أنا أرسم بـ"التراث" ولا أرسم "التراث"

نجاة مكي: رحلة من الصلصال إلى الروح

أحمد العبد


في فضاء الفن التشكيلي الإماراتي، تقفُ الدكتورة نجاة مكي شامخة كشجرة نخيل باسقة، لا تُلقي ظلالها على من سبقوها، بل تُضيء دروب الأجيال القادمة. ليست مجرد فنانة، بل فارسة تُصارع صمت اللوحة لتُطلق منها نغمات الألوان وتُسخرها لبوح الروح. إنها من الرعيل الأول، الذي لم يدافع عن فنه فحسب، بل صاغ هويته بصلابة الإرادة ودفء الإلهام.
 

منذ بداياتها الأولى، حين كانت ألوان الزعفران والحناء والورس تُراقص مخيلتها في دكان والدها العطار، بدأت نجاة مكي رحلة البحث عن العمق في التعبير. لم تكن مجرد رسومات، بل خرابيش حية تروي حكايات الطفولة، وشخوصاً تُعبر عن تفاعلات نفسية أبعد من مجرد الشكل. هذا التشبع بالبيئة، بكل تفاصيلها من رائحة البحر وهمس الريح في الحواري الضيقة، ومن قصص الجدات وألوان أقمشة السوق، هو ما منح فنها صدقاً يُلامس الوجدان ويُلامس الأصالة.
 

نبض الوجود

تتخذ المرأة في أعمال نجاة مكي مكانة محورية، ليست كجنس، بل كرمز للوجود، للأمل، للصبر، وللقوة الصامتة التي تُحرك الحياة. هي لا ترسم المرأة ككائن منفصل، بل كـ"إنسان" تختزل فيه كل أبعاد الوجود. تقول بوضوح: "ليس في الأمر تعصبًا، ولكن المرأة قادرة على تحسس مشاكل المرأة. بريشتي أُعبر عن همومها وأحزانها وأفراحها". هذه الرؤية العميقة جعلت من المرأة في لوحاتها نخلاً شامخاً، وظلاً وارفاً، ونوراً يُضيء دروب المعرفة.

لوحاتها، التي تكتفي بالقليل المحدود من المساحات الطبيعية، تُركز على جوهر المرأة، مُظهرةً تفاؤلها وعنفوانها. إنها تُقدم المرأة المحاطة بالأمل والتفاؤل، لا تُضيف إلى لوحاتها سوى ما يُعزز هذا المعنى. في بعض أعمالها، يتجلى التعبير عن المرأة عبر التبسيط والاختزال في عناصر مثل الدائرة والبئر والمرأة ذاتها، لتُصبح هذه الأشكال رموزًا عميقة لمكامن النفس البشرية.

من الصلصال إلى الروح

رحلة نجاة مكي الفنية لم تكن مفروشة بالورود، بل كانت درباً صعباً نحتته بالإصرار والتحدي. كانت أول فتاة إماراتية تتجه لدراسة الفن التشكيلي في الخارج، وهذا القرار بحد ذاته كان ثورة في مجتمع يُقدّر العادات والتقاليد. لكن دعم المسؤولين ورؤيتها الثاقبة مكنها من الالتحاق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، لتبدأ رحلة صقل موهبتها أكاديمياً.

من النحت بالصلصال والجبس إلى استخدام الحجر والمعادن ومخلفات البيئة، ثم الانتقال إلى عالم التصوير بلوحاتها الغنية بالألوان والزخارف، كانت نجاة مكي في بحث دائم عن خصوصيتها الأسلوبية وهويتها الفنية. لم تتوقف عند حدود التقنية، بل وظفتها لتعميق المعنى. استخدامها لمواد مثل الحناء، الزعفران، الورس، وحتى عجينة الورق والخيش والشاش الطبي لم يكن مجرد تجريب، بل كان استحضاراً لروح التراث والبيئة في صلب التعبير الفني، ليكون الصدق هو جوهر العمل.

تتجلى خصوصيتها في أعمالها النحتية والتصويرية التي تُظهر انسيابية الخطوط وشاعريتها، وتركيزها على المرأة الخليجية بهمومها وطموحها. حتى في استخدامها لرموز مثل "الصواميل" بدلاً من العيون أو الدائرة المغلقة للفم؛ فإنها تُشير إلى قضايا عميقة تتعلق بتهميش صوت المرأة، وكأنها تُحول المعدن الصامت إلى صرخة فنية.

إيقاع اللون والزخرفة

تُبهرنا لوحات نجاة مكي بقدرتها على خلق حوار موسيقي بين اللون والشكل والنغم. إنها تُوظف الزخارف العربية والإسلامية لا كعناصر تجميلية، بل كجذور ضاربة في الوجدان الشعبي، تُعطي بُعداً تاريخياً وعمقاً ثقافياً لعملها. تجريديتها الصوفية في نهاية القرن الماضي، حيث غلب اللون الأزرق واختفت الأشكال الإنسانية لتحل محلها ضربات فرشاة كـ"شهب متساقطة"، تُشير إلى تطور رؤيتها نحو تجسيد عوالم أعمق وأكثر روحانية.

تجربتها الجريئة في استخدام الألوان الفوسفورية وعرضها في غرفة مظلمة عام 1987 لم يكن مجرد استعراض بصري، بل كانت دعوة للمشاهد ليُعيد اكتشاف الألوان في ظروف غير مألوفة، ليُدرك قوة النور المنبعث من العتمة. إنها تجربة تُثير الحواس وتُشعل الذاكرة البصرية، وتُبرهن على قدرتها على تجاوز المألوف وخلق تجارب فنية مُلهمة.

مسيرة لا تتوقف

من نيل شهادة الدكتوراه في فن العملات المعدنية عام 2001، إلى الحصول على جائزة الدولة التقديرية عام 2007، استمرت نجاة مكي في ترسيخ مكانتها كواحدة من أهم الفنانات في المنطقة. لوحاتها، التي تارة تُجسد أشكالاً إنسانية أكثر واقعية وتارةً تتلاشى في تجريد غنائي، هي مرآة لروحها المتأملة التي تُحاور البحر والصحراء، وتُجدد علاقتها بالتراث.

إنها فنانة لا تتوقف عن البحث والتجريب. شغفها بالفضاء كبعد رمزي، وتوظيفها للون لخدمة الأفكار المعاصرة، واستخدامها لمواد وتقنيات متعددة، كل ذلك يُعبر عن إصرارها على الوصول بفنها إلى أقصى درجات الكمال. نجاة مكي لم تُقدم فناً لوطنها فحسب، بل مدّت ريشتها لتلامس قضايا إنسانية وقومية كبرى، مثل فلسطين ولبنان والعراق والسودان، لتُثبت أن الفن لا يعرف حدوداً.

كما قال عنها الناقد عادل خزام: "ريشة صافية في جناح المدى، وأزميل من ماء يحفر في جدار الذاكرة". إنها بالفعل كذلك، فارسة حقيقية تُقدم لنا فناً يُلامس الروح ويُخلد الحاضر في صفحات التاريخ الفني. أما عن أبرز الجوانب في مسيرة الدكتورة نجاة مكي التي ألهمتني أكثر، ولماذا، فهي كالتالي:

تكمن الإلهام الحقيقي في مسيرة الدكتورة نجاة مكي في قدرتها على تجاوز التوقعات وصياغة هويتها الفنية بصلابة منقطعة النظير، لتُصبح رمزًا للصمود والإبداع في عالم الفن. هناك عدة نقاط محددة تُبرز هذا الإلهام:

ريادتها وثورتها الصامتة: ما يثير الإعجاب بشكل خاص هو كونها أول فتاة إماراتية تتجه لدراسة الفن التشكيلي في الخارج. هذا القرار في السبعينيات، في مجتمع كان يُفضل مسارات مهنية تقليدية للمرأة، لم يكن مجرد اختيار شخصي، بل كان فعلًا ثوريًا صامتًا يُرسخ لمفهوم جديد لدور المرأة في المجتمع وفي المجال الفني. تحديها للعادات والتقاليد، وإصرارها على متابعة شغفها بالرغم من رفض الأهل المبدئي، يُمثل قصة إلهام حقيقية عن الشجاعة والمثابرة في تحقيق الذات، وفتح الأبواب للأجيال اللاحقة. إنها لم تنتظر الإذن، بل خلقت مسارها الخاص، وهذا هو جوهر الريادة.

دمج الأصالة بالمعاصرة بعمق فلسفي: ليست نجاة مكي فنانة تُقلد المدارس الغربية أو تلتصق بالتراث بشكل جامد. ما يُلهم هو قدرتها الفريدة على صهر الأصالة الإماراتية والعربية في بوتقة المعاصرة العالمية بوعي فلسفي عميق. استخدامها لمواد مثل الحناء والزعفران والورس، ليس مجرد إضافة عناصر بيئية، بل هو استحضار لروح المكان والزمان، لجعل اللوحة تتنفس رائحة الأرض والتاريخ. عندما تقول: "أنا أرسم بالتراث" ولست "أرسم التراث"؛ فإنها تُشير إلى تحويل التراث إلى أداة تعبيرية حية ومتطورة، وليس مجرد موضوع جامد. هذا العمق في التعامل مع الهُوية يُظهر فهماً فريداً للعلاقة بين الجذور والإبداع المستقبلي.

المرأة كرمز للوجود لا كصورة نمطية: تركيزها على المرأة، وتصريحها بأنها "قادرة على تحسس مشاكل المرأة"، يرفع من قيمة هذا التركيز من مجرد التفضيل إلى بيان فني واجتماعي عميق. إنها لا تُقدم المرأة ككائن ضعيف أو مفعول به، بل تُجسدها كـ"نخلة باسقة" وكـ"لون بكل ما فيه من قوة وكثافة وعنفوان". استخدامها للرموز في نحت المرأة، مثل "الصواميل" كعيون، يُمثل تعبيرًا فنيًا جريئًا عن قضايا التهميش أو عدم القدرة على التعبير، مُحولةً المواد الجامدة إلى صرخة إنسانية تُثير التفكير وتُحفز الوعي. هذا الالتزام بقضية المرأة، وتقديمها بعمق فني ورمزي، هو جانب ملهم للغاية.

التجريب الجريء والبحث المستمر: إن مسيرتها الفنية ليست ثابتة، بل تتسم بـ"التطور المستمر والتجريب الجريء". من النحت إلى التصوير، ومن استخدام المواد التقليدية إلى الألوان الفوسفورية. تُظهر نجاة مكي شغفًا لا يتوقف بالبحث والتطوير. تجربتها في عرض اللوحات الفوسفورية في غرفة مظلمة لم تكن مجرد خدعة بصرية، بل كانت محاولة لتقديم تجربة بصرية مغايرة تمامًا تُثير حواس المتلقي وتُجبره على إعادة تعريف العلاقة بين الضوء واللون والوعي. هذا الاستعداد للمخاطرة الفنية، وكسر القواعد المألوفة، يُمثل دافعًا قويًا لكل فنان للبحث عن صوته الخاص.

في جوهرها، تُلهم مسيرة الدكتورة نجاة مكي؛ لأنها تُجسد الفنانة الحقيقية التي لا تخاف أن تُغوص في أعماق ذاتها وبيئتها، لتُخرج منها فنًا أصيلاً يُخاطب الروح الإنسانية في كل مكان وزمان، مُمهدةً الطريق أمام أجيال قادمة من المبدعين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها