القصة البوليسية وكِبارُ كُتابها

تاريخ حافل وحاضر خجول

د. مفيده سليمان عبدالله

رغم الانتشار الواسع الذي حققته القصة البوليسية بين مختلف شرائح القراء، فقد رفض الكثير من النقاد إدراجها في سجل الأدب الرسمي، باعتبارها تفتقد إلى مقومات الأدب الجاد؛ ولأنها كتبت بهدف تسلية القراء لا غير.
 

وتتميز القصة البوليسية بعلاقة التحدي بين القارئ والمؤلف، فالكاتب يبالغ في ستر الجاني ليفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة بظهوره، بينما يحاول القارئ الكشف عنه قبل ذلك، لهذا السبب هي قصة لا تقرأ سوى مرة واحدة؛ لأن بعد كشف الجاني تفقد القراءة عنصر التشويق، الذي هو أهم عناصر جاذبية ذلك النوع من القصص.
ومن أهم أسباب انتشار القصة البوليسية أنها غير طويلة؛ أي يمكن قراءتها في ساعات محدودة في يوم واحد، وهي قصة غير معقدة فلا يحتاج قارئها إلى ثقافة واسعة لفهم معانيها، إضافة إلى ثمنها الرخيص، والسبب أنها تطبع بأعداد كبيرة على ورق رخيص.
 

 ادغار آلان بو 

يعد الكاتب الأمريكي آدغار الآن بو (1809-1849) من رواد كتاب القصة البوليسية في العالم، وقد كتب في هذا المجال قصصاً قصيرة فقط، دون الرواية. والسبب أن هذا الفن كان في بدايته، وكان بو ينشر قصصه البوليسية في الصحافة التي كانت تطالبه بهذا النوع من القصص لإقبال القراء عليه. فكان (الآن بو) يعمل على المبالغة في تشويق القراء لجذبهم إلى متابعة الجريدة التي يكتب بها، لهذا كانت قصصه مليئة بالأحداث الغريبة، ولم تخل من جرعات الرعب أحياناً. فالكتابة كانت العمل الوحيد لـ بو، وكان يريد الحصول على المال بأي طريقة ممكنة.
 

✧ آرثر كونان دويِّل 

لا شك في أن آرثر كونان دويل (1859-1930) من أهم كتاب القصص البوليسية، وهو مبتكر شخصية المحقق (شارلوك هولمز) الشهير، الذي فاقت شهرته شهرة المؤلف نفسه، فالكثيرون يعرفون هولمز ولكن لا يذكرون اسم المؤلف! والغريب أن (دويل) لم يرغب بالاستمرار في كتابة مغامرات هولمز للتفرغ لكتابة الروايات التاريخية التي كان يعلق عليها آمالاً كبيرة في أنها ستجعل منه كاتباً كبيراً، ولكن هذا لم يحدث، فلا المختصون ولا القراء يذكرون تلك الروايات التي باتت منسية تماماً.

وليتخلص من شخصية هولمز قتله في إحدى مغامراته، ولكن تحت ضغط القراء، وإلحاح الناشرين، كتب مغامرات جديد لـ"هولمز"، وظل يكتبها حتى توفي المؤلف نفسه.

ومن الجدير بالذكر أن المؤلف (دويل) جعل صديق هولمز ومساعده (واطسون) يقوم بدور الراوي في الروايات كلها، وكان يتحدث عن شدة ذكاء هولمز ودقة ملاحظته، لدرجة أنه يستطيع تحليل شخصية أي رجل لم يره من قبل من خلال النظر إلى قبعته، أو تأمل معطفه، أو التجول في المنزل الذي يعيش فيه، وذلك من خلال آثر بسيطة لا يؤخذ بعين الحسبان.

وهولمز محقق غريب الأطوار، وبعيد عن الحياة الاجتماعية، لهذا يفضل البقاء بمفرده ليعزف على آلة الكمان التي برع فيها.

والغريب أن هولمز يجد أن القانون لا يحقق العدالة دوماً؛ لهذا قد لا يكشف عن بعض المجرمين الذين قاموا بجرائم لها ما يبررها برأيه، وذلك كي تأخذ العدالة مجراها الطبيعي.
 

✧ آغاثا كريستي 

كل كتاب القصص البوليسية من الرجال، وتنفرد الكاتبة البريطانية آغاثا كريستي (1891-1979)؛ بأنها المرأة الوحيدة التي سجلت اسمها في مدونة الأدب البوليسي، ككاتبة كبيرة نافست الرجال وتفوقت عليهم.

وتعد روايات وقصص كريستي من أهم ما كتب في الرواية البوليسية لخلوها من المبالغات الفجة، ولاعتمادها الأسلوب الواقعي في معالجة موضوعاتها، إضافة إلى أفكارها المبتكرة.

وكريستي مبدعة شخصية المخبر البلجيكي بوارو، الذي يفاجئ الجميع باكتشاف الجاني باعتماده على أدلة بسيطة لم ينتبه إليها رجال الشرطة. وشخصية مس ماربل التي تستطيع كشف أسرار أكثر الجرائم غموضاً، وهي جالسة على كرسيها وذلك من خلال جمع الأحداث ومقارنتها فيما بينها.
 

✧ جورج سيمنون 

يمتاز الكاتب البلجيكي جورج سيمنون (1903- 1989) بعنايته بتحليل الشخصيات من الناحية النفسية، وهذا ما أضفى على قصصه قيمة أدبية لا تنكر. وعلى الرغم من ذلك لا يعد من كتاب القصة البوليسية الأكثر شهرة في العالم، كذلك لم تحقق شخصية المفتش (ميغريه) التي ابتكرها شهرة المفتش هولمز!
 

✧ موريس لبلان 

أما الكاتب الفرنسي موريس لبلان (1864- 1941) فيمتاز بأن له أسلوبه الخاص في كتابة القصة البوليسية، فقد ابتكر شخصية (آرسين لوبين)، وهي الشخصية الوحيدة المحبوبة والمشهورة في الأدب البوليسي، رغم أنها لا تعود إلى مفتش عبقري، إنه ببساطة رجل مغامر تساعده الصدف الكثيرة، وهو شخصية لطيفة أطلق عليه لقب اللص الظريف؛ لأنه يأخذ مال الأثرياء ليساعد الفقراء.

 

ختاماً؛ نذكر في القرن التاسع عشر حقق الأدب البوليسي أهم إنجازاته، ففي ذلك القرن ولد أهم كتابه، وحقق انتشاراً واسعاً بين عامة القراء، ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ هذا النوع من الأدب في الانحسار، ولم يحرز أي كاتب شهرة توازي شهرة أقرانه من رواد ومؤسسي القصة البوليسية.
ربما لأن كل النماذج للمفتش السري أو المجرم قد كتب عنها أكثر من قصة؛ لهذا بدأت دور النشر بإعادة طباعة الكتب القديمة إلى القراء. بالإضافة إلى أن السينما بتقنياتها الجديدة أخذت جمهور القصص البوليسية، وقصص الرعب أيضاً، وأصبح هواة قراء القصة البوليسية يفضلون مشاهدة الأفلام؛ لأنها أكثر تسلية وتشويقاً وإدهاشاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها