مريم

فراس ميهوب

تذكرتَ بنوع من تأنيب الضمير كيف تركتَ زوجتك لأسابيع في المشفى دون أن تزورها إلا مرة واحدة.

رحلتْ بعد أن هدَّها الرعب من الموت، صرّح الطبيب بأنها تتحسن باضطراد وشككتَ في كل كلمة، كنتَ تقول لنفسك ما فائدة علاج محكوم بالإعدام؟

قال ابنك:
- نعالجها لنشفى نحن من الألم العالق في حلوقنا، ونتغلب على اليأس المتغلغل في قلوبنا.

اقتربَتْ زوجتك مع كل جرعة علاج كيماوي من الموت، وابتعدتَ أنت عنها بنفس المقدار.

في ذلك المشفى البارد، لم تحتمل أن تبقى أكثر من سويعات، تناوبَ أولادك على رعايتها دون تأفف، ضاقوا ذرعاً بك وباستسلامك المسبق، وكادوا يتهموك بالقتل السلبي لها لأنك تعاملت مع مرضها كمصيبة ترزح تحت وطأتها، وليس كمعركة للدفاع عنها.

تنافسَ الدواء مع الداء على نهش جسدها، أيهما أسرع وأكثر فتكاً من الآخر، وكنت مستمراً في تقاضيك وترافعك عن المحكومين بالإعدام، ترى عملك أكثر نبلاً من أي معركة ذاتية، وتعتقده ترفعاً عن الأنانية.

عرفتَ بعد موتها بأيام قليلة ما هي الوحدة، وأيقنت ضعفك وربما جبنك، فقدتَ احترامك لنفسك، وكان ذلك أقسى عقوبة تقبلتها مع الأيام.

مضت أربعة أعوام، رفضتَ فيها فكرة الزواج التي اقترحها عليك أصدقاؤك جدياً أو تهكماً.

هل كل الرجال بلا وفاء؟

كنت تعزي نفسك بأن الحيَّ أبقى من الميت، ولكن هل خرجت فعلا حيّاً من تلك التجربة؟

هذا هو مكر الحياة، تجعلك تؤمن بأفكار وقناعات، بل توشك أن تموت دفاعاً عنها، وفي لحظة حقيقة غير منتظرة، تقف أمام تحول يمسّك في الصميم، ويجبرك على الانقلاب على كل ما آمنت به، أو يحرجك، فيقصمك أمام نفسك والمجتمع.

كانت علاقتك بها، زواجاً من طرف واحد، كنتَ زوجها ولم تكن امرأتك، الحبّ من طرف واحد يشعل الأمل بالحياة ولو إلى حين، زواج من هذا النوع يضرم اليأس، ويميت القلب وقد يعمي البصيرة ولو سلم البصر.

أسألكَ سؤالاً وحيداً، أجب عنه بصدق، هل كنت في قرارة نفسك ترغب بموتها، أو على الأقل لا تجد غضاضة فيه؟

ربما لم تكن تحبها وتزوجتها بعمر صغير، كنت تبحث عن زوجة وحسب، ولم يكن ما جمعكما سوى عِشرة السنين!

لم تسامح نفسك يوماً على موتها، ما فارقك عذاب الضمير، ما زلتَ تذكر أيامها الأخيرة وقد شعرتْ بمصيرها المحتوم.

عاينتَ رعبها من الفناء، وهي تغطي وجهها بشعرها الذي تضاءل بفعل الدواء الكيماوي الشنيع.

لا تذكر أنك رأيت أحداً فعل شيئاً مشابهاً إلا تلك المرأة الستينية التي دافعتَ عنها باستماتة، وهذا ما لم تفعله مع زوجتك.

 كانت قد قتلتْ زوجها بعد أن علمتْ بخيانته لها.

عشية تنفيذ حكم الإعدام، سمح لك مدير السجن أن تدخل إلى الغرفة المظلمة التي مثلَّت لمريم قاعة انتظار قبل دقائق الرعب المؤدية إلى الموت والمجهول.

لم تحسَّ بوجود أحد، الظلمة مطبقة، والأثير ثقيل.

ناديت على مريم، لم تجبك، وقفت وحدثتها:
- أنا آسف، لم أستطع التماس عذر مخفف، لم يقتنع القاضي بدفوعي، أحلم بمعجزة تنقذك من الموت.
لن أكذب عليك، الجميع في الخارج ينتظرون خروجي ليبدؤوا إجراءات تنفيذ الحكم، سامحيني يا مريم، أعترف بفشلي.

مريم لم ترد.

استجمعتَ شجاعتك، ولكن أي اعتذار يقدم هنا، كنت تخشى الخواء، وتفهم شعور من يساق إليه.

أبرز الزوج لها وثيقة زواج رسمية، لكنها لم تسامحه، اعتبرَتْ ما فعله خيانة كبرى بحقها، لم تتردد بطعنه بسكين في ظهره، مات وهو غير مصدق.

جهدتَ لتقنعَ نفسك بأن مريم تستحق مصيرها، القاتل يقتل ولو بعد حين، وجاء الآن دورها بحكم الشرع والقانون.

لم تستطع ابتلاع الفكرة، بلعتَ لعابك النزر، بحثت عن كلمات، لم تجد إلا أن تناديها:
- أم نادر.

ندمتَ، لم ترها فكرة طيبة أن تذكرها بابنها الوحيد، كان كل حياتها.

التزمتْ مريم الصمت.

أشعلتَ ضوء هاتفك الجوّال، لمحتَ جسداً عارياً حتى جزءه السفلي، سترَتْه بدلة الإعدام الحمراء، ذُهلتَ، ناديتَ الحراس بصوت مخنوق.

أكد الطبيب الذي كشف على الجثة أنها ماتت ميتة طبيعية.

بقي المشهد في ذهنك لوقت طويل، لا تعرف لماذا قارنت ما فعلته زوجتك في مواجهة السرطان بتصرف مريم مقابل الإعدام، الموت هو ذاته، ورعب الفناء لا يتغير.

عجزك عن إنقاذ مريم كان أقل حدة في نفسك لأنك سعيت بكل طاقتك وفشلت.

أمام السرطان الذي أصاب زوجتك، استسلمتَ دون قتال لعدو غير مرئي، سلمتها للمشفى جسداً منهكاً في شباط، واستلمتها منه جثة هامدة في الصيف.

تحرّك اللوم عنيفاً في نفسك، استعادة زوجتك كان مستحيلاً، وإنقاذ مريم كذلك، لم تكن تملك سلاحاً لمحاربة المرض القاتل، ثقتك بالطب ونجاعته كان محدوداً، اخترتَ الطريق الآخر.

أردتَ إبعاد مريم عن عري الموت البارد، ظننت أن لا شيء يعادل أن تحبَّ غريباً، أو تطعمَ متشرداً، أو تعطف على طفل ليس ابنك، أو تنقذ روح إنسان لا تعرفه، لتخلَّص نفسك من لوم لا ينتهي، ولتستعيد احترامك لنفسك.

اعترفْ أنك في صبوة الأربعين، وقفتَ فجأة ونظرت في المرآة دون سابق، وحزنت على نفسك؛ لأنك لم تصادف الحب الذي كنت تحلم به شاباً، وتستحقه رجلاً بالغاً اجتماعياً ومجرباً.

هل كان قلبك فارغاً حينها؟

لم تجد جواباً شافياً، ولم تجرؤ أبداً على مفاتحة أي صديق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها