الأدب الشعبي.. مرويات تجدد التلاقي بين الماضي والحاضر

د. محمد عماري


يعتبر الأدب الشعبي مجالاً من أكثر المجالات ارتباطاً بالإنسان أو بالمجتمع بصفة عامة؛ فهو يعبر عن روحه وإبداعه قديماً وحديثاً؛ إذ يشمل الأساطير والقصص والحكايات، وكذلك الأغاني والأشعار والألغاز والأحاجي والحكم والأمثال الشعبية، وهذا النتاج الشعبي يتضمن جوانب اجتماعية وثقافية ونفسية وتاريخية، ذات أهمية كبيرة في فهم الطابع الاجتماعي والهوية، أو الشخصية القومية لمجتمع معين، فالأدب الشعبي يكشف بوضوح شديد عن النظام القيمي والأخلاقي للمجتمع، كما يكشف عن اتجاهاته الفكرية، وتصوراته للكون وطبيعة العلاقة بين عناصره، وتفسيراته للطبيعة والسلطة والدين والأسرة وغيرها.
 

والأدب الشعبي يطلق عند جل المتخصصين على تلك الأشكال الفنية التي ابتدعتها العقلية الشعبية للتعبير عن واقعها، وأحلامها، وآمالها، ولتفسير كل ما يحيط بها، أو هو -كما صرح محمد المرزوقي في (الأدب الشعبي)- ذلك الأدب الذي استعار له الشرقیون من أوروبا كلمة "فولكلور"، أما عندنا نحن العرب فالأدب الشعبي یتمثل في هذه الأغاني التي تتردد في المواسم والأفراح والأتراح، وفي الأمثال السائرة، وفي الألغاز، وفي هذه النداءات المسجوعة والمنظومة على السلع وغیرها، وفي النكتة والنادرة، وفي الأساطیر التي تقصها العجائز، وفي القصة الطویلة كألف لیلة ولیلة، وفي السیر كسیرة بني هلال، وفي التمثیلیات التقلیدیة وغيرها.

والأدب الشعبي بصفة عامة يحمل ما يمكن أن نسميه التفسير الشعبي للحوادث والوقائع، وهو أسلوب يلجأ إليه الخيال الشعبي الجماعي من خلال التراكمات التي يضيفها كل فنان شعبي يتناول النص بالرواية، ومن خلال إضافات جماهير السامعين لهذا النص الذين لم يكن دورهم مقتصراً على التلقي والاستجابة السلبية. والأدب الشعبي يلجأ لهذا الأسلوب النفسي لكي يتجاوز الواقع بحدوده الزمانية والمكانية صوب اللامحدود، وذلك لكي يقدم للناس ما تحتاجه عقولهم وأنفسهم من تعويض. والصياغات الخيالية في الأدب الشعبي تصنع متنفساً حقيقياً للمشاعر الشعبية من ناحية، وتبرر مشاعر الإحباط والحيرة في أوقات الأزمات من ناحية أخرى.

والأدب الشعبي له خصائص ومميزات متعددة من بينها أنه أدب مجهول المؤلف؛ بمعنى أنه لا يوجد داخل المجتمع من يدعي أن جزءاً من أجزاء الأدب الشعبي هو ملك له، يضاف إلى ذلك أن الأدب الشعبي يعتمد على التعبير الشفهي أو القولي لأنه يرتبط في المحل الأول بجماعة شعبية بسيطة غير ملمة بالقراءة والكتابة، وحتى لو وجد بعض الأفراد الملمين بهذه العملية داخل الجماعة الشعبية فإنهم يتداولون عناصر الأدب الشعبي شفاهة مثل سائر أعضاء الجماعة. وقد تدون بعض عناصر الأدب الشعبي كما هو الحال في حكايات ألف ليلة وليلة لكن ذلك لا يفقدها خاصيتها الشعبية من حيث إنها مجهولة المؤلف وتعبير عن جماعات شعبية معينة.

ومن خصائصه أيضاً أنه يتصف بالدوام والتواصل عبر الأجيال أو عبر مراحل زمنية تاريخية خاصة بمجتمع معين، بل أكثر من ذلك يمكن للأدب الشعبي أو بعض عناصره أن تتخطى حدود المجتمع الشعبي المحلي وتنتشر في مجتمعات أخرى مجاورة أو بعيدة جغرافياً، ولعل الأمثال والأغاني أقوى دليل على ذلك، كما أن بعض القصص والحكايات تنتشر في عدة مجتمعات تفصلها مساحات جغرافية كبيرة، بالإضافة إلى ذلك يحتوي الأدب الشعبي على شخصيات أو أبطال تصل شهرتهم إلى أبعد من حدود المجتمع المحلي مثل شخصيات علاء الدين، وجحا، وسندريلا، وسندباد، وعلي بابا وغيرها من الشخصيات التي تجسد قِيّماً اجتماعية معينة.

ويتميز الأدب الشعبي بالتلقائية والبساطة وعدم الخضوع لقواعد الصناعة أو الحرفة على عكس الأدب "الرسمي" أو الكلاسيكي، الذي يتسم بالتعقيد والتركيب والصناعة أو الحرفة في الصياغة ومراعاة القواعد والتشدد في تطبيقها، وغالباً ما تكون لغته أو كلماته منتقاة بشكل لا يخلو من التكلف والرغبة في التميز، كما تتسم الموضوعات التي يتعامل معها الأدب الشعبي بالتشابه أو التماثل الكبير؛ لأنها موضوعات تمس حياة الجماعة الشعبية وتعكس فلسفة الحياة لديها، يضاف إلى كل ما سبق كون النص في الأدب الشعبي نص متغير على الدوام؛ بمعنى أنه لا يوجد نص ثابت أو جامد، وهذه الخاصية تتيح التجديد والإبداع داخل الأدب الشعبي، إذ غالباً ما تروى قصة معينة بأشكال مختلفة أو تؤدى أغنية معينة أو يضرب مثلاً شعبياً بطرق مختلفة، أو حتى تستبدل بعض الكلمات بصورة لا يفقد المثل أو الأغنية معناها الأصلي، وهذا لا يمكن تصوره في الأدب "الرسمي" الذي يتسم بثبات النص وعدم تغيره، بحيث يمكن الرجوع إلى نفس النص ونفس العبارات أو الكلمات المؤلفة له دون أدنى تغيير فيها.    

وتكمن أهمية الأدب الشعبي بناء على ما أوردناه سابقاً في كونه يحدد لنا الإطار الفكري للمجتمع البشري؛ إذ إن أبناء المجتمع يودعون فنونهم الشعبية بمختلف أنماطها توجهاتهم الفكرية وآرائهم حول الحياة وما يحيط بها، ففي ثنايا الملاحم الشعرية، والسير الشعبية، والحكايات الخرافية، والأحاجي والألغاز والنكات والطرائف، وفي طيات الأهازيج والأغاني الشعبية وغيرها، يعبر أفراد الجماعة عن خلجات أنفسهم وينقلون انفعالاتهم وخواطرهم، وبالتالي يعد الأدب الشعبي تراثاً غزيراً يسهم بفعالية في كشف الدور الحضاري لأي مجتمع والعمل على فهمه، ومعرفة سلوك أفراده وعاداتهم وتقاليدهم وتطلعاتهم، كما يسهم مساهمة كبيرة في بيان ما يمكن تتبعه وتبنيه من القيم والسلوك والأفكار، فهو بالمحصلة الأخيرة يجعل أفراد المجتمع يلتقون على فهم مشترك ويزيد في إمكانات تفاعلهم وتضامنهم وتماسكهم والتأكيد على وحدتهم.

ختاماً؛ يمكن أن نقول بأن الأدب الشعبي هو نتاج التفاعل بين الأفراد، يقوم بوظائف متعددة داخل المجتمع الشعبي الذي تلعب فيه القوانين غير الرسمية أو الأعراف دوراً جوهرياً في تنظيم الحياة، وهو يؤدي دوراً حيوياً في عمليات الضبط الاجتماعي؛ إذ يتضمن القيم والمعايير التي تضبط سلوك الأفراد خاصة في المواقف التي تتولد فيها الانفعالات وحالات الغضب التي يمكن أن ينجم عنها التفكك الاجتماعي على المستوى الأسري أو العلاقات الشخصية أو على المستوى المجتمعي، كما أنه يساهم بجل ألوانه في مساعدة الأفراد على التكيف مع الظروف الاجتماعية الطارئة، إذ إن مختلف أنواعه غالباً ما تتم صياغتها من أجل المواساة أو من أجل النصيحة أو من أجل تأسيس عاطفة مشتركة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها