عُشْبُ المعاناةِ في شعر المقالح

د. عبده منصور المحمودي


تقوم الحياةُ البشرية -في جوهرها- على متغيراتٍ متباينةٍ ومتناقضةٍ، منها ما يبلغ أثرُه مدىً بعيدًا من الإيلام النفسي في الذات الإنسانية؛ فيتوالد فيها معاناةً متفاوتةً في مستوياتها؛ تبعًا لتنوّع بواعثها، وتراتبية آثارها وتداعياتها. وإذا كانت للمعاناة انعكاساتُها الإيجابية -في حياة الإنسان العادي- بعد معايشته تجاربَ حياتيةٍ قاسية، تعود عليه بخبراتٍ كافيةٍ؛ للتعاطي مع تجاربه الجديدة. فإن المعاناة في حياة الإنسان الشاعر -على تلك الإيجابية- تُعدُّ رافدًا مهمًّا من روافد تجربته الشعرية؛ حيث تظهر تجلياتٌ منها في لوحاتٍ دلاليةٍ، على بساطٍ من الشعرية النصّية.
 

وقد كان هذا الرافد الإنساني واحدةً من خصائص تجربة الدكتور عبد العزيز المقالح الشعرية؛ حيث اتَّسَمتْ كثيرٌ من نصوصه باشتغالها على تشعيرِ معطياتِ حقولٍ دلاليةٍ بمعاني الأسى والمعاناة. يأتي ـ في صدارة تلك الحقول ـ حقلُ النبات، بما للماء فيه من دورٍ رئيسٍ في حيويته واخضراره. وهو ما تسعى إلى الوقوف على بعضٍ منه هذه المقاربة النقدية.

 

إيراقٌ بالدمع والنار

انتقلت شعرية المقالح بالمعاناة من فضائها الذهني التجريدي، إلى حقل النبات واخضراره النابض بالحياة؛ فاكتسبت -المعاناة بذلك- خصائص هذا الحقل، وأورقت وأثمرت مثله، بعد أن اتّخذت من الدمع والنار ماءً لها. من ذلك، قول الشاعر في حالِ مُغَرَّبٍ عن وطنه:
بَكى.. فأورقتِ الأشجانَ أدمعُهُ .. وأثمرتْ شجرَ الأحزانِ أضلعُهُ

فالأشجان -هنا- كائنٌ نباتي، أورقت أغصانُه بعد ريّها بدموع المحزون. كما عاشت (شجر الأحزان) على نارٍ متّقِدةٍ في ضلوع المُنْكَسِر بأحزانه؛ فنضجت بتلك النار ثمارُها الخاصة، غير البعيدة عن جوهر المعاناة، المتنامي في الذات الممزقة بالأسى والشجن. لقد كانت معاناة الغربة -تحديدًا- هي المدد الرئيس، في النص الشعري الذي ورد فيه هذا البيت؛ حيث كان نسقُ النص مترعًا بإحالاته على الاغتراب، وأحزانه الفاتكة في الذوات الإنسانية البعيدة عن أوطانها، وأثره البالغ في تعذيبها وإغراقها بعالمٍ من الحزن المرير.

وفي هذا النسق من المعاناة، أحال هذا البيت على الحال المعذبة بالغربة؛ من خلال الارتباط الفني بين الحقلين: (النبات/ المعاناة)، الذي تَجَسَّد في حال (الإيراق). وهي حالٌ كثيرةُ الحضورِ في شعرية المعاناة، التي وظّف المقالح معطياتِ النبات في استيعابها. حيث امتد ـ أثرُ هذه الحال ـ إلى ما يحيط بالذات الحزينةِ، من كائناتٍ حيّة ومكوناتٍ جامدة، كأن تأتي حالُ الإيراق سمةً من سمات الشوارع، في قول الشاعر:
"أورق حزنُ الشوارع"، جـ2/ص198.

فقد أسقطت الذاتُ الشاعرة أحزانَها على الشوارع، من خلال عاطفة الحزن المشتركة بينهما، في سياقٍ شعري، تنامت فيه مشاعرُ الحزن المزدوجة (حزن الإنسان/ حزن الشوارع)، ازدواجًا استَوْعَبَتْه حالُ الإيراق، التي جسدت التماهي الشعري بين الحقلين.

 ومثل ذلك، ما جسّدته حالُ الإيراق من تماهٍ بين الحقلين، في الصياغة الشعرية لموقفٍ تنامت فيه تداعياتُ الموتِ والحزن، حول جسدٍ عائدٍ من الموت، في قول الشاعر:
"يا جسدًا أورق الموت والحزنُ
من حوله
لا رماكَ الهلاكْ"
جـ1/ ص: 543.

وكما رُويت الأحزانُ بالدمع حتى أورقت في شعر المقالح، فإنها قد أورقت، بعدما شربت ماءَها نارَ حزنٍ وألم، في مثل قوله:
"تورق الأحزان في النار فتخضر الشجون"، جـ3/ ص: 245.

لقد أفرغتْ شعريةُ النص ـ هنا ـ النارَ من طبيعتها التي جُبلت عليها (إحراق ما يُلقى فيها)، وأضفت عليها سمةً مناقضةً لطبيعتها تلك؛ حيث صارت ماءً لما يُلقى فيها من أحزانٍ وأشجانٍ أورقت واخضرّت أغصانُها بعد أن شَربَتْ منه. كما تضَمّنتْ هذه المفارقةُ نوعًا من التعاضد والتآزر، بين عاملي المعاناة (النار/ الحزن)؛ حيث كان كل واحدٍ منهما فاعلًا في بقاء الآخر، لا فاعلًا في فنائه والإجهاز عليه.

دورةُ نباتِ المعاناة

في شعرية المعاناة المنسوجةِ بدلالاتِ الخضرة ومعانيها، يظهر تكاملٌ في تراتبات الطبيعة النباتية ومراحل دورتها الحياتية؛ حيث كانت المرحلة الأولى من الطبيعة النباتية (البذر/ الزرع)، هي المرحلة الأولى من المراحل التي مرت بها المعاناة، في مثل قول الشاعر، متسائلًا:
"فلماذا تزرعُ الحزنَ خطانا؟"، جـ3/ ص: 228.

يبدأ الحزن -في هذه الجملة الشعرية- مرحلته العمرية الأولى، متجانسًا من خلالها مع النبات. كما يرتبط فعْلُ زَرْعِ الحزن ارتباطًا ذاتيًّا بـ(الشخص/ الشاعر) الحزين؛ على اعتبار أن خطواته هي التي تزرعُ -في حياته- أحزانه وأشجانه، التي تنمو مُتَّسِقَةً مع المرحلة التالية، من مراحل دورة الحياة النباتية (الإيراق/ العشب)، كما في قول الشاعر:
"آهِ حزني عليه
حزنَ مَنْ يعشبُ الحزنُ
في جفنهِ..."
جـ3/ ص: 709.

 فمعاناة الحزن، لم تقف عند طبيعته الوجدانية، وإنما ارتقت به إلى مستوىً متقدمٍ من الشعور والمعنى المؤلم، الذي تموضع في حقلِ الاخضرار الطبيعي، فتجانس مع خصائصه؛ حيث ينمو الحزن وتنمو المعاناة أعشابًا محفوفةً بالدمع.

ويتنامى تجانسُ المعاناة مع حقل النبات، الذي تماهت فيه، حتى مرحلةٍ تاليةٍ من عمر النباتات، مرحلة (النضج والثمر). وهي المرحلة ذاتها -شعريًّا- التي يصل إليها نبات الحزن، حيث تثمر معاناةُ الحزنِ حول عيني الشاعر، وهو بين يدي مدينة صنعاء، يخاطبها بعاطفةٍ مثخنةٍ بالبكاء:
أألَامُ يا أمَّاهُ إن يَبسَتْ ... عيني، وأثمر حولها الشجنُ؟، جـ3/ ص: 39.

إن المعاناة التي انتقلت بها شعرية المقالح إلى حقل النبات، قد تمثّلتْ خصائص هذا الحقل، فشملتْها خصائص نموه بمراحل دورته الحياتية كلها، باستثناء المرحلة الأخيرة منها (مرحلة الذبول). حيث تحيلُ هذه المغايرة بين الحقلين (الطبيعي/ والنفسي) ـ في فضائها الإنساني العام ـ على خلود المعاناة البشرية؛ إذ لا يصل شكلٌ من أشكالها إلى المرحلة الأخيرة التي يصل إليها النبات (مرحلة الذبول). كما تحيل هذه المغايرة ـ في فضائها اليمني الخاص ـ على حالٍ من استمراريةِ المعاناة والحزنِ في حياة الشاعر، امتدادًا لديمومتها في حياة الإنسان اليمني، بما في ذلك من رمزيةٍ إلى تنامي بواعث المعاناة واخضرارها، وكذلك تنامي عوامل ديمومتها في الواقع اليمني على شتى مناحيه الاجتماعية والسياسية والثقافية. وتأسيسًا على ذلك؛ كان حقلُ النبات -بخصائصه ومراحل دورته الحياتية كلها، باستثناء مرحلة الذبول- أكثر تواؤمًا مع طبيعة المعاناة وتناميها المطّرد.

المعاناة ماء

استمدّتْ المعاناةُ ديمومتَها من دمع الذات المعذبة ونارها، متماهيةً بذلك مع حقل النبات. ثم وصلت ـ في تطورٍ فنيٍّ ـ إلى مستوىً من ذاتيةِ التماهي، بعدما تماهت مع الماء الطبيعي ذاته، واضطلعت بوظيفته في أحوالٍ شعرية متعددة؛ حيث كان لها ماؤها الخاص، الذي تضمّنَه واحدٌ من دواوين المقالح، ديوان "بلقيس وقصائد لمياه الأحزان"، كما تضمّنهُ بعضٌ من عناوين نصوص الديوان ذاته، من مثل النصّين: "أشجان مائية"، جـ1/ص: 233، و"خمس قصائد لمياه الأحزان"، جـ1/ ص: 237، اللذين تتجلى فيهما شعريةُ المعاناةِ متوهجةً بسرياليةٍ ناضحةٍ بالشجن.

ولم يقتصر هذا المنحى ـ من شعرية المعاناة ـ على هذا الديوان من شعر المقالح؛ وإنما كان له حضوره في مواضع كثيرةٍ، من مثل قول الشاعر:
"حين عدتُ كان محبوبي هنا
في الدار..     
يشربُ حزني"
، جـ3/ ص: 139.

إن ريَّ الظمآن هو التجلي العملي لأهمية الماء في حياة شاربه، وهنا يكتنز النص مرارةَ الغيابِ والغربة، التي صاغ الشاعر من أحزانها ماءً، بعد أن أضفى على الحزن سمةً جديدةً ليست من خصائصه ولا من سماته، هي قدرتُه على تجاوز المسافات تجاوزًا شعريًّا؛ حتى يصيرَ هو وسيلة اتصالٍ بين الحبيبين المتباعدين، وحين عاد المغرّب في الأرض إلى ديار محبوبه، وجَدَهُ يشرب حزنَه (حزن الشاعر).

وإذا كان المحبوب هو مَنْ يشرب ماءَ حزن الشاعر ـ في هذا التجلي الشعري، وإحالاته على المشاركةِ الوجدانية بين الشاعر وبين محبوبه، في احتساء المعاناة والحزن والألم ـ فإن عين الشاعر هي مَنْ يفعل ذلك، في قوله:
"شربتْ عيني ماءَ الحزن"، جـ2/ ص: 496.

حيث جاءت المعاناة ـ هنا ـ على هيئةِ ماءِ حزنٍ، كانت العين هي مَنْ يشربُه. وفي سياق المعاناة ـ هذا ـ تُشِعُّ ماضويةُ الصياغةِ بعلاقةٍ دلاليةٍ ضمنيةٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل، يمكن استشفافُها من سياق النص وإحالاته على استمرارية المعاناة، وديمومة عذاب الذات الشاعرة.

ومن الصور التي جاءت عليها صيرورةُ المعاناة ماءً، تلك الصورة التي تتشكّلُ فيها المعاناةُ ماءَ غيمةٍ، في سماء الذات (الشاعرة/ المعذبة)، كما في قول الشاعر:
"يا أيُّها الغامِضُ
صمتكُ العاري يهزُّني
يوجعُني
يحملُني في غيمةٍ مِنَ الأحزان"
، جـ3/ ص:521.

لقد تحولت المعاناةُ، التي تضمّنها مفهومُ الحزن -هنا- من طبيعتها الذهنية المجردة، إلى طبيعتها المادية الجديدة (غيوم). ومن خلال هذا التحول الجوهري، أحال السياقُ الشعري على كثافةِ المعاناةِ، واستمراريتها في الحيا اليمنية؛ استهلالًا بتكاثفها غيومًا في آفاق الوطن وعلى وجوه أبنائه، ومن ثم امتدادها في تفاصيل حياتهم، واشتراطات بقائهم. ومثل ذلك، هي المعاناةُ التي تشكّلتْ غيمةَ حزنٍ، حملت الشاعرَ، إلى أوجاعِ صاحبه وآلامه؛ ثم هطلت مطرًا حينما التقى به:
"حين رآني بكى
هطلتْ غيمةُ الحزنِ بينَ يديهِ"
، جـ3/ ص: 610.

كما تأتي المعاناة على هيئة ماءَ حزن، في اضطلاعها بواحدةٍ من وظائف الماء العملية، وظيفة الاستحمام، وما يتعلق بها من إحالةٍ فلسفيةٍ على رؤيةِ أرسطو في تطهير الذات البشرية بالحزن والخوف. من ذلك، ما في هذا التجلي الشعري، الذي أدخل اللهُ فيه الشاعرَ غرفةً، خصائصُها متسقةٌ مع فضاءِ الرؤية الشعرية التطهيرية:
"وأدخلني غرفة من حروفٍ رماديةٍ
تستحم بأحزانها.."
، جـ2/ ص: 256.

وقد تتخذ شعريةُ المعاناة ـ ذات الصيرورة المائية في شعر المقالح ـ من البحر ـ بماهيته المائية ـ هيئةً لها؛ فتستوي بحرًا يموج بماء الحزن، في مثل قوله:
"جئناك في بحرٍ من الأحزان". جـ3/ ص: 191.

أو تستوي معاناةُ الشاعر لليأس بحرًا، فتحمله فيه سفنُ الحزن، راحلةً به في المجهولِ، من فضاءات الأسفار والاغتراب، فيقول:
"أرحل في سفنِ الحزن، تحملني في بحارٍ من اليأس". جـ2/ ص: 637.

لقد اكتنز استئناسُ المقالح بالماء ـ في شعرية المعاناة ـ مسحةً من الإيحاء بأن الحياة في رؤيته متشكِّلةٌ من ماهيةِ المعاناة، فالماء جوهر الحياة؛ بوصفه أهم عنصرٍ فاعلٍ في استمرارها. واتساقًا مع ذلك ـ شعريًّا ـ فهو عنصرٌ جوهريٌّ وفاعلٌ في ديمومة المعاناة، مثلما هو فاعلٌ في ديمومة الحياة الإنسانية.

ومن جهةٍ أخرى ـ كان هذا الاستئناس ـ تجانسًا موضوعيًّا مع حقل النبات، لما للماء من مركزيةٍ فاعلةٍ في حيويته. كما جسّد تعاطي الشاعر مع المعاناة ـ استئناسًا منه بهذا الحقل ـ ما وصل إليه النباتُ والطبيعة الخضراء، من حظوةٍ ومكانةٍ، في تجربته الشعريةِ، الثريةِ بمعطياتِ هذا الحقل الطبيعي. ليس في شعريةِ المعاناة والأسى فحسب، وإنما في سياقاتٍ شعريةٍ متعددة، احتفظتْ فيها الخضرةُ بمعانيها الجميلة. على غير ما هي عليه الحال، فيما يتعلق بشعريةِ المعاناة، التي استوعبتْها الطبيعةُ النباتية؛ والتي أفرغتْها المعاناةُ من معاني جمالها واخضرارها، وأحلّت محلها دلالاتٍ متجانسة مع جوهر المعاناة؛ لذلك، أحال النبات على معاني الحزن والألم والعذاب الإنساني، لا على معاني جماله واخضراره.




عبد العزيز المقالح، "الأعمال الشعرية الكاملة"
إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها