السّينما المغربية والتعبير عن فضاء الصحراء

د. محمد فاتي


الصحراء هي امتداد جغرافي يغطي مساحة شاسعة، تعرف ندرة في الغطاء النباتي ويقل فيها الماء، وتتضاءل فيها التساقطات المطرية، وتصعب فيها شروط الحياة. وتملك بعض الحيوانات والنباتات خصوصيات جينية تمكنها من الصبر على شدة حرارة الصحراء، وتحمل أشعة الشمس الملتهبة، والبقاء طويلا دون ماء أو مطر. ونظراً لصعوبة هذه الخصوصيات الطبيعية والمناخية، فإن ترحال الإنسان لهذه المناطق مرتبط بمدى توفرها على بعض الشروط الدنيا للحياة، ومدى ملاءمتها لرغبته في الاستقرار، خاصة إذا علمنا أن أغلب من يتوافد على هذه المناطق هم من البدو الرحل الذين يبحثون عن الكلأ والمراعي لماشيتهم وإبلهم، القادرة على الصبر مع هذه الظروف القاسية.
 

أما السياح والفنانون، فيزورون المناطق الصحراوية نظراً لجاذبية رمالها وجمالية أشعتها، وسحر كثبانها ورنين رياحها، حيث تتفاعل داخل حقلها مؤثرات طبيعية وفيزيائية، سمعية وبصرية، تغري المهووسين بشتى أنواع الإبداع والمغامرة: البحث عن السراب، استدراج الألوان، انبلاج الصبح، شيوع الضوء، سطوة الليل، تمايزات الشروق والغروب، تقلبات الرياح والعواصف والزوابع الرملية، امتدادات الكثبان والعروق، محاولة حصر الفراغ، تلاشي الغبار في السماء المضيئة وتشكيل حزم الضوء Fuseauxالمبهرة.

وتتعدد الفنون التعبيرية التي تستلهم من الصحراء مادتها الخام في تشكيل الأعمال الإبداعية. فإلى جانب الأدب نجد العديد من الفنون، خاصة البصرية منها، التي تنتقي موضوعها من الصحراء وعوالمها المبهرة، كالتشكيل والفوتوغرافيا، والإشهار والتلفزيون والسينما...إلخ. فقد استلهم التشكيليون أعمالهم الفنية من ألوان الصحراء، والنقوش الصخرية.... ورسموا الرجال الزرق الملثمين، والجمال في كافة أوضاعها، وقوافل التجار... وبحث الفوتوغرافيون عن مكامن الجمال الثاوية داخل الفضاء الصحراوي، وتدرجات الضوء الطبيعي المنعكس على التضاريس... أما في مجال الأدب فلا يمكن تصور الشعرية العربية دون استحضار الصحراء كفضاء وكمتخيل، عبر بنية رمزية مكثفة تضع الإنسان في عمق توجهاتها، من خلال رصد حالات الشخوص الميتافيزيقية، والبحث في بواطن نفسه، والتعمق في صراعاته وعلاقاته بذاته وبالفضاء والكائنات والأشياء الدائرة في فلك الصحراء.

الأمر نفسه ينطبق على السينما، التي سعت، منذ نشأتها إلى تمثل هذا الفضاء الجدب، ورصده من خلال المشاهد الفيلمية التي تركز على جمالية المكان، وفتنة الزمان، ورمزية الكثبان. فالصحراء في السينما ليست حيزاً صامتاً وكياناً جامداً، فقط، بل هي مرتع إيحائي يبوح بمجموعة من الأسرار النفسية والفكرية والاجتماعية المرتبطة بالشخوص وعلاقتهم بالفضاء، والصراع الدرامي الذي يجري في هذا المعترك.. ويستفيد المخرج السينمائي، كثيراً، من الإمكانيات الجمالية التي يزخر بها هذا المكان. فرغم أرضها اليابسة، ومناخها الجاف، وحالة القفر والقحط التي تعرفها، إلا أنها غزيرة من حيث ديكوراتها الفنية التي تحفز السينمائيين على استثمار جمال رمالها الناعمة، وبهاء أشعتها الذهبية، ورونق هضابها المنعرجة، ونسيم رياحها العطرة، وصفاء ليلها المنير.

السينما المغربية وتمثلات الصحراء

كان تعامل المخرجين المغاربة مع الصحراء ضئيلاً ونادراً، رغم أن الصحراء تمثل مساحة جغرافية واسعة وشاسعة في المغرب، ورغم أن هذا الفضاء الجغرافي يتوفر على استوديوهات ومواقع عالمية (في ورزازات بالخصوص) استغلها كبار المخرجين العالميين. وهذا راجع بالأساس إلى أسباب مهنية وتقنية واقتصادية: كانعدام المهنيين والحرفيين السينمائيين في هذه الأمكنة، غياب شركات الإنتاج الكبرى، قساوة المناخ ووعورة التداريس، قلة الموارد المادية والمالية.. إلخ. ومن أبرز المخرجين المغاربة الذين افتتنوا بالصحراء وأعجبوا ببهائها واستثمروا سحر كثبانها، نذكر: المخرج داود ولاد السيد في أفلام: "طرفاية.. باب البحر" - "في انتظار بازوليني" - "الجامع"، ونبيل عيوش في فيلمه "مكتوب"، وسعد الشرايبي في فيلمه "عطش"، وعبد القادر القطع "الباب المسدود"، وفريدة بورقية "زينب زهرة أغمات"، وإسماعيل فروخي "الرحلة الكبرى"...إلخ.

كما أصبحت بعض المدن الصحراوية المغربية قبلة لرواد السينما من مختلف بلدان العالم، وخاصة: ورزازات، أرفود، زاكورة، مرزوكة، الراشدية، طرفاية، كلميم...واشتهرت العديد من الأفلام العالمية التي صورت في هذه الأماكن نذكر منها: (عشتار) 1985 للمخرج الأمريكي إلين ماي، (جزيرة الكنز) 1986 للمخرج الإيطالي راول رويز، (kundun) 1996 لمارتن سكورسيزي، (المهمة الأخيرة) 1994 للمخرج روبرت انريكو، وفيلم (مريم الناصرية) 1996 للمخرج جان ديلانوي، وفيلمي (المصارع) 1999 و(مملكة السماء) 2005 لريدلي سكوت، فيلم (بابل) 2006 لألخندرو جونزاليس ايناريتو، وفيلم (astérix ,obélix, mission cléopatre)للمخرج أليان شبات.
 

فيلم باب البحر

باب البحر (طرفاية) هو فيلم مغربي من إخراج داود أولاد السيد سنة 2004، وبطولة كل من ثريا العلوي، محمد البسطاوي، محمد خيي، وآخرين. قصة الفيلم مقتبسة من رواية الكاتب المغربي يوسف فاضل (حشيش) والتي دارت أحداثها في منطقة المضيق بشمال المغرب، لكن المخرج قام بتحوير في الرواية فجعل وقائعها تجري في منطقة طرفاية، جنوب المغرب. موضوع الفيلم مرتبط بالحلم في الهجرة، والرغبة في مفارقة الحدود، وبطلته هي (مريم) التي قدمت من مكان بعيد بهدف العبور إلى الفردوس المفقود: جزيرة لاس بالماس الواقعة بجزر الخالدات. فتجتاز بذلك مجموعة من المحن واللحظات الصعبة في سبيل تحقيق هدفها، وتلتقي بمجموعة من الأشخاص على اختلاف طباعهم، وتتعرض لمختلف أنواع المضايقات والابتزاز والتهديد.

الشيء الجديد الذي جاء به الفيلم، هو طبيعة المجال الذي اختاره الأبطال في سبيل العبور إلى الوجهة الأخرى. فأغلب الأفلام التي عالجت هذه الظاهرة في المغرب، اختارت منطقة شمال المغرب، نظراً لقربها من أوروبا، ونظراً للحظوظ الكبيرة في نجاح المهمة في هذا الحيز. غير أن داود أولاد السيد اختار فضاء يقع في الصحراء الجنوبية للمغرب، ويطل على المحيط الأطلنتي، فتحول الحلم إلى وجهة أوربية أخرى مطلة على هذه المنطقة: جزر الخالدات التابعة لإسبانيا.

فالصحراء هنا هي فضاء للعبور، وقاعدة للمرور. هي موقع استراتيجي للبحث عن لقمة العيش في وجهة أخرى، حيث مدينة الرؤى والأحلام، حيث موقع الفردوس الذي يغري بالقدوم، حيث الأمل في العمل والعيش برفاهية وسلام. وطرفاية هنا هي جسر ومفترق طرق بين مجالين متناقضين: مجال الواقع المعاش، حيث البؤس والقهر والفقر والبطالة، ومجال الحلم المرغوب فيه، حيث الكرامة والحرية والسعادة والعمل.

والمخرج داود يهتم كثيراً بالفئات الشعبية المسحوقة في أفلامه، ويلقي الضوء على الأماكن المهمشة في المغرب، خاصة المناطق الصحراوية: زاكورة، وورزازات (كما في فيلميه الآخرين: في انتظار بازوليني، والجامع)، لهذا اختار المخرج من منطقة صغيرة ونائية في الصحراء مكاناً أساسياً للأحداث. وهو موقع سحري، مليء بالكثبان الرملية الذهبية، والأراضي الواسعة والممتدة، والحرارة المرتفعة والملتهبة، والشمس المشرقة والساطعة، والليالي الصافية والمنيرة. بالإضافة إلى طابعه المهجور والخالي، وحيزه المطوق بالرمال، وتضاريسه الوعرة والصعبة. أما المساكن والمباني فهي ضئيلة فيه، ولا نرى -في الفيلم- إلا بقايا الأطلال وبعض المنازل الشعبية البسيطة والعتيقة، والتي خلقت لوحة فنية مبهرة بألوانها التي يطغى عليها اللون الأزرق الصحراوي، بجدرانها الصامدة في وجه قسوة العيش والظروف الطبيعية، بأشكال أبوابها ونوافذها وأقواسها، فضاء جميل بشاطئه الأطلسي الجنوبي، وبالسيارات القليلة التي تنير الظلام ليلاً وتخترق الرمال للوصول إليه نهاراً.

غير أن الملاحظة التي يمكن أن نسائل بها الفيلم، هي تعامله مع الصحراء كوسيلة وليس كغاية فنية في حد ذاتها. فالبيداء هنا هي ممر وطريق ومعبر للوصول إلى مجال جغرافي آخر يمثل الحلم أو الهاجس. لذا لم يهتم المخرج بخصائصها الرمزية وأبعادها الدلالية التي تخدم سياق الفيلم، واعتنى، بدل ذلك، بقطعتها الجغرافية التي مثلت خط مرور للبطلة في سبيل الانتقال والهجرة. هذه الأخيرة هي الحبكة المركزية التي شغلت المخرج عن الاهتمام برمزية المكان، والتعاطي معه باعتبار عوالمه الفنية والجمالية، ودلالاته الدرامية والفكرية، وأبعاده الاجتماعية والثقافية.
 

فيلم الرحلة الكبرى

الرحلة الكبرى فيلم سينمائي مغربي للمخرج إسماعيل فروخي، من بطولة المغربي محمد مجد والممثل الفرنسي الشاب ذو الأصل الجزائري نيكولا كازالي. الفيلم ترشح لمجموعة من الجوائز، وحاز على جائزة أسد المستقبل بمهرجان البندقية السينمائي. يحكي هذا الشريط قصة أب مغربي مقيم بفرنسا يقرر أن يقوم بشعائر الحج، ويرافقه في هذه المهمة ابنه الذي ولد في فرنسا، وتشبع بثقافتها الغربية، منفصلا عن تقاليد أجداده الإسلامية بالبلد الأصل المغرب.

إذاً؛ فالفيلم يعكس لنا تلك العلاقة المتنافرة، والفرق الشاسع بين ثقافة الابن وثقافة الأب، ومحاولة هذا الأخير تعزيز أواصر هذه العلاقة، وتعريف الابن بدينه الإسلامي طيلة الطريق نحو الحج عبر أوروبا والبلقان، سوريا فالأردن، وصولا إلى السعودية. إن الصحراء في الفيلم هي حيز للترحال والسفر والتنقل. فإذا كان داود أولاد السيد قد وظف هذا الفضاء كمعبر للوصول إلى بلاد الفردوس والحلم في الفيلم السابق؛ فإن إسماعيل فروخي، جعل من الصحراء، جسراً للانتقال والمرور والعبور، ولكنه انتقال ديني روحاني، مرور للتطهر والصلح والتعلم، عبور للخلاص والإيمان والتقارب. فالهوة العميقة بين الأجيال، والاختلاف الكبير بين الثقافتين: ثقافة الأب المتدين والمرسخ للعادات، وثقافة الابن المتحرر والجاهل بالتقاليد، كان لا بُدّ من هدمها وردمها للوصول إلى توافق في المواقف، واتفاق في الرؤى، وانسجام في الأفكار والاختيارات.

والبيئة الجافة واليابسة التي مر منها كل من الأب وابنه، في الرحلة، توحي بهذا الجفاء والتباعد الذي يطبع علاقتهما، ليحاول الأب الرشيد تذويب هذه الخلافات، وتجاوز هذه الاختلافات في سبيل إنارة الطريق لابنه من أجل التعلم والتعرف والفهم: تعلم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والتعرف على تقاليد آبائه وأجداده، وفهم ثقافته وأصوله (العربية). والفيلم صُوّرت مشاهده في مجموعة من الدول، واتخذ الأبطال من صحراء الشرق الأوسط مساراً في رحلتهم نحو الحج، هذه البيداء التي احتضنت صراعاً عميقاً بين جيلين مختلفين، والفيلم يعكس هذا التحول الفكري والقيمي لأبناء المهجر، ويكشف مدى تأثير الثقافة الغربية على سلوكهم وتربيتهم وتوجههم الفكري والديني والأخلاقي. ومن هنا فرهان الأب (محمد مجد) كان يتجلى أساساً في إعادة الابن إلى تربته الأصلية، وتذكيره بأصله ودينه وثقافته التي ينتمي إليها روحاً وفكراً، رغم بعده عنها جسداً وتربية.

في الختام؛ نستخلص أن موضوع الصحراء في السينما هو موضوع غني ومثير للنقاش والتحليل. وقد تعاملت السينما مع هذا الفضاء في كثير من الأفلام الأمريكية والأجنبية والعربية، فحاول كل مخرج الانطلاق من رؤيته الجمالية، وهدفه الفني، وحبكته الدرامية لتوظيف الصحراء كمجال جغرافي له مكانته البارزة في الفن السابع. وقد ارتبطت - الصحراء - بمجموعة من الدلالات الرمزية، التي تختلف باختلاف سياق الأفلام السينمائية ومواضيعها.

وما زالت الأفلام المغربية التي تعاملت مع الصحراء ضئيلة بالنظر إلى الموقع الصحراوي للبلد، حيث أصبحت الصحراء المغربية قبلة لعشاق الفن السابع من كل صوب وحدب (استوديوهات ورزازات العالمية)، وصورت فيها أعمال سينمائية عالمية. ورغم ذلك؛ فإن السينما المغربية تواجه عدة إكراهات اقتصادية وتقنية ومناخية أثرت على منحى الإنتاج، غير أن هذه العراقيل لم تمنع بعض المخرجين المغاربة (داود أولاد السيد، فريدة بورقية، سعد الشرايبي...) من القيام بمحاولات سينمائية متميزة، تعبر عن رمزية هذا المجال الجذاب، المغري للتصوير والتشخيص.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها