدة لها طابعها الخاص، وانطلقت الذات الشاعرة في الديوان من بؤرة التوتر العميقة الناتجة عن تخلخل العلاقات مع الآخر المتنوع المتعدد المختلف الصور المتقلب بين حال وحال: الأم، أو الأب، أو الحبيبة، أو المكان، أو السنين، أو الشباب، أو العمر.
ودخلت الذات الشاعرة إلى تلك الساحة النفسية العميقة المتنوعة من أشكال التوتر من ثلاثة أبواب واسعة ضمّت تحت أجنحتها همساً، وصراخاً، ونداءً، واستعطافاً، وحديثاً، وذكريات، وطلباً، والتماساً، و سؤالا، ودعوة، ووصفاً، وعتاباً... فقد فتحت الذات الشاعرة باب "انثيالات الضوء"، وباب "شجى"، وباب "منمنمات على شباك حارسة الضوء" على حالاتها كلها مرتبطة بمخاطبة الآخر، والحديث إليه وعنه بحب حيناً، وبتودد حيناً، وبمحاولة استرضائه حيناً، وبتأكيد الثبات على العهد والوعد حينا، وبالتبشير بالقادم الأجمل الأفضل والنهاية السعيدة حينًا للوصول من ذلك كله إلى حالة الاستقرار والثبات، والاتزان العاطفي، يقول (ص: 193): "ويضحك الشباك ملء قلبه/ لأن طائر الحجل/ لعشه وصل". ويقول في قصيدة "تلويحة" متناصًا مع سورة مريم (ص: 188): "والسلام علي/.../ وحين أبعث في حدائق ضوئها/ وردا /وريحانا نديا". واستخدم الشاعر لذلك ما ساعده على البوح من صور وتناصٍ مع القرآن الكريم كما في قصيدة "عروج روحي" (ص: 29) التي تناص فيها مع سورة "النجم"، كما أنه تناص مع قصة سيدنا إسماعيل (ص: 141)، وسورة الكوثر (ص: 126)، ومع التراث كذكره الكميت (ص: 100)، والمتنبي (ص: 141)، وعروة والشنفرى (ص: 113). وتناص مع الأدب المعاصر (انظر: ص62، 63).
وقصائد ديوان "جمر الورد" هي حديث الذات الشاعرة النفسي العميق العالي الصوت مع الآخر، بعد أن اتخذت من قصائد الديوان محطات للتفريغ العاطفي، والتعبير الصادق باستخدام ضمير المتكلم الظاهر (أنا، ياء المتكلم، تاء الفاعل) حيناً والمستتر حيناً، فكانت قصائد هذه المحطات المساحة الفضفاضة الواسعة التي احتضنت الذات الشاعرة بحالاتها وعواطفها وأحاسيسها ومواقفها؛ فمن العتبة الأولى للمجموعة الشعرية ظهرت الذات الشاعرة، وعلا صوتها، لتؤكد للمتلقي، وتبين له أنها ستتولى التعريف بنفسها، والحديث عن نفسها، وعن التوتر الذي سببه اختلال العلاقة مع الآخر، فكانت الضمائر التي تعود إليها هي المسيطرة على قصائد الديوان، وكان الآخر (هي وأنت وهم وهو) حاضراً دائماً في القصائد لتحاوره الذات الشاعرة، أو لتؤكد له، أو لتبين له، أو لتصفه، أو لتصف أثره فيها. فقد بنى الشاعر محمد سلام قصائده على بؤر التوتر الكثيرة فنضد بهذا الخيط الروحي الشفيف قصائده للملمة الذات الشاعرة على (أنا) راضية مرضية، وبث الأمل بنهاية سعيدة للذات الشاعرة، وبفرج قريب، ووصول أكيد إلى ما تسعى إليه.
وهذه البؤر التي بنى عليها الشاعر قصائده هي نتيجة الصراع العميق في نفس الشاعر بين الأضداد: الخير والشر، والظلام والنور، والموت والحياة، والحضور والغياب، والحب والكره، والظلم والعدل، والوصل والصد، واللقاء والفراق، والنجاح والفشل وكانت هذه الثنائيات كلها ضمن دائرة الظلام والنور الواسعة، فهي الثنائية الضدية الكبيرة التي ضمت هذه الثنائيات كلها واحتوتها.
وظهر أثر هذا التوتر العميق في عتبة الديوان، في صورة الوردة الحمراء الملتهبة المشتعلة التي ظهرت على الغلاف تحت عنوان الديوان "جمر الورد"، العتبة التي توحي بالصراع الشديد بين الأضداد، بين الظلام الذي أخذ مساحة من غلاف الديوان والنور الذي يتوهج من احتراق الورد، وبين الظاهر والباطن، والشكل وأثره، والسطح والعمق، وهي تحملها سيميائية عميقة لتمهد للحوار الذي سيجري في قصائد الديوان بين الذات الشاعرة والآخر؛ فاللون الأحمر الذي احتل مساحة واسعة من غلاف الديوان يجمع نقيضين في بوتقة واحدة: الوردة الحمراء التي لها دلالة واضحة في المخيال الجمعي الإنساني؛ دلالة الحب والمودة والمحبة والسلام. والنار المتأججة على أوراق الوردة التي توحي بالألم والفقد. فهي لوحة غلاف دالة موحية تجمع تحت ظلال اللون الأحمر رقة الوردة وقسوة النار؛ النار بلهيبها، والوردة بأوراقها المشتعلة مع لون الجمر.
وتبدت واضحة سيطرة الصراع بين الظلام والنور على كثير من دفقات القصائد، أو الأبيات فظهر بذلك مدى شدة التوتر الذي يسم العلاقة بين الذات الشاعرة والآخر، وانحاز الشاعر إلى النور، فتوحد مع الضوء حتى تكرر في قصائد الديوان ذكرُ لفظة الضوء أو اشتقاقاتها إحدى وستين مرة، وفي محطتين أو بابين من أبواب الديوان: "انثيالات الضوء"، "ومنمنمات على شباك حارسة الضوء"، وتكرر ذكرُ توابع النور ضمن هذا الإطار؛ فذُكِرَ البرق في قصائد الديوان ست مرات، والنهار ثلاث مرات، والشروق مرتين، والفجر عشر مرات، والصباح ثلاثا وثلاثين مرة، والشمس إحدى وعشرين مرة، وفي مقابل النور وتوابعه تكرَّرَ في قصائد الديوان ذكرُ الظلام وتوابعه؛ فقد ذكرت لفظة الليل في القصائد أكثر من أربعين مرة، والدجى خمس مرات، والإطفاء سبع مرات.
والتضاد بين الليل والضوء في الديوان هو تضاد ثنائي يكشف عن مدى التوتر العميق الذي بنيت عليه محطات الديوان الثلاث لأنه صراع بين الخير والشر، بين عالم الظلمة وعالم النور؛ فالوحدة سوداء، والحبيبة ضوء (ص: 10)، والليل مستبد (ص: 145)، وضرير وكسول وغبي (ص: 90). يقول (ص: 86): "أيها الليل قل لي ما الذي تبغيه من ضوئي/ قف عند حدك". ويقول (ص: 86): "كل الطفولات ماتت قبل موعدها يا ليل يكفي فضوء العمر ليس معي".
وبدا التوتر بين الذات الشاعرة والآخر واضحاً من استخدام الضمائر في الديوان؛ فقد تكرر حديث الذات الشاعرة في قصائد الديوان بضمير المتكلم (أنا) إحدى عشرة مرة، وتكرار ذكر ضمير المخاطب/ة (أنت) ثماني مرات، كما أنه لا تخلو قصيدة من قصائد الديوان من ضمير يعود على الآخر في مقابل ضمير يعود على الذات الشاعرة؛ وكأن قصائد الديوان قد بنيت على ما تقوله الذات الشاعرة عن مشاعرها ومواقفها وأسئلتها وحالها، وباستخدام ضمير المتكلم المنفصل (أنا)، وضمير الغائب كما في قصيدة "وسواس"(انظر: ص52)، وياء المتكلم كما في قصيدة "ليتك تكتبني كما تراني" (ص33) وتاء الفاعل كقوله في قصيدة "اعتذار" (ص73): "ما لست أدري يا/ رضية الفؤاد/ قلت/ لحظت انكسار الروح/ ربما... لعلني/ غمغمت حرفاً طارئاً مؤسفاً".
ومن بؤر التوتر العميقة التي فتحت مصاريعها الذاتُ الشاعرة بؤرة التوتر الناتجة عن مضي العمر بها، فقد افتتح الديوان بحديث واثق عالي الصوت للذات الشاعرة عن صراعها مع الغياب، حديث موحٍ بالصراع المتأجج بين الموت والحياة في الذات الشاعرة وحولها، تؤكد فيه أنها ستبقى على قيد حلم، حاضرة بزهر عمرها، رافضة لفكرة الغياب، فتدعو (هي) إلى عدم الالتفات إلى حال الذات الشاعرة الظاهر، ولا إلى ما يصيبها من ضعف ووهن وصمت وسكون ونكوص وخمول شعري فذلك كله سببه بعد (هي) عنها، وأنها حال مؤقتة إلى زوال، يقول(ص9): "أنا لن أغيب/ لا ولا حتى أفكر في المغيب/ سيظل زهر العمر يحلم بالطيوب/ وتموج في صدري حكايا السندباد/ لأبثها في الأمسيات إلى / أهداب غيمة شهرزاد...لا تعبئي بحفيف أوراق الخريف/ وما قد كان بالأمس القريب/ من صمت أغنيتي الرتيب/ ونبض ألحاني الرتيبة، أنا ما نسيت / لكنني مضغت نهاري الوحدة السوداء".
وفي قصيدة "قمر مريض" يوحي حديث الذات الشاعرة المليء بالحسرة والحزن عن القمر الذي لم يكتمل، وسعي الشاعر لاسترداده من بطن الحوت، بأن القصيدة رثاء للذات، وحسرة على سرعة انقضاء العمر، يقول (89): "وكنت أنا وأناي ندق الطبل/ ليرجعه/ ويعيد إليَّ ضوءاً نبويّاً محفوفاً/ بجلال من وحي علوي".
وتتضح في قصيدة "شرود" صورة الذات الشاعرة القلقة التي جرفتها بؤرة توتر، فتاهت خطواتها في شوارع المدينة، وسارت على غير هدى، يقول في قفلة بديعة حرص الشاعر على إخراجها لطيفة ندية الروح مستخدماً ضمير الغائب للحديث عن ذاته الشاعرة، ولتأكيد حال الضياع التي تعيشها، ووصف اغترابها بسبب بعدها المتعب عن الواقع الذي هي فيه (ص 70): "وحده يمشي بطول الشارع الممتد/ تقذفه الصدف/ يمشي بقلب مرتجف/ مشدودة أعصابه / لا ضوء يحرسه/ ولا صوت يقول لنبضه المجنون/ قف".
وتبقى علاقة الذات الشاعرة بـ(هي) الحبيبة من أكثر بؤر التوتر تأثيراً في قصائد الديوان؛ فقد توجه إليها الشاعر بالخطاب باستخدام أساليب متنوعة منها: النداء، والأمر، والاستفهام، والطلب، ووصف الحال وكل ذلك لأغراض وأهداف مختلفة منها: استرضاء (هي) الحبيبة، أو لإقناعها بحبه لها، وإعلان ثباته على هذا الحب، كما في قوله (ص11): "تظلين شروق الشمس على نبعي الصافي/ من بعد نشوء الكون/ ومن قبل/ وتورق ضحكتك الزهراء بقلبي أعذب من رعشة عصفور/ ...فأنا يا سيدة الروح الأبهى / ما زالت عيني / تشرب غيمة ظلك/ أطراف نهاري الفضي".
ويستخدم الشاعر في قصيدة "شرود" أسلوب النهي ملتمساً من (هي) الترفق به (ص69): "لا تسأليه/ لم يجد في كل أرجاء المدينة موضعاً يرتاح فيه".
ويتحدث عن أثر صدها وبعدها وغيابها فيه مستخدماً أسلوب الترجي كما في قوله (ص14):
فتشت أشجار الطريق سألتها .. ونبشت في كفيّ رائحة الزقاق
علّي أراك ولو على طرف المدى .. لكن طيفك مر كالإبراق
فرجعت أخيب ما يكون من المنى وتغالب الدمعات في حلقي اختناقي
وقد تستسلم الذات الشاعرة لسلطة (هي) عليها، وتسلم أمرها كله لها حتى تغدو كطائر من عشه طرحا، يقول الشاعر في مقطوعة "صدود" واصفاً أثر صدود (هي) في الذات الشاعرة (ص196):
صدِّيه أو فامنعي عن ثغره القدحا .. وأطلقي في جنائن حلمه شبحا
دعيه كالطيف أو كنزيف أغنية .. ظلت تنوح على ألحانها ترحا
ما عاد يشغله ريٌّ ولا ظمأ .. أو من يداوي نزيف القلب أو جرحا
ويعيد الشاعر في قصائده إلى الأذهان صورة العاشق المعذب الولهان، الذي أضاع قلبه في إعصار الحب الذي يجتاحه (ص168)، فيصف نفسه بأنه العاشق الصلصالي المرتبك المرتجف الذي تضيع منه الكلمات، ولا يدري ما سيقوله لـ(هي) الحبيبة (162).
ويأخذ الحديث عن لقاء متخيل، أو لقاء حقيقي بين الذات الشاعرة و(هي) حيزاً ندياً من مساحة البوح في قصائد الديوان، فتتغنى الذات الشاعرة بتلك اللقاءات وتصف أثرها فيها، يقول (ص13):
كان القاء بلا حوار إنما ... ملأ الكلام موانئ الأحداق
شطآن نظرتك الحنونة أغرقت .. في موجها خلف المدى أعماقي
وبلا وداع رحت أنت، وسهوة .. قد جاء طيفك دون سابقة اتفاقِ
وتركتني في حيرتي متلعثماً يظما .. على شفتي بالنار احتراقي
فمضيت ألتهم الدروب ولا أعي .. في الأفق تشغافي وما معنى انسياقي
ويصف الشاعر حاله ولهفته للقاء الحبيبة في مقطوعة "خاتمة البدء" (ص197، وانظر: ص50)، ويصور في تلك المقطوعة (الذاتَ الشاعرةَ) و(هي) وهما معًا في حال من الفرح والانسجام وقد حملهما الشارع، وطار بهما على كتف السحاب. ويصفهما في قصيدة "هديل" وهما معا في حال العذاب والحزن والتعب والألم والخيبة والخسارة، يقول (ص16):
حمامات قلبك لا تهدل .. ووجهي غمام ولا يرحل
كلانا به شجر لاهث .. وريح الخريف به تسعلُ
ويسرقنا العمرُ من ضوئنا .. ويطفئ منا الذي نشعلُ
ويشربنا الليل في كأسه .. ومن روحنا صبحه يثملُ
وتخاف الذات الشاعرة على (هي) الحبيبة فلا تستطيع صبراً على فراقها، يقول (ص172):
"وأغيب عنك/ ثم أعود من خوفي عليك/ وأروحُ أبحثُ في مرايا الوقتِ أسألها متى ستوصلني إليك"
وتحن الذات الشاعرة إلى (هي) حبيبة وأمًّا ومكانًا، وتبوح بشوقها إليها، فإذا مر طيفها يجن نبضها، وتبكي، يقول (ص161):
لا ما غويت ولا هامت حروف دمي .. فالنبض جن وفي نهر الحنين جرى
سيعزف الغيم من أهدابه مطرا .. والنخل يروي لضوء البرق ما ندرا
والتوتر الذي يسببه الحنين إلى الآخر المكان والإنسان كثير في ديوان "جمر الورد"، إذ تذكر لفظة الحنين في الديوان خمس عشرة مرة، وهي ترفق دائماً بحديث عاطفي شجي عن عذاب الذات الشاعرة وشقائها بهذا الحنين، فتصرخ مستغيثة مستعطفة (ص55):
أكاد عليك من ولهي أجن .. فلي قلب لمعناك يحن
ستبقى روحي الولهى تنادي .. حنانك أيها الرشأ الأغنُّ
وينقل الشاعر للمتلقي في قصيدة "حنين" صورة مشهدية لـ(هي) الأم لحركتها وكلامها وحالها، فيفيض حنينه إليها على هذا المشهد فيقول (ص19): "ويد بقرب سريرها/ تحكي لخمس أصابع في الكف/ كيف يكون في السر اشتعال الروح/ في جفن الحنين/ .../ فعساكِ يطلعكِ الصَّباح ألحانا وأغنية/ كنوّار اللوز الأبيض في دنيا شبابك".
وتحضر في قصائد الديوان الذات الشاعرة الحائرة في علاقتها مع (هي) فتملأ القصائد أسئلة عالية الصوت لأغراض مختلفة (انظر مثلا: 23 ،31، 33، 50،54، 97): تعجبية أو إنكارية، أو تقريرية... يقول (ص23):
لي الآن أن أستنتطق المبهما .. لماذا وكيف وماذا وما؟
سؤلات طافت برسم الجواب .. إلى طفلة الشمس ذات اللمى
ويقول (ص57): "فكيف لي أن أستعيد منهما/ نعاس طرفك الخجول/ يا ضوء مصباحي النبيل؟ / وكيف لي أن أسترد ماء لهفتي/ من نظرة عميقة ومبطئة"؟
والتوتر الذي تتركه (هي) الأم في الذات الشاعرة مختلف جداً، فهو توتر ناتج عن الفقد، يحاول الشاعر باستحضارها صورة وحركة وحديثاً أن يملأ الفراغ الذي سببه رحيلها في حياته، وأن يخفف التوتر الذي سببه الفقد، فيرسم حبه لها بأبعاده الحركية واللفظية والروحية؛ فيصف مشيتها، وكبرياءها، وصبرها على الشدائد، ويستحضر أدعيتها، وطريقة تعبيرها عن حبها له، وخوفها عليه، وحرصها على ألا يشعر أبناؤها بما يصيبها من حزن أو ألم، أو جوع، وحرصها على زراعة الأمل في نفوس من حولها، يقول في قصيدة "أمي" (ص 144- 151):
"تزهو بمشيتها/ وتمضي في صهيل الكبرياء/ ورأسها فوق المجرة دائما... ما زلت أذكرها كانت ترش عليّ أدعية الحنان/ تعيذني بالله من شر الحسد/ .../ كانت تخبئني وراء ضلوعها/ إن خفت صوت الرعد/.../ وتقول لا تيأسن إن سرق الدجى منكن شمس العمر/.../ أمي الصبورة فوق ما صبر الجمل/...".
وتستحضر الذات الشاعرة في قصيدة "أختي السوسنة" الأم وأثرها فيها، وحبها لها، وجمال حضورها وخوفها عليها، ويغدو حديث الذات الشاعرة عن الأخت مناسبة لتذكر الأم وأثرها في الروح، فحضور الأخت وسؤالها عن الذات الشاعرة، وعن حالها كان له أثر الأم في خفض التوتر النفسي والروحي الذي خلفه الفقد في الذات الشاعرة، يقول (ص: 152): "أحسست أن فيهما ذراعي قلبكِ الكبير/ يا صلاة مؤمنة/ .../ بالأمس يا أمي استعدت/ كل تسلياتي المحزنة/ وزرت قبرك البعيد في منافي الأمكنة/ ومن ترابه المبلول بالندى/ سمعت صوتك الآلي كمئذنة/ يقول لي:/ لا تخش أوجاع الحياة المزمنة/...".
ولم يتزعزع إيمان الذات الشاعرة بتحقق أمنياتها، ووصولها إلى غايتها وتحقيقها لأهدافها. وبلقاء يطفئ نار الشوق، ويتحقق الفرح، يقول في أبيات متغنيًا بثبات الذات الشاعرة على الحب، وصبرها وجلدها في سعيها لتحقيق مناها وآمالها (ص18):
وبالرغم من كل هذا السواد .. وما باح حرفي وما يجهلُ
ستبقى خيول المنى في دمي .. بأشواقها في المدى تصهل
ونستولد الفجر والأغنيات .. وينساب في حقلنا الجدول
كما الغيم عند اختلاج البروق .. سينهل فينا الذي نأمل
فتندى بساتين أشواقنا .. ويشهق في ضوئنا السنبل
ويبدو أن توتر العلاقة بين الذات الشاعرة و(هي) قد استفحل في مرحلة ما مما دفع الشاعر للدفاع عن هذا الحب، وتأكيد الثبات عليه، يقول في قصيدة "بوح" (ص28):
وتبقين في خاطري زنبقا .. يفوح شذاه بنيسانيه
ولا تدوم العلاقة بين (هي) والذات الشاعرة على حال، فهي بين صفو وتعكير، ويبدو أنها في قصيدة "أحتاجها فقط" كانت في حال صفو؛ فحين تمر (هي) بالبال تمر نفحاً لذيذاً، وحين تجلس قربه تسرق من عينيه نخله الشهي (ص21)، فيطلب منها ألا تنهر قلبه ليبوح لها بما في قلبه المليء بنبض الحكايات من وجد (ص21).
وحوار الشاعر مع الآخر الـ(أنا) كثير في الديوان، وهو حوار يوحي بما في نفس الشاعر من صراع كما في قصيدة" خيال أرق" التي يكشف فيها الشاعر عن حال عميقة من التيه النفسي، والاغتراب المتعب، يقول (ص60):
وحدي أحدق في مرايا النار، كم/ ظلي يبوح لظله/ فكأنني ما كنت أنتَ/ ولم تكني"
ويخاطب الشاعر ذاته الشاعرة فيحثها على الصمود والثبات في وجه الزمن، والصبر على ما تركته فيها السنون من أثر وندوب، وما أصابها من هزات وابتلاءات، وسكون (انظر: ص10، 60، 89): "لا تعبئي بحفيف أوراق الخريف/ وما قد كان بالأمس القريب/ من صمت أغنيتي الكئيب/ ونبض ألحاني الرتيب".
وبنى الشاعر بعض قصائد الديوان على بؤرة التوتر التي نتجت عن اشتباك الذات الشاعرة مع الواقع، ومعاناتها من تقلبات الحبيبة (هي) بين قبول ورفض، ووصل وصد، ولقاء وهجر، وقرب وبعد...؛ فهو في قصيدة "استفهام" يجرفه التوتر إلى مواجهة الحبيبة بسيل من الأسئلة المحملة بالعتاب والحزن والألم، يقول (ص23):
لماذا تغافلت عن أنجمي .. وواريتها خلف باب السما؟
لماذا تركت سلامات روحي .. تعود وفي شفتيها الظما؟
وكيف قرأت اعتذاري إليك .. تزاويق أرسمها كالدمى؟
ويستولي اليأس من تغير الحال على الشاعر في قصيدة "أمنية" فيتمنى أن يعود طفلا ليعيد ترتيب حياته من جديد؛ فهو يعيش وحيداً غريباً حياة ضنكاً يحمل فيها من دنياه أهوالا، ويسر لنا بسبب ذلك؛ فإذا هو توتر علاقاته مع الآخر: الناس، والحياة، والعيش، يقول (ص109):
ما زلت أحمل من دنياي أهوالا .. وحدي أجوب براري العمر رحّالا
وتتعمق لدى الشاعر حال الاغتراب نتيجة اختلال علاقاته مع الآخر، فتخرج من روحه آه طويلة عالية على شكل قصيدة، كما في قصيدة "حالة اشتباه" التي يصف فيها ما يواجهه في حياته من خذلان وفقدان ثقة بالآخرين وحقيقة الأشياء، وفقدان طعم الحياة والمواقف، وعدم إحساسه بما يجري له ولا بما حوله، يقول (ص 136):
هنا كل شيء عليك اشتبه .. صفاؤك واللحظة المتعبة
تساوى "صباح الجمال لديك" .. مع الصرخة الفظة المرعبة
وزوج الحمام الذي قد عشقت .. بدا لك في شكله أغربة
وصرت ترى الأرنب المطمئن .. بعين الخيال كما الثعلبة
وكان التوتر في علاقة الذات الشاعرة بالآخر الأنثى من البؤر العميقة التي شغلت الشاعر في أكثر من قصيدة، فحضرت الذات الشاعرة في أكثر قصائد الديوان وهي تشكو، أو تتذكر، أو تؤكد، أو تطلب، أو تعاتب.. وفي محاولة للهروب من معاناته يظل الشاعر يذكر الحلم في مقابل الواقع، فيتكئ على لفظة الحلم سبعاً وأربعين مرة، ليخلق منه واقعاً جديداً صالحاً للعيش بسلام، واقعاً تتحقق فيه أمنياته. ومن ذلك سيطرة الحلم على دفقات قصيدة "انطفاء" ليكون مركزها ونتاج التوتر التي خلفه اصطدام الذات الشاعرة بالواقع، حتى صار الحلم حياة، وكائناً يحياً ويموت، يقول (ص31): سألته قهوته المرة/ من غير طعم السكر في الليل/ وأطفأ ضوء ضوءِ الحلم/ من قلب المجرة؟ / قال أدري / سوى أني رأيت الليل/ مقبرة وموتى في البيوت/ وصحوت من حلمي على حلم يموت".
ونتيجة لبؤر التوتر الكثيرة اختلت علاقات الذات الشاعرة مع الآخر، واختلفت قوة وضعفاً، ويبدو أنها أدركت ما لحق بهذه العلاقات من خلل، فحرصت في قصائد الديوان على نشر الأمل بنهاية سعيدة، وتأكيد الثبات على العهد، فظهرت الذات الشاعرة في قفل بعض القصائد آملة بالنهاية السعيدة، مؤمنة بالوصول إليها، يقول (ص10): "ستظل كأس العمر مترعة/ ونشربها معا نحن الغريبان هنا: رجل غريب والتقى امرأة غريبة".
وفي قصيدة "وله" تؤكد ثباتها على الحب وتمسكها بـ(هي)، يقول (ص56):
فلست أبدل الدنيا بُمهر أصيل، فأله سعد ويمنُ.
وتطلب الذات الشاعرة من الآخر مساعدتها على استعادة ذاتها من الحزن والألم، ومساعدتها على استعادة لحظة الهدوء من ضجيج الذاكرة، تقول (ص181):
"فمن يعيدني إلي من/ بنفسجي الجريح/ ويستعيد لحظة الهدوء/ من ضجيج الذاكرة"
وتشتد معاناة الذات الشاعرة فيدوس رأسها المستحيل، وتُعيي حالَها الحيل، فتقويها في قصيدة "أمي" أحاديثُ الأم وكلماتها المطبوعة في الذاكرة، وهي تزرع الأمل والثقة بتغير الحال ومجيء الفرج، يقول (ص 151): "ما زال في الدنيا أمل/ ما كل أمنية تجيء على عجل".
وفي مطلع قصيدة "نزيف أخرس" يخرس الشاعر صوت الآخر، ويتناسى بؤر التوتر وآثارها، ويعلن قبول ذاته الشاعرة التحدي ورفضها الاستسلام للواقع، فيرتفع في القصيدة صوت الأنا المفاخرة الواثقة بنفسها الرافضة للموت المتمسكة بالحياة وبناء الأحلام، يقول (ص120): "أنا الرعد والغيم والأغنيات/ إذا مات حلم على مقلتي/ بنيت على عرش قلبي له/ شرفة للحياة".
لقد كان لبؤر التوتر أثر عميق في نسيج قصائد ديوان "جمر الورد" فاختلال علاقة الذات الشاعرة بالآخر كانت محور قصائد الديوان، وكان التوتر هو المحرك الرئيس للشعرية فيه، ولمحاولة الذات الشاعرة تسخير القصيدة لخدمة الهدف المعلن وهو الحفاظ على علاقاتها مع الآخر، واسترداد توازن تلك العلاقات بالحديث عن الذكريات الجميلة، أو بوصف الآخر، أو بتأكيد التزامها بالحب، والحلم، والسير على الدرب.

عن الكتاب ◂ جميعان، محمد سلام، "جمر الورد"، دار الخليج للنشر والتوزيع، ط1، عمان، 2023.