حياة على الهامش

جاسم الحمود

مع شروق الشمس يكون أبو علي قد وصل الحديقة، يدخلها من الباب الجنوبي الصغير، يسير شمالاً ثمّ ينعطف يميناً ليصبح مقابل الباب الشرقي، يتجه إلى مقعد خشبي تحت شجيرة صغيرة، يضع الحقيبة بجانبه على المقعد، يخرج منها حافظة طعام وسفرة، ثمّ يفرد عليها وجبة الإفطار؛ قطع من الجبنة وبضع حبات زيتون وقطع من الخيار والطماطم، ثمّ يُخرج ترمس الشاي الساخن ويصبّ في كوب زجاجي مصفرّ، صارت وجبة الإفطار جاهزة، لكنه لا يحب أن يفطر وحده؛ سيفطر مع أصدقائه يتناول من الحقيبة كيساً صغيراً من الحبوب، يقبض قبضة منها وينثرها أمامه فتحطّ على الأرض أول يمامة، ثمّ تتبعها أخرى وأخرى، تبدأ اليمامات بالتقاط حبات القمح، ويبدأ أبو علي إفطاره بشهية وسرور، ولا ينسى أن يفتّت بعد كل لقمة يأكلها قطعة خبز أو جبن ويضيفها لوجبة اليمام، وكلّما تناقصت حبات القمح على الأرض، رمى قبضة من القمح فوقها.

ينتهي من إفطاره ويجمع أشياءه في الحقيبة، ثمّ يرسل عينيه تراقبان بحنو بالغ طيور اليمام وهي تلتقط حبات القمح، تباطأت حركة التقاط القمح؛ اليمام شبع نعم شبع، يهمس ثمّ يرفع بصره للسماء؛ الشمس باعدت عن الشروق وارتفعت قليلاً، ينهض ويمشي في الحديقة؛ الحديقة شبه خالية سوى من عامل نظافة في الطرف الثاني، يرى سلّة النفايات مقلوبة على الأرض، يعدّل وضعها ويعيد محتوياتها إليها، يتابع سيره يلتقي بأبي حسين عامل النظافة يحيّيه ويناوله قارورة ماء، يمشي بخطوات وئيدة؛ لِمَ العجلة لا شيء ينتظره، هو في صراع مع الوقت يشعر دوماً أنه معتقل والوقت محقق قاس القلب، يستدعيه كلّ يوم ويُجلسه على كرسي الاعتراف، ثمّ يدير وجهه عنه ويتركه بلا أسئلة، حتى إذا حلّ المساء صرفه وقال: تعال غداً.

ينتهي من جولته المحددة بأربع دورات حول ممشى الحديقة، يعود إلى مقعده مقابل الباب الشرقي ينظر للساعة؛ السابعة تماماً، يجلس ووجهه نحو الباب يفضل الجلوس هنا في هذا الوقت؛ بعد قليل يبدأ دوام المدارس والموظفين، ومن هذا الباب الكبير سيمر المئات في الساعة، طلاب مدرسة الرشيد موظفو المشفى الوطني وغيرهم، يجلس صامتاً يراقب وجوه المارين عسى أن يرى وجهاً يعرفه أو شخصاً ينتبه له فيبادره بالسلام، كثيرون يمرون لا يعرفونه وقلِّة ممن يمرون يعرفونه، لكن لا أحد ينتبه لذلك العجوز المنزوي في مقعد عند بوابة الحديقة، تتجاوز الساعة التاسعة يحسّ بالتعب، يحمل حقيبته ويعود للبيت، في طريقه يمرّ على البقال يشتري منه رغيفي خبز، ويطلب من صاحب محل بيع الدجاج ما تبقى عنده من فضلات الدجاج، ثمّ يتابع سيره، يصل مدخل العمارة، تحت الدرج قطة مع صغارها حديثي الولادة يضع أمامها بقايا الدجاج، ويصبّ الماء في صحن أمامها، ثمّ يصعد لشقته، يفتح الباب فتندفع رائحة الوحدة وتسدّ منافذ الهواء عليه فيحسّ بالاختناق، يتفقدّ الهاتف الأرضي عسى أن تكون هناك مكالمة وردت له في غيابه، يغلق نوافذ البيت التي فتحها صباحاً، ثمّ يتمدّد على الأريكة، هذا حاله منذ خمس سنوات؛ أولاده تفرقوا في الأرض، كان يتحدث معهم عندما يتصلون بين فترة وأخرى بأمهم، لكن منذ ماتت العجوز قبل سنة تباعدت اتصالاتهم حتّى انقطعت.

يهمس: الوحدة قاتلة لا بد من منجى منها.

يغمض عينيه بأسى ويغفو.

مع شروق شمس اليوم التالي استيقظ الحي، كلّ شيء عادي لم ينتبه أحد من الجيران أن نوافذ بيت العجوز مفتوحة على غير العادة، وظلت بضع يمامات على أغصان تلك الشجيرة عند باب الحديقة تنتظر حبات القمح، وعامل النظافة وجد سلّة النفايات عند ذلك الباب مقلوبة وقد تناثرت محتوياتها على الأرض، وبدأ العطش يقرصه وهو بانتظار قارورة الماء، تجاورت الساعة التاسعة، كلّ شيء عادي، لم ينتبه البقال أنّه باع كلّ الخبز وبقي عنده رغيفان، وصاحب محل الدجاج رمى بقايا الدجاج لقطط الشارع في حين كانت هناك قطة تحتضن صغارها تحت مدخل العمارة تنتظر تلك البقايا، والهاتف الأرضي ظلّ صامتاً، ومضى الوقت والحياة مستمرة كأن شيئاً لم يحدث!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها