امرأةُ الظِّل

رابعة الختام

تشبثت خطواتي بالأرض.. التصقت بالجدار أكثر فأكثر خشيت أن يُلجم لساني بطلبه الذي يراه مستحقاً وأراه إهانةً بالغةً. التقطت بضع قطرات من لُعابٍ جافٍ، في محاولةٍ بائسة بتحريك لساني على شفتيّ لأبلل حلقي المختنق جفافاً.. كانتْ لَعْثمتي وحدها كفيلة بالرد على جميع التساؤلات التي يمكن طرحها في هذا التوقيت.

طلب مني الذهاب معه لشقته، قال إنها: هي المرة الأخيرة قبل إتمام زواجه من "رضوى"! بحنقٍ صرختُ في وجهه: ستتزوج بعد بضعة أيام، فلماذا أنا في هذا اليوم؟ لماذا؟

ستصبح لديك زوجة للمرة الثانية، وما زلت وحدي أُعاني عتمة الوحدة! قال: إنه لا يشعر برجولته إلا معي، ولا يتذوق العسل إلا من فوق شفتي، لا يستدفئ شتاءً إلا بحضني، ولا يرطب جلده صيفاً إلا لعابي.

قال: إنه يحبني.. وحبه أكبر من أي علاقة وأي صداقة، حب أقوى من أن يؤكده دفتر مأذون، وأكبر من أن تحدده حدود زوجية عادية. قال إنه: يشتاق لدفء قلبي، وحرارة شفتي، وقبلاتي لها طعم الكرز، ويتوق لانتفاضة جسده معي حباً ونشوة.

قال، وقال، وقال، والله يعلم إنه لمن الكاذبين. رأيته أمامي فيما يشبه الوحش، نبتت له أنياب، تدلت شفته السفلى، وتضخم جسده، احمرت في مخيلتي عيناه وبرقت، لمعتها مخيفة! كرهته أكثر فأكثر، لعنتُ نفسي لقبولي أول مرة بممارسة تمارين رجولته معي، بأن يلقي بمآت الأطفال المحتملين في عين الشمس وعلى ضوء القمر، ويرسل للنجوم قبلات مشبعة باللزاجة والشبق، ممنياً نفسه بلقاء مشابه مع زوجته بعد أيام!

تذكرت حين حدثني عن زوجته الأولى وندمه على الطلاق السريع، وعدم قدرته على الصبر أكثر لتحمل حمقاتها، وشراهتها في التدخين.. شجارها الدائم مع الباعة والحارس، والخادمة، سبابها المستمر، بصاقها اللزج الممزوج برائحة نيكوتينها، كلماتها الخالية من الود والاحترام لأمه وأختيه الكبيرتين، وكيف استولت على مدخرات سنوات ثقال في الغربة، نحتت روحه وقضمت من عمره أجمل سنواته.

روى لي ما دار بينهما بالتفصيل، حكايات وكلمات سخيفة عن مطلقته، ساعات استلقى فيها على صدري وهو يبكي كطفل.. فضفضة انتهت بأن فض غلاف الحلوى الذي وصفه باللذيذ.

وعدني بزواج سريع وإن كان في السر.. فقط ينتهي من زيجته الرسمية أمام أهله، ثم يتحدث لأمه في أمري، مع حفظ بعض التفاصيل بعيداً عن الكلام المباح.

حضرت حفل زواجه وأنا أخفي جروح روحي بفستان أسود، غنيت في الحفل لمشاركته الفرحة، فكانت فرحته تلون المكان.

تساءلت: كيف يدعي حبه لي وهو يرقص ويضحك في أحضان غيري.. مرت الأيام علي ثقيلة، وجاء الرد أثقل وأكثر وجعاً، رفضت أمه، وصفتني بعجوز تقف حائرة في منتصف عقدها الخامس، ثم كيف تزوج ابنها لمن تكبره بخمس سنوات!!

بكيت كما لم أبكِ من قبل، ووسط دموعي سألته: هذا رأي أمك؟ فماذا عنك؟

ابتلع لسانه ولم يجب على سؤالي، تجاهله كما تجاهلني من قبل، مضى في طريقه، يهاتفني كلما اختنق عقله بالأفكار.

وحين تنعته امرأته بـ"العنين" يأتيني بكلمات الحب والغزل المكذوب، يمارس تمارين رجولته، يلقي ببعض الأبناء المحتملين في عين الشمس، تماماً كما يلقي الصغار بالأسنان المتكسرة في وجه الشمس قرباناً لتمنحهم أسناناً بديلة ببريق لامع.

طلق زوجته الثانية، واختبر رجولته معي.. في كل مرة أحضر بداية زواجه وأشهد إسدال الستار على مشهده الأخير، دون أن يشعر ولو لمرة واحدةٍ أنني أستحق أن أحمل اسمه في وثيقة رسمية.

وفي كل مرة أستجديه أن يُشرْعِن هذا الحب فلا يفعل، وأن يجيب على تساؤلاتي ولا يفعل، ظلت أسئلتي حيرى وقلبي ممزق.. أنا في حياته امرأة عابرة، محطة ترانزيت لا تصلح للبقاء، فقط استراحة قصيرة لالتقاط الأنفاس ليكمل سفره.

تقيأت حبه بعد عشر سنوات كاملة، مكث فيها في قلبي يكرر لعبته الواهية.

عشر سنوات من عمري، وأربع زيجات وطلاقات له. لماذا لم أتعلم أن أقول لا، كما قلت نعم مرات ومرات؟

لست امرأة سهلة، ولم أكن يوماً، وما كان أبي امرأ سوء وما كانت أمي بغياً، لكنه الحب الذي أخرس لساني، أعجزني عن الرفض المستحق والمحتوم.

هو يريدني في الظل، في العتمة، وحين يعلن ظلي المتمرد عن وجودي تحت وهج أشعة الشمس يرتعب. يعجز حتى عن اتخاذ القرار، معي يفضفض بأريحية، ويَتثاءبُ بكسل في قراراته الخاصة، عاجز معي، هو المتسرع في جميع زيجاته، يأخذ القرار في أقل من لحظة.

لكنني حسمت أمري أمام شقته في الدور السابع، ووضعت يدي على صدري، وزمّمتُ شفتيّ على الصمت، ورفضت أن يفتح الباب ليمارس تمارين رجولته، وقفت لمرة واحدة أعلن أنني مللت من لعب دور امرأة الظل؛ فإما وثيقة رسمية، وإما لا شيء، لكنه تنصل من عجوز تقف حائرة في منتصف عقدها السادس.

هبطت الدرج وأنا أردد على أذني وعقلي وقلبي مقولة أبي "الق الأغبياء والحمقى خلفك، ولا تنظر للوراء حتى لا تتعثر خطواتك بقاذوراتهم".

ولن أشتاق له ثانية، لن يحدث يا قلبي، نحن لا نشتاق للجميع، نشتاق فقط للأوفياء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها