قصيدة النثر.. النشأة وظاهرة التشبيه

محمد الماغوط نموذجاً

الناصر العوني


لا يتم الكلام عن الشّعر العربيّ الحديث وعن أهمّ تيّاراتِه الفنّيّة إلا بالوقوف عند ظاهرة "قصيدة النثر"، والتي لم يتوقّف الجدل عن شرْعيّتِها وعن طبيعة تكوّنِها. فواجهتْ معارضيها بالغزارة والإبداع، ذلك أنّ الذي لا يُعترفُ بوجوده يقتحم –أحياناً– عوالمَ غيرَ عوالمِه بقوّة ويطْرق الأبواب بعنف. ذلك أنّ المحافظين نزّهوا الموروث الشعري من كل ابتداع يتراءى لهم في الشكل والمضمون، لذلك أوجدوا في نقودهم مقولة الدخيل والأصيل، والذين قالوا بتنزيه الموروث الشعري عن كل نَقْص والاستغناء عن كل جديد وأدب خارج عنه، لاعتقادٍ راسِخٍ في اكتماله الجمالي وحُسْنِ تبليغه للمقاصد بآليّاته ووسائله الأصيلة.
 

ونُرْجِئُ الحديث عن التشبيه لنتحدّث عن كيفيّة نشأة قصيدة النثر في الحاضنة العربيّة، فقد توخّت في مراحل عبورها من الغرب إلى العرب طريق الترجمة والهضم والاستلهام، وتقلّبتْ على نارها الهادئة في المهجر الأمريكي أثناء محــاولات جبـــران والريـــحاني1 وغيرهما. ولمّا استلهموها من الغرب واسْتساغتها أذهانُهم وأفهامُهم نقلوها إلى أوطانهم. ومن هذا المنطلق نتبيّن أنها نشأت في أرض غير الأرض العربية. لكنْ هُيّئ لها الأديم وغُرست بعقول عربية، سعْياً منهم لتجديد قيم الأدب العربي، وبعث روح جديدة فيه، تـُـحرّره من أغلال الجمود والتقليد التي خضع لها زمناً طويلًا أثناء عصور التقهقر والضَّعف، ولا يرتقي إلى أذهاننا شكٌّ أنهم كانوا متشبّعين بدرجات مُتفاوِتة بالآداب العربية، التي تكوّنوا فيها وتشرّبت قرائحُهم طبائع أساليبها وطُرُق مناهجها في الشعر والنثر. ولا نشك أنهم من ناحية أخرى كانوا مطّــلعين اطّلاعاً مُتفاوتاً أيضاً على ما زخر به أدَبُنا العربيُّ القديمُ من نماذج قويّةٍ تُراعي هذا المنهج في الكتابة. ثمّ أخذت هذه الظاهرة في التوسع والاندياح مشرقاً ومغرباً.

ومثلما كانت مجلة "أبولو" هي المحضن الحميمي للشعراء الرومنطيقيين العرب، كانت مجلة "شعر" البيروتية ملاذاً لشعراء القصيدة الحرة والنثرية من هجمات التقليديين. وتحصّن بها محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج، وشوقي أبو شقرا وجبران إبراهيم جبرا، وتوفيق الصايغ وإبراهيم شكر الله2.

وكما لا يمكن الحديث عن الشعر العربي الحديث إلا بالوقوف عند ظاهرة القصيدة النثرية، كذلك لا يمكن الحديث عن قصيدة النثر إلا بالوقوف مليّاً عند الشاعر محمد الماغوط3 (1934-2006)، لِمَا في كتاباته من فرادة في الأسلوب والصورة وتميُّزٍ في مُعالجة القضايا... ذلك أنّ شعره وما تحوم حوله من صُوَرٍ وما التصق بِثِـــنْيِهِ من أساليبَ وخصائصَ يُعَدّ إجْرَاءً أظهر فيه "الماغوط اقتدارًا لُغَوِيًّا وتصويريّاً"4 في إخراج ما يضطرب في ذاته من تمثـّلات. ويشهد كذلك على مدى انطباع تفكيره بالمجال الذي يعيش فيه. فتلوّنتْ الصُّورَةُ واللُّغَةُ وترْكِيباتُهُما بالوجدان والفكر. من هذا المنطلقِ سعى سعيَــه الواثق إلى تحقيقه الهدف الرئيس في استمالة السامع وحمْله على الاعتراف به فنّياً. وهذا هو المسوّغ الذي أغْرانا لكتابة مقالٍ حول الشّعر الماغوطيِّ وقدرته التشبيهيّة. إذ إنّ شعريّـتَه صادمة حارقة في لغتها وصُوَرِها ومَضَامِينِها، تُنَاقِضُ السّائِدَ وَتَثُورُ علَى نَمَطِيّة الِاحْتِذَاء. وَيَشُدُّنا شعرُه إليه شدّاً، بما يتحلّى به من قوّةٍ قادحةٍ وجاذبةٍ، مُؤْلِمةٍ ومُمْتِعَةٍ في آنٍ، تجمع التناقضات كلِّها.
 

وقد ارتأيْــنا أن تتنزّل ورقتُنا في نبْش ما احتجب من شعر هذا الشاعر في تجاربه الأولى، معتمدين ثلاثة دواوين شعرية، جُمعت في كتاب بعنوان "محمد الماغوط الآثار الكاملة" وهي: "حزن في ضوء القمر" 1959م، و"غرفة بملايين الجدران" 1960م، و"الفرح ليس مهنتي" 1970م. ونشير إلى أنّ هذا الكتاب تضمّن مسرحيّتيْن في آخره، لم نـُـعْن بدراستهما.

 وسعينا إلى اكتناه وجوه الطرافة في الصورة التشبيهيّة من وجوه شتّى، بمُحاصَرَةِ هذه الظّاهرة بدْءًا ومنتهًى، إذْ إنها البوابة الأولى لإماطة اللّــثام عن حضور الخصائص الفنية الأخرى والصُّوَرِ ومن ورائها القدرة التّخييليّة، وإزاحة القشرة الأولى من قشراتها المتراكبة لنلج العمق، ونحْفر عميقاً في بنائها الفني.

فـالتشبيه من الناحية اللّغويّة: هو الشـّـبَه والشّبْه والشبيه: المِثْل والجمع أشباه، وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثلهُ. والتشبيه التـّـمثيل5. أما اصطلاحاً: فهو وصف الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة. وهو تمثيل شيء بشيء في صفة مشتركة، والغرض منه توضيح الغامض من المعاني وتقريب البعيد6. وقد أولى العرب اهتماماً بالغاً به فهو موغل في تاريخهم إذ "إنَّ ولَعَ القُدَماءِ وفتنتَهم بالتشبيه قديمة"7. وذلك متأتّ من كونه مؤثِّراً تأثيراً عميقاً في الباثّ والمتقبّل على حدّ السواء، لاندراجهما في العمليّة التّواصليّة واستيعابهما لوسائل العملية وشروطها، فهي تنهض بدور الوسيط السحري بينهما. فلا غرابة إذن أن ينشدّ الشعراء العرب قديمهم وحديثهم إليه انشداداً لافتاً للنظر ويقتفوا آثاره. لأنه "بحر البلاغة وأبو عذرتها وسرُّها ولبابها وإنسان مقْــلتها"8. وهذه المنزلة الرفيعة التي حظِيَ بها التشبيه في الشّعر العربيِّ في أطواره التاريخية المتعاقبة، تشبّع بها شعراء عصرنا بدرجات متفاوتة. ولعلّ شاعرنا محمد الماغوط قد أمعن في الإكثار من توظيفِـــهِ في ثني قصائده وبين أعطاف أسطره الشعرية. من نماذج الماغوط التشبيهيّة نصّه المُعنْون "بالوشم"9 الذي استمدّ مفردة عنوانه من الكلام اليومي وشُحنت كلماتُه بطاقات شعريّة أبعدتْه عن الكلام النثري، وقرّبتْه أكثر فأكثر من الشعر المُفعم بالتّـوتّرات النفسية وبالفضاءات التشبيهية التصويرية، فشَبّهَ دمَه بحيوان مُفْتَرِسٍ شديد السرعة "هذا الدم المذعور كالفهد الجبلي"10. وفي قصيدة "القتل" يقول:
ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيّدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدّم
كالسّيف الذي يخترق الجمجمة11

أو عند قوله:
"أيتها السّهول المنحدرة كمؤخّرة الفرس// المأساة تنحني كالرّاهبة"12.

أو عند قوله:
"البندقيّة سريعة كالجفن// والزناد الوحشيّ هادِئ أمام العينيْن الخضراويْن
ها نحن نندفع كالذّباب المُسنّن// نلوّح بمعاطفنا وأقدامنا
حيث المدخنة تتوارى في الهجير// وأسنان القطار محطّمةٌ في الخلاء الموحش
الطفلة الجميلة تبتهل// والأسير مطارَدٌ على الصّخر"13.

ما نـُـلاحظه في هذه الشواهد أنّ المشبّه به لم يكن مجرّداً بل كان شيئاً محسوساً، لذلك كان قريبَ الصورة وبسيطاً، مقتطفاً اقتطافاً من الواقع. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المشبه رغم بساطتِه لم يستدرج إلى التّبسيط السّاذج، بل ارتقى بنفسه إلى درجة التفكير العميق والتّأمل البعيد. وتجَاوبًا مع هذه الملاحظة نَتَبيّن أن التشبيه في شعر الماغوط هو المهادُ الأوّليُّ للدلالات. فهو الأسّ الذي ترتكز عليه لَبِناتُ الصّورةِ والدّلالةِ. ونحن لا نَرْتَئِي أن نقف عند حدودِ التّعامُلِ السّطحيِّ مع التّشبيه وأركانِه، حُضُورًا وغيابًا، بل نصبو أن نتجاوز الجوانب التقعيدية في جملة التشبيه هذه. ونشير بعد تقْليبنا لهذه الظاهرة البلاغية في قصائدَ محمد الماغوط، أنّ تشبيهَه يكتسي أبعاداً أخرى. فشاعرُنا لا يتوسّل إليه لغاية في ذاته، أو مجاراة للإرث البلاغي القديم، بل يفتح أنساقاً دلالية جديدة وواسعة، تحلّق بالقارئ في فضاءات مقصديّة أرحب، وتهيّئ الأديم لإمكانيّات تصويريّة تنزع إلى الفرادة، تـُنبئ بواقع معيشي حالك مرير. فجُمَلُ التّشبيه التي تعرّضنا إليها مقتطفةٌ من سياق يُوسَم بالمرارة والقتامة، حيث يلتقي البُؤسُ الاجتماعي بالبؤسِ السّياسيِّ، في صور تشبيهيّةٍ تتكامل وتتلازم، فتصبح ككفّتيْ الميزان إنْ رجحتْ إحداهما خفّت الأخرى:
"على هذه الأرصفة الحنونة كأمي
أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة
سأنتزع علم بلادي عن ساريته
وأخيط له أكماماً وأزرارا
وأرتديه كالقميص
إذا لم أعرف في أيّ خريف تسقط أسمالي14

إنّ كلمة الأرصفة هنا تتجاوز معناها السطحي لتكتسب معاني أخرى أكثر توهّجاً واحتراقاً.. فهي كمشكاة تشعّ بأشعّة متعدّدة الأضواء. فتكشفُ من جانبها الظاهر، ممرّ السّابلة. أمّا من جانبها الباطن فتبوحُ بمعاني الفقر والحرمان والجوع والتشرّد وضياع، لِمَا تحملهُ هذه الخصائص من فقْدانِ لضَرُوريّات الحياة الكريمة: من مسكن ومطعم ولباس وسنَدِ عائليٍّ وتعليم وصحّة.

مفردة الماغوط إذن ليْست بريئة. وإذا تسرّبت في سياقات القصيدة فتحتْ مساربَ دلاليّةً متشعبة، لا تقف عند حدود معناها الأصلي. ومزيّةُ التشبيه هنا فتَح لنا مسالكَ دلاليةً جديدةً ومضرّجةً بمعان كثيفة. فاحتوى السطر الشعري الأوّل تشبيهاً تامّاً. تَقاطَع فيه المُشبّه والمشبّه به ووجه الشبه. والنعت هنا "الحنونة" نهض بدور وجه الشبه، واستأثر بمشاعرَ إيجابية تستأثِرُ بها الأم دون سواها. لكنّ الشاعر هنا يخيّب توقعاتِنا ويزعزع قناعاتنا وينسف ما ترسّخ في مخيالنا الفردي والجماعي، إذ يُسْندُ للأرصفة -هذا المكان الصّلب المُحاذي للطّريق والمُداس بأقدام المترجّلين– صفاتٍ من غير صفاته ويتحلّى بأبعاد الإنسان، بل بأعمق صفاته على الإطلاق وهي الحنان.. فيشبّه الأرصفة بالأم الأكثر غزارة للعطف والمُحِبّة لأبنائها. وفي شاهد آخر يُورِد:
سأتكئ في عُرْض الشارع كشيوخ البدو
ولن أنهض
حتى تُجمع كلّ قضبان السجون وإضبارات المشبوهين في العالم
وتوضع أمامي
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق
حتى تفرّ هراوات الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصانا مزهرة مرّة اخرى
في غاباتها15

لا يكون من كبير جدوى إذا اكتفيْنا بظاهر التشبيه دون الولوج إلى الدلالة العميقة والحافة به، أو إذا اقتصرنا على اقتطاعه من سياقه. فالتشبيه في أغلب مواطن قصائد الماغوط، له مزيّة التأسيس: نواة أصلية لتوليد نُوًى فرعية للتصوير والدلالة. يبْــنيها بدلالاتها السياقية المعقّدة التي تلتفّ حول النواة المؤسّسة، وتعاضدها لتشكيل المعنى والصور وتفريع المضامين وعرض القضايا المتشعّبة والمعقّدة.

ففي هذا المقطع الشعري القصير ينـْــبض عرق سياسيٌّ نافر، يُصوّر تجليات البُؤس السياسي، جمّع له صاحبُه كل طاقاته التصويريّة، واسْتقصى دائرة الخيال الرحيبة، واعتصر المعاني المبثوثة فيه. وكانت وسائله التي توسّل بِها وتعكّز عليها هي "كاف التشبيه" وأداة "مثل": اللـّتان يعقبهما اسم، وكذلك "مثلما" التي يتلوها "فعل" والتي نهضت بالدّوْر على أكمل وجه. وما نلاحظه هو حضور مكثـّـف لحقل دلالي سياسي ترادفتْ فيه كلمات من قبيل: (قضبان، سجون، إضبارات المشبوهين، هراوات الشرطة، المتظاهرين)، إذ تآزر هذا الحقل الدلالي مع التشبيه الذي حفّتْ به وسائل القمع السياسي، توزّعتْ هذه الوسائل القمْعيّة بيْن فضاءيْن: فضاء القمع الداخلي: "السجون، قضبان السجون" و"فضاء القمع الخارجي": "هراوات الشرطة، المتظاهرين". فحُوصر هذا التشبيه بين فكّيْ القمْع السياسي، أو العلة الأُولى التي أفْرزتْ هذا القمع:
حتى تفر كل هراوات الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصانا مزهرة مرة أخرى
في غاباتها16

وحتى يـُعيد الشاعر هذه الوسائل القمْعية إلى أصلها وزمنها البدئي، عليه أن يقوم بقدرات خارقة تفوق قدرته الإنسانية، ويستمدّ طاقته من الخيال. فاسْتدْعى فعل "يلوك" في صيغة الحاضر المستمرّ المنسوب إلى غير صاحبه (الشاعر)، ليضطلع بمهمة إرجاع المشوّه المتحوّل إلى أصله الخيّر الأصيل:
"وتعود أغصاناً مزهرة مرة أخرى
في غاباتها".

نهضت هذه العبارة إذن، بإبراز دلالتيْن رئيسيّتيْن. الأولى أكّدتْ على أنّ هذا القمع السياسي، جرّ الشاعر ومن ورائه الإنسان بصفة عامّة إلى التّدنِّي إلى الحظيرة الحيوانية، من خلال فعله الاجتراري الرتيب (ألوك) المختص به الحيوان دون سواه. والدلالة الثانية هي الشّحنة النّفسية المُتدفِّقة من الشاعر لنسْف هذا القمع بطاقة الخيال الخارقة عندما عجزت عنه كلُّ طاقات الواقع المهترئة. قد نـُسب فعل "ألوك" إلى (أنا /الشاعر) الذي استعار هذا الفعل من صاحبه الأصلي (الجمل)، والذي يتنزّل في هذه السطور الشعرية في منزلة (المشبّه به)، مَعَ تحْديد لحيّز مكاني مفتوح (على قارعة الطريق). ويُنْبئنا هذا المكان أنّ الفعل الحيواني "ألوك" مكشوفٌ لعابري السبيل. فهو يستدرج الإنسان والقارئ إلى أن ينخرطا في هذا الإحساس وفي الوعي به. فقارعةُ الطريق تمثّل المرآة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه وهو يتخبّط في الظلم والقهر والقمع والتعذيب. وهذا يُرشِّح زيادة التصعيد وتوسيع الدائرة وتسليط الضوء على تأزم الواقع الاجتماعي بسبب إكراهات العنف السياسي، ممّا سيرْفع من سقف القضايا المُمرَّرة.

تتوافد التشبيهات في القصيدة الواحدة متناسلة من بعضها البعض، ممّا يُشكّل صُوَراً عنقودية متنوّعة ومكثّفة. فلا يخلو موضع من مواضع القصيدة من تشـْبيه، يكون مغايراً لما سبق:
فصولها متقابلة أبداً
كعيون حزينة في قطار
نوافذها مفتوحة أبداً
كأفواه تنادي.. أفواه تلبّي النداء
17

إن اسْتدعاء شاعرنا لـ(العيون الحزينة) الناهضة بدور المشبه به الأول، ولـ(أفواه تنادي) الناهضة بدور المشبّه به الثاني أمرٌ ذو بالٍ، إذْ كانا مُنْدرجيْن ضمن عناصر جسدية واحدة، ولا يخْتلفان إلاّ في الحاسّتين الموكولتيْن لهما (حاسة الشم والذوق)، وبذلك يعْقد صلة قويّة بيْن جملتي التشبيه ومكوّناتها الفرعية. فتُكمِّل إحداهما الأخرى في الأداء الواقعي وفي التصوير الشعري. وما نلحظه أنّ القتامةَ هيْمنتْ على ملامح الوجه المعروض في هذا المقطع (عيون حزينة – أفواه تنادي). وهذه القتامة التي منطلقها التشبيه، ترسم في القصيدة انفعالات الخوف والرهبة والرعب والوحشة واليأس.

يواصل الشاعر تشبيهاتِه القاتمة في جل قصائده مستخدماً كل مرة مفردات جديدة تبوح باليأس والقيْد:
"كذلك أنا
بحاجة إلى شيء مجهول له نعومة النهد وشراسة الصقر
يقبض عليّ كالسارق
يلتفّ حول طاولتي كـــلجام من الصّمغ"18.

لا يُفهَم مقصدَ الشاعر وما ينْوي الإفْصاحَ بِه، إلا بالرّافِدِ السّياقيّ الأمّ، وبِشبكة العلاقاتِ بيْن المُفْردات المَنْثورة هنا وهُناك، وبالمعاني الفرْعِيّة المبْثوثة، فمفردة "طاولتي" إذا كانت بمفردها أو معزولةً تُوقعنا في الالتباس وتشتّتُ المقصد العام، لذلك توخّى الشاعر استراتيجياً الكشف التدريجي لمعاني قصائده، وعوّل تعويلاً أساسيّا على التشبيه. فعند مواصلة قراءة هذه القصيدة، تستوْقِفنا كلمة "الكلمات" عند قوله:
"القُدْرةُ على سَبْكِ الكَلِمات
وتشذيبِها كأذرُعِ خارجةٍ من القبْرِ"
19.

وعند التّقدُّمِ في القراءة نظفر بهذه العبارة: "وألتفُّ حول قصائدي كالذّيْل"20. في نهاية القصيدة يتشكّل المعنى التام، وننتبه إلى أنّ الشّاعرَ ذهبَ إلى معنى لحظة إنتاج الشعر والمخاض الذي يعتريه وهو يشكّل القصيدة ويولّد معانيه: "إنّها لحظة المكاشفة الشّعريّة، لحظة ميلاد الحدث الشّعريّ: يمْثُلُ الشّاعرُ في لحظة الشّعرِ. وبالمُقابلِ يأتي الشّعْرُ لِيَتَبدّى في حضْرةِ الشّاعرِ وعْدًا يُمْكِنُ الإمْساكُ بهِ"21.

ظلّت قصائد الماغوط ترشح بجمل التشبيه، التي لم يقلّدْ في نحْتها الشعراء الأوّلين ولا الآخِرين، بل اعتصرَها من واقعه المرير، من آلامه الفرديّة، فجاءتْ تفيض فرادة وقتامةً وتمرّداً. ويظلُّ العمل منقوصاً، لأنّنا لم نرفد مع ظاهرة التشبيه ظواهر أخرى، ولو اتّسع المجال لاستحضرْناها. لأنّ التشبيه لا يمكن له أن يشتغل في قصيدة مّا، معزولا عن ظواهرَ بلاغيّة ولغويّة أخرى، بل تتضافرُ معه الاستعارة والكناية والمجاز، وخصائص تركيبيّة وتوزيعية من قبيل التقديم والتأخير والحذف التي تزيد أيّ القصيدة ثراءً توهُّجا واكتمالاً. وهذه الظاهر حاضرة حضورًا لافِتًا في قصائدِ الماغوط.


 


 الهوامش: 1. أبو زيان السعدي: في الأدب التونسي المعاصر، ط دار سراس للنشر، 1989، ص: 27.
◅ جبران خليل جبران (1883 ـ 1931)، لبناني الأصل، هاجر صبيًّا إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ليدرسَ الأدبَ، كان عضوًا في رابطة القلم بنيويورك المعروفة حينها بشُعراء المهجر مع ميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي والريحاني، مؤلفاته المجنون، وعرائس المُروج، واالأجنحة المتكسرة، الأرواح المتمرّدة، دمعة وآبتسامة، العواصف. عرّفه عزّ الدين مناصرة كونه الأبض الرّوحي لعمليذة التجسير بيْن الشعر والنثر، أيْ عمليّة مدِّ الجُسور بيْنَهُما.
◅ أمين الريحاني (1876 ـ 1940)، مفكر وأديب ومؤرّخ وروائي ورحّالة ورسّم كاريكاتير، عُرِفَ بالغزارة الإبداعية، ألّف: على ضفاف الأرجوان، مدار الكلمة، كتاب وصيّتي، رسائل أمين الريحاني، قصتي مع ميْ.
2. عباس بيضون: البحث السادس، الشعر العربي الحديث.. الضرورة والاستمرار، نسخة مجانية توزع مع العدد 369 نوفمبر 2009، من سلسلة مجلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ج2، ص: 62.
3. انظر قاموس الأدب العربي الحديث: دار الشروق،ط 2،2004، ص: 523.
◅ ولد الشاعر السوري محمد الماغوط في سلمية وهي قرية إسماعيلية ذات موقع خاص في التاريخ الفاطمي ومنها تحدّر شاعرنا الذي تلقى تعليما متوسطا في إحدى مدارس الزراعة. قاده الشعر إلى السياسة فانتمى إلى الحزب القومي السوري الذي أسسه أنطون سعادة، ودخل السجن بسبب هذا الآنتماء. وقد هاجر بعد ذلك إلى بيروت. وقدّمه أدونيس في إحدى ندوات مجلة شعر اللبنانية. حيْث استُقْبل شعره بمزيج من الدهشة والانبهار.
4. يشير الدكتور محمد علاء الدين عبد المولى في كتابه "وهم الحداثة مفهومات قصيدة النثر نموذجاً" ص: 180 نقلًا عن محمد جمال باروت في كتابه النقدي "الشعر يكتب نفسه" اتحاد كتاب العرب، دمشق،1981، ص: 9. "لقد استطاع الماغوط بقدرة إبداعية نادرة أن يترجم هذه المشاعر "يقصد المشاعر اليومية" وهذه الحياة فنيّاً، وأن ينقلها من حقل الكلام اليومي المتكرر والمستهلك إلى حقل الكلام الشعري الخصوصي والمتفرد في مساحة غنائية مظلَّلة بخلفية رومنتيكية (نهلستية). لقد حقق االماغوط التوافق الخلاق ما بين التقنية والتجربة الداخلية (المضمون). فالتقنية تستمدّ ملامحها من حقل الكلام اليومي، وهذا ما يفسر الألفة والدفء في جملة الماغوط الشعرية".5. ابن منظور: لسان العرب، مركز الموسوعات والكتاب، تونس، ط 1،2006،ج7، ص: 29، (مادة شبه).6. الباشا العيادي: البلاغة الواضحة، دار محمد علي الحامي، ط2، 2002، ص: 105.7. جابر عصفور: الصور الفنية في التراث النقدي والبلاغي، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص: 112.8. يحي بن حمزة اليمني العلوي ت745: المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق اعجاز، دار الكتب العلمية، بيروت 1980،ج1، ص: 326.9. محمد الماغوط: الآثار الكاملة، دار العودة (دت)، ديوان الفرح ليس مهنتي، بيروت، قصيدة الوشم، ص: 283.10. نفسه، ص: 285.11. قصيدة القتل، ص: 81.12. نفسه، ص: 82.13. القتل، ص: 84.14. الماغوط: ديوان الفرح ليس مهنتي، قصيدة المصحف الحجري، ص: 243.15. الماغوط: ديوان الفرح ليس مهنتي، قصيدة الوشم، ص: 283-284.16. الماغوط: ديوان الفرح ليس مهنتي، قصيدة الوشم، ص: 283.17. الماغوط: ديوان الفرح ليس مهنتي، قصيدة سلمية، ص: 239.18. الماغوط: ديوان غرفة بملايين الجدران، قصيدة أوراق الخريف، ص: 106.19. نفسه، ص: 107.20. نفسه، ص: 109.21. محمد لطفي اليوسفي، لحظة المُكاشفة الشّعر الإطلالة على مدار الرّعب، الدار التونسيّة للنشر، 1992. ودار سراس للنّشر، 1998، ص: 15.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها