الثَّقافةُ الشعبية وضرورةُ التعريف

جون ستوري نموذجاً

د. باكروم سعيد


جُون ستوري John Storey

 

يَقولُ جُون ستوري وهوَ يتناولُ الثَّقافة الشَّعبية ضمن كتابه "النظرية الثقافية والثقافة الشعبية": إنَّ أيَّ تَعريفٍ للثقافةِ الشَّعبيةِ سَيفسحُ المَجالَ لمزيجٍ مُعقَّدٍ مِنَ المَعاني المختلفةِ لمصطلح "الثقافة"، معَ المَعانِي المختلفةِ لمصطلحِ "الشَّعبية"؛ لذا فإنَّ ارتباطَ النَّظريةِ الثقافيةِ مع الثقافة الشعبية هو تاريخٌ للطُّرقِ المُختلفةِ الَّتي ارتبط بها المصطلحان، من خلالِ العَملِ النَّظريِّ ضِمنَ سياقات تاريخيةٍ واجتماعيةٍ محددة. فكيفَ ينظرُ جون ستوري للثقافة الشَّعبية؟

ثمَّةَ نُقطةُ انطلاقةٍ واضحةٍ في أيِّ مُحاولةٍ لتعريفِ الثَّقافة الشعبية، وهي القولُ بأنَّ الثقافة الشعبية هي ببساطة الثقافةُ الَّتي يُرغب فيها، أو يُحبها كثيرٌ من النَّاس. ومثل هذا المؤشر الكمي سينال موافقةَ الكثيرِ من النَّاسِ دونَ شكٍ. ونستطيعُ أن ندرسَ مبيعات الكتب، ومبيعاتُ الأقراص المدمجةCD، ومبيعات أقراص الفيديو الرقمي DVD، كما نستطيعُ دراسةَ سجلات الحضور في الحفلات الموسيقية، والأحداث الرياضية، والمهرجانات. كما نستطيع أيضاً أن ندقق في أرقام بحوث السوق عن تفضيلات الجمهور للبرامج التلفزيونية المختلفة.

هذا الإحصاء حسب جون ستوري يُخبرنا دونَ شكٍّ بالشيء الكثير. وقد تكونُ الصعوبةُ، في أنها تُخبرنا بأكثرَ مما هو مطلوب، وما لم نتفق على رقم يكون ما فوقه ثقافةً شعبيةً، وما دونه مُجردُ ثَقافةٍ، فإنَّنا قد نجد أن ما يرغبُ فيه أو يحبه كثيرٌ من النَّاسِ يشتملُ على الكثير جِدّاً بحيثُ يصبحُ عديم الفائدة باعتباره تعريفاً مفهومياً للثقافةِ الشعبيةِ.

وعلى الرغمِ من هذه المشكلةِ، فإنَّ من الواضح أن أيَّ تعريفٍ للثقافة الشعبية يجب أن يتضمن بُعداً كميّاً. وتبدو "شعبية" الثقافة الشَّعبية تتطلب ذلك، لكن الواضح أيضاً أن المؤشر الكَمِّيَّ بحد ذاته لا يكفي لتوفير تعريفٍ وافٍ للثقافة الشعبية، ومن شبهِ المؤكَّدِ أن مثل هذا العد سيتضمن "الثقافة الرفيعة" المعترف بها رسميّاً، والَّتي تستطيع الادعاء من حيثُ مبيعات الكُتب والأسطوانات وتقديرات الجمهور للأعمال الدرامية التلفزيونية من الكلاسيكيات، أنها شعبية في هذا المعنى.

الطريقةُ الثَّانيةُ لتعريف الثقافة الشعبية هي القولُ بأنَّها الثقافة المتبقية بعد أن قررنا ما هو ثقافة رفيعة. والثقافة الشعبية بهذا التعريف هي فئةٌ متبقيةٌ، موجودةٌ لاستيعاب النُّصوصِ والمُمَارسات الَّتي أخفقت في تحقيق المعايير المطلوبة للتأهل كثقافة رفيعة. بعبارة أخرى، هي تعريفٌ للثقافة الشعبية على أنها ثقافة دنيا. ربما يتضمن اختبار الثقافة/ الثقافة الشعبية سلسلة من الأحكام القيمية على نص أو ممارسة معينين. على سبيل المثال، ربما نريد الإصرار على التعقيد الرسمي. وبعبارة أخرى، لا بد أن تكون الثقافة صعبة كي تكون حقيقية.

وهكذا فإنَّ الصُّعوبةَ تضمنُ مكانتها القصرية باعتبارها ثقافةً رفيعةً. وصعوبتها بالذات تستبعد حرفيّاً، استبعاداً يضمنُ اقتصار (تميز) جمهورها. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن التباينات الثقافية من هذا النوع غالباً ما يتم استخدامها لدعم التمايزات الطبقية. الذوق فئة أيديولوجية عميقة: يقوم بوظيفة محدد "للطبقة" (باستخدام المصطلح بمعنيين ليعني فئة اقتصادية اجتماعية واقتراح مستوى معين من المكانة). وبالنسبة لبورديو فإن استهلاك الثقافة يكون "استعداداً واعياً ومقصوداً، لتحقيق وظيفةٍ اجتماعيةٍ تضفي الشرعيةَ على التباينات الاجتماعية".

هذا التعريف في نظر جون ستوري غالباً ما يكون مدعوماً بادّعاءات أنَّ الثقافة الشعبية هي ثقافةٌ تجاريةٌ من إنتاج الجمهور، في حين أنَّ الثقافة الرفيعة هي نتيجة عمل خلاَّق فردي. ولهذا فإن الأخيرة تستحق فقط الاستجابة الأخلاقية والجمالية، أما الأولى فتتطلب فحصاً اجتماعيّاً لفتح القليلِ الَّذي تقدمه. يقول جون ستوري مُعلقاً على هذا التقسيم "أيّاً تكنْ الطريقة المستخدمة، فإنَّ من يرغبون في الدفاع عن التقسيم بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية يصرون عموماً على أنَّ التقسيم بين الثقافتين واضحٌ جداً. بل إنَّ هذا التقسيم ليس واضحاً فحسب، وإنما عابر للتاريخ، ثابت في كل الأوقات. ويتم الإصرار على النقطة الأخيرة عادة. خاصةً إذا كان التقسيم يعتمدُ على خصائص نصية أساسية مفترضة. هناك الكثيرُ من المشكلات الكامنة في هذا اليقين. على سبيل المثال، ينظر إلى ويليام شكسبير الآن على أنه مثال على الثقافة الرفيعة، مع أن أعماله كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر تعتبر إلى حد كبير جزءاً من المسرح الشعبي".

ويُؤكِّدُ التَّعريفُ الرابعُ أنَّ الثقافةَ الشعبية هي الثقافة التي تنبعُ من "الشَّعب". وهي تأخذ موقفاً معارضاً لأيِّ نهجٍ يقولُ إنها شيءٌ مفروضٌ من فوق على "الشعب". وطِبقاً لهذا التعريف، فإنَّ المصطلح ينبغي أن يستعمل فقط للإشارة إلى الثقافة "الأصيلة" "للشعب". وهذه هي الثقافة الشعبية باعتبارها ثقافة شعب: ثقافة شعب من أجل الشعب.

ويرى جون ستوري أنَّ الثَّقافةَ الشعبيةَ غالباً ما تتم مساواتها بمفهوم عالي الرومانسية لثقافة الطبقة العاملة التي تفسَّرُ على أنها المصدر الرئيس للاحتجاج الرمزي داخل الرأسمالية المعاصرة. ثمة مشكلة في هذه المقاربة هي مسألة من المؤهل لإدراجه في فئة "الشعب"، وهناك مشكلةٌ أخرى هي تفادي الطبيعة "التجارية" لكثير من المصادر التي تصنع منها الثقافة الشعبية. وبغض النظر عن إلحاحنا على هذا التعريف، فإن الحقيقة –حسب جون ستوري– تبقى أنَّ الشعب لا ينتج عفويّاً ثقافةً من مواد خام من صنع يديه، ومهما تكن الثقافة الشعبية، فإن ما هو مؤكد أن موادها الخام هي تلك التي يتم توفيرها تجاريّاً.

وهناك تعريفٌ آخر للثقافة الشعبية هو ذلك الذي يسترشد بالتفكير المعاصرِ الدائر حول النقاش بشأن ما بعد الحداثة. فالادعاء بأن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة ما عادت تميز الفروق بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، إن ذلك بالنسبة للبعض سبب للاحتفال بانتهاء النخبوية المبنية على التمييزات التعسفية للثقافة، وبالنسبة للبعض الآخر سبب للقنوط نتيجة الانتصار النهائي للتجارة على الثقافة.

ومن الأمثلة على التداخل المفترض بين التجارة والثقافة يمكن العثور عليه في العلاقة بين الإعلانات التلفزيونية وموسيقى البوب. على سبيل المثال، هناك قائمةٌ متناميةٌ من الفنانين الَّذينَ لديهم أسطوانات ناجحةٌ نتيجةً لظهور أغانيهم في الإعلانات التلفزيونية. وأحد الأسئلة التي تثيرها هذه العلاقة هي "ما الذي يتم بيعه: الأغنية أم البضاعة؟" والإجابة في نظر جون ستوري كلاهما أي الأغنية والبضاعة. وبالتَّالي من دون شك أن التأثير يمس الثقافتين: الثقافية الرفيعة والثقافة الشعبية.

وفي الأخير يُؤكدُ جون ستوري أن الثَّقافة الشعبية ليست تاريخيّاً مجموعة ثابتة من النصوص والممارسات، ولا هي فئة مفهومية ثابتة تاريخيّاً. وما يتم إخضاعه لفحص نظري دقيق متغير تاريخي، ويتشكل دائماً جزئيّاً من الفعل نفسه للمشاركة النظرية. وما يزيد في تعقيد ذلك هو أن وجهات النظر النظرية المختلفة تميل إلى التركيز على مجالات معينة من مشهد الثقافة الشعبية. والتقسيم الأكثر شيوعاً هو بين دراسة النصوص (القصة الشعبية، والتلفزيون، وموسيقى البوب، إلخ) وبين الثقافات أو الممارسات المعاشة (الإجازات على شاطئ البحر، وثقافات الشباب الفرعية، والاحتفال بعيد الميلاد، إلخ). وتبقى الثقافة الشعبية موضوعاً حيويّاً يفرض نفسه بدرجة كبيرة من الأهمية والصعوبة ليس بتلك السهولة التي يتصورها العديد من الناس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها