نستهل مقاربتنا بشهادة الكاتب المغربي أحمد زيادي في حق الروائي محمد زفزاف يقول: "محمد زفزاف صريح إلى درجة الإحراج، صادق إلى درجة الفصح، وإنه رجل المبدأ إلى درجة التهور... لم يكتب نصاً صريحاً تحت عنوان سيرة ذاتية أو سيرة روائية ذاتية، غير أن جميع رواياته هي نصوص سيروِية، رغم أن عقد القراءة الأولى بينه وبين القراء يشير دائماً على الغلاف باسم رواية وليس سيرة روائية ذاتية، وهذه اللعبة الروائية شائعة على يد كبار كتاب الرواية في العالم. فمن المرأة والوردة إلى الحي الخلفي، إلى بيضة الديك، ومحاولة عيش، وحتى قبور في الماء أو الأفعى والبحر أو الثعلب الذي يظهر ويختفي، هناك دائماً، تحت طبقات الخطاب الروائي المخفي بعناية، أو النص الصريح، جزء من سيرة هذا الروائي المبدع".
فما حدود الفصل والوصل بين محمد زفزاف الإنسان وذاته المبدعة في رواية "محاولة عيش"؟ وهل من علاقة بينه وبين أبطال روايته؟ وهل من تداخلات بينهما؟ خاصة إذا ما استحضرنا البوهيمية التي ميزت حياته بالدار البيضاء، والعديد من العناصر المشتركة بينه وبين بطل الرواية، ذاك ما سنحاول ملامسته في هذه المقاربة النقدية.
التعريف بالكاتب:
محمد زفزاف (1945 – 2001) روائي مغربي معاصر، تميزت كتاباته بملامسة الواقع الاجتماعي المغربي بلغة شاعرية سلسة، كانت أولى كتاباته شعراً، الأمر الذي أهله لينعت بلقب "شاعر الرواية المغربية"، عاش الكاتب طفولة صعبة، حيث توفي والده وهو في سن الخامسة. بعد الدراسة الجامعية في شعبة الفلسفة، اشتغل مدرساً للغة العربية بمدينة القنيطرة، قبل أن ينتقل للدار البيضاء حيث تفرغ للكتابة، وعاش في عزلة بوهيمية بين فضاءات المدينة. ترجمت أعماله للعديد من اللغات، ونشر العديد من كتابات القصصية، وقبلها قصائد شعرية بالعديد من المجلات العربية. من مؤلفاته: "حوار في ليل متأخر" (قصص 1970)، "المرأة والوردة" (رواية 1972)، " أرصفة وجدران" (رواية 1974)، "بيوت واطية" (قصص 1977)، "قبور في الماء" (رواية 1978)، "الأقوى" (قصص 1978)، "الأفعى والبحر" (رواية 1979)، "الشجرة المقدسة" (رواية 1980)، "غجر في الغابة" (قصص 1982)، "بيضة الديك" (رواية 1984)، "محاولة عيش" (رواية 1985)، "ملك الجن" (قصص 1988)، "ملاك أبيض" (قصص 1988)، "الثعلب الذي يظهر ويختفي" (رواية 1989)، "العربة" (قصص 1993).
تأطير النص الروائي:
صدرت رواية: "محاولة عيش" سنة 1985 وفي طبعة ثانية سنة 2008، وثالثة سنة 2011، عن المركز الثقافي العربي، وتقع في 94 صفحة، وقد صنفتها العديد من الدراسات على أنها من الروايات الواقعية، وأن صاحبها من رعيل التجريب في الرواية المغربية بعد مرحلة التأسيس.
◀ صورة الغلاف
احتلت الصورة مكانة مهمة، مثلها مثل الكتابة التي حملت اسم الكاتب وعنوان الرواية ودار النشر والجنس الأدبي. هي لوحة فنية بألوان باهتة، معبرة عن الهشاشة والفقر الذي تجليه الأبواب الضيقة، وافتراش الرجال الثلاثة للأرض، مع تقاسمهم الطعام بصحن يبدو فارغاً. هيئة الرجال تعبر عن واقع اجتماعي واقتصادي متميز بالحاجة والعوز، أما بياض لون الغلاف فيعبر عن الوضوح والرؤية الشفافة في نقل الأشياء والأحداث، وتلك هي ميزة الكاتب محمد زفزاف في كتاباته السردية، وهو الأمر الذي ما حاد عنه في هذا العمل الأدبي الذي يجعلنا أحياناً نخرجه من دائرة الرواية الصرف، إلى جنس السيرة الذاتية. فالرواية التي بين أيدينا اعتبرها العديد من النقاد عملا أدبيا جميلا، وطفرة من طفرات التجديد في الرواية المغربية. أما ظهر الغلاف فقد حمل خصائص إبداعية يتميز بها الكاتب وإشارة لمضمون الرواية.
◀ ظهر الغلاف الكاشف لمضمون الرواية
مما جاء بظهر غلاف الطبعة الثانية: "بلغة بعيدة عن الإنشاء والبلاغة، لغة روائية، يكتب محمد زفزاف. أبطاله في غالبيهم هامشيون، ولأنهم كذلك فهم أكثر حرية في قول الوقائع. لا يلتفون حول الأشياء ولا يهمهم موقعهم الاجتماعي. عبرهم يقدّم زفزاف ما يريد تقديمه عن حياة المغرب وأهله... في هذه الرواية نرى كيف أن العلاقة بين بائع الجرائد وبائعة الهوى تتم بكل تلقائية، وهي علاقة إنسانية وليس كما يتم تصويرها دائماً. ونرى صورة معبّرة عن حيلة سكان "البرّاكات" بيوت الصفيح وحياتهم، وصراعهم من أجل أبسط شروط الحياة.
كثيرة هي الأعمال الأدبية التي يكون فيها العنوان مضللاً، ولا يعبر بشكل واضح عن مضمون الرواية، والأمر نفسه مع الصورة. بيد أن الكاتب حاول أن يكون منسجماً مع نفسه ومع نصه من جهة، ومع القارئ/ المتلقي من جهة ثانية، لذلك كانت المؤشرات البصرية الخارجية منسجمة مع مضمون الرواية، حاملة لنفس الدلالة الشيء الذي يجعل القارئ على استعداد لتقبل النص، والسفر عبر الأحداث، خاصة مع الإشارات المحفزة لكل المؤشرات الخارجية.
عنوان الرواية
العنوان مركب إضافي، والإضافة تفيد وجود علاقة بين الطرفين (المضاف والمضاف إليه). وقد يصبح مركباً إسنادياً بتقدير المبتدإ المحذوف حين نقول: "هذه محاولة عيش". دلالياً: كلمة العيش لها ارتباط بالحياة والبقاء في مقابل الموت والرحيل، لكن السؤال المطروح كيف يمكن أن يكون العيش محاولة؟ ومن هنا تبدو صورة العيش مهزوزة وضعيفة، لصعوبة التحقق على أرض الواقع، لتظهر براعة المؤلف/الراوي الذي أتقن وأبدع في نقل الأحداث لدرجة إيهام القارئ/ المتلقي، فهل نحن أمام سيرة ذاتية؟ خاصة إذا استحضرنا بعض الأعمال الأدبية لزفزاف، وما تحمله من مفارقة ورؤية ساخرة يقول عبد الرحيم اصميدي: "الملاحظ أنه وبالرغم من كون روايات محمد زفزاف غالباً تكون ساخرة أو مفارقة في عناوينها مثل "بيضة الديك"، "الثعلب الذي يظهر ويختفي"، "قبور في الماء"، و"الأفعى والبحر"... فإن عنوان هذه الرواية "محاولة عيش"، بخلاف العناوين السابقة جاء مناسباً وعاكساً للمتن الحكائي داخل الرواية ككل، بل هو تلخيص متقن لها، ولم يكن مفارقاً لأحداثها أو تحولات شخصياتها، بل جاء بسيطاً وواقعياً وقريباً من الفهم والإدراك مثل بساطة الرواية وواقعيتها".
انطلاقاً من العنوان ومما جاء في مقاربة عبد الرحيم اصميدي يصبح السؤال عن الجنس الأدبي للرواية مشروعا؟ أنحن أمام سيرة ذاتية جعل الكاتب حميد بطلا لها؟ خاصة إذا استحضرنا طفولة الكاتب، وحياته البوهيمية الذي عاشها بعد ترك وظيفته وتفرغه للكتابة بالدار البيضاء، ومصاحبته للروائي المغربي محمد شكري والقاص والصحفي إدريس الخوري. هي تساؤلات تلاحق كل قارئ لهذا العمل الأدبي الذي نعُدّه رواية، انسجاماً واحتراماً لقرار الكاتب الذي يعد في طليعة الكتاب الواقعيين في المغرب، على غرار المشارقة أمثال نجيب محفوظ.
◀ ملخص الرواية
في رواية "محاولة عيش" ينقل محمد زفزاف جوانب من الواقع المر الذي عاشه فقراء المغرب، خلال حقبة تاريخية تزامنت مع تواجد القاعدة الأمريكية بالمغرب. ذاك الواقع الصعب الذي تظهره دور الصفيح، وخروج الأطفال والشباب للعمل من أجل إعالة أسرهم بعد انقطاعهم عن الدراسة. هو واقع تصالح مع المخدرات، من حشيش وخمر ورشوة. كل هذا الأمر كشفه البطل حميد الذي أصبح معيلا لأسرته، يقدم ما حمله من نقود قليلة لأب يجلس في البيت يشرب الشاي ويدخن الحشيش، وأم حلمها أن يكبر ابنها لتزوجه، مقدمة رشوة للمقدم كي لا يهدم البراكة، حيث سيقيم حميد الذي جمعته علاقة إنسانية ببائعة هوى.. طريق بطل الرواية لم يكن سهلا. لقد تعرض للعديد من الإهانات والشتائم خاصة من طرف الرجل السمين صاحب شركة توزيع الجرائد، أو من طرف حراس السفن الراسية في الميناء، كلما حاول الصعود إليها لبيع الجرائد للركاب، تلك الشتائم التي كان يخفف من حدتها زيارته المتكررة لمطعم اليهودية التي كانت تزوده ببقايا الطعام، ويحصل على الهدوء والملاذ الآمن داخل هذا الفضاء الليلي الذي طبّع مع الفساد والمخدرات.
◀ فصول الرواية
جعل الكاتب أرقاماً لفصول روايته بدل العناوين، وقد سماها عبد الرحيم اصميدي لوحات باعتبارها تشبه اللوحات المسرحية حسب تعبيره يقول: "إنها لوحات تتطلب وجود وقفات زمنية أو انقطاعات حدثية تحقق لكل حدث استقلاله عن الآخر، كما أن الوقوف عند هذه اللوحات (12) باعتبارها وحدات سردية أو متواليات حكائية، سيجعلنا نمسك ببنية الأحداث في الحكاية الروائية". ويمكن عنونة الفصول كما يلي:
1 – حميد ومعاناته في الميناء.
2 – حميد ورئيسه الجديد.
3 – حالة ووضعية حميد بعدما أصبح معيناً لأسرته.
4 – حميد وجولاته الليلية في الملاهي.
5 – حكاية حميد واليهودية صاحبة المطعم.
6 – حميد يبيع الجرائد بمقهى الأركان.
7 – بناء الأم براكة جديدة ستخصصها لحميد.
8 – رشوة المقدم حتى لا يهدم البراكة.
9 – الأم تفكر في تزويج حميد.
10 – تعرف حميد على غنو.
11 – شك الأم في تصرفات حميد الجديدة.
12 – زواج حميد.
الشخصيات: صفاتها المميزة وتحولاتها
◅ حميد: (الشخصية الشبابية، أجبر على العمل في سن مبكرة رغم ضعف بنيته، لم يتغير حاله وواقعه نحو الأفضل، جميل، قوي البنية في شبابه، لا يسكر ولا يدخن في طفولته، يدخن ويسكر في مرحلة شبابه، يلبس خرقاً بالية).
◅ الأب: (اسمه الحسن، صاحب بنية قوية، أسنانه متأثرة بالتدخين، يمضي معظم وقته في الجلوس في الدكان أو النوم، قوي البنية، معدم، فقير، يلعب القمار).
◅ الأم: (متسلطة، قوية البنية، اشتغلت في عدة حرف، متباهية أمام الجيران، ساخرة، متعجرفة داخل البيت، لم يذكر الكاتب اسمها).
◅ البقال: (صديق الحسن، والد حميد، كان يقدم له الإرشادات).
◅ الضاوي: (صديق حميد، ناصحه).
◅ سي إدريس: (متسلط، صاحب مركز توزيع الجرائد، سمين، يضع نظارة سميكة).
◅ المقدم: (يمثل الشخصية الشريرة، يقوم بأمور غير قانونية).
◅ غنو: (بدوية، من أسرة ريفية محافظة، اشتغلت بملهى ليلي بعد عدة مشاكل بالقرية، مهتمة بمظهرها الخارجي، لباسها مثير للفتنة، تسكر وتدخن، مومس، تسترخص جسدها مقابل المال، فقيرة، مهمشة).
◅ فيطونة: (خطيبة حميد، سمينة، فتاة بدوية في مقتبل العمر، ذات شعر طويل، غير محتشمة قبل خطبتها، محتشمة بعد خطبتها ونصح والدتها لها، معوقة).
◅ أم فيطونة: (تنتمي للطبقة الكادحة، شرسة، كثيرة المعارك مع نساء الحي، لا تنهزم).
◅ الحارس السنغالي: (لا يحمل اسماً في الرواية، البحار الوحيد الذي يصلي، لا يشرب الخمر).
نستنتج من خلال تتبعنا لأوصاف شخصيات الرواية مساهمة محمد زفزاف في رسم وإبراز واقعيتها، وبتوالي الأحداث وتحول زمن القصة في الرواية تبين أن بعض هذه الشخصيات غير مستقرة، إذ انتقلت من وضعية مادية ومعنوية إلى أخرى، ومن أمثلة ذلك التحولات التي طرأت على حميد وفيطونة وغنو، هي تغيرات مسايرة لتناقضات مدينة طبّعت مع الفساد والمخدرات.
◀ المكان
لم يذكر المكان في رواية "محاولة عيش" بصريح العبارة، لكن بصورة عامة تقسم الأماكن الوارد ذكرها في الرواية إلى أماكن مفتوحة (المدينة – الشارع – الميناء)، وأخرى مغلقة (الغرفة – المقهى)، والتي تعكس الواقع الذي أراد الكاتب نقده في روايته.
إن المدينة التي استحضرها المؤلف تعج بالمسلمين واليهود وبالأجانب من أوربيين وأمريكيين، مدينة المتناقضات والانحرافات "يشربون البيرة والليمونادا ويأكلون الذرة التركية المقلية، بعضهم يمصمص قواقع الحلزونات المتبقية في قعرها" [ص: 49]. هي مدينة جامعة للمتناقضات يقول: "امتداد شاسع من البراريك القصديرية، كلها تمتد في ساحة واسعة بضاحية المدينة، تتعرج أحياناً، وتتشتت لتلتقي في أماكن معينة، كل هذه الآلاف من الناس هي في خدمة سكان المدينة. فهم الحفارون واللصوص ومنهم الصبّاغون والجيّارون والبائعون المتحوّلون وكل شيء" [ص: 17]. أما شوارع المدينة فقد اتسمت بالصراعات والشجار، وهي ملتقى الباعة والمتسولين والأمريكيين والسكارى يقول: "كان هناك أيضاً، في رأس الشارع سكارى آخرون يترنحون ويتدافعون، لم يهتم أحد بما وقع. تقدم حميد نحو غنو، خافت أن يفعل بها مثل ما فعل بالآخرين. وقفت وأخذت ترتعد، وضعت كفاً على جذع شجرة والصحف تحت قدميها، قال حميد: لا تخافي، يجب عليك أن تعلمي مع من تسكرين هذه المرة" [ص: 77 – 78]. إلى جانب هذا الفضاء الواسع المليء بالحركة والصراعات، استعمل الكاتب أمكنة ضيقة، مناسبتها ممارسة أحلام اليقظة، وإن كانت هذه البيوت لا تحقق الكرامة الإنسانية يقول: "ذهب الحسن إلى السوق العتيق، واشترى صفائح وقصديرا وخشباً ومسامير. ألصق شيئاً بشيء في حوش البراكة، وقالت الأم لحميد: الآن أصبح لك بيت مستقل: لا بأس أن ينام معك فيه أخ لك. كان الشيء الذي بني في الحوش أشبه بمسكن كلب، وفيه مع ذلك كوة ينفذ منها النور، وباب قصير، لا يتسع لقامة حميد...".
◀ الزمان
لم يكشف الكاتب عن الزمان بشكل دقيق ومحدد، بقدر ما تعقبه من خلال مقارنة بين أحوال الشخصيات بين الماضي والحاضر، ذلك أن الشخصيات الرئيسية إذا تتبعنا مسارها وجدناها تحولت، فحميد مثلا بعدما كان طفلاً محافظاً على التقاليد أصبح متعاطياً للتدخين والسكر وغير ذلك، ويظهر هذا التحول من خلال المقطع: "بدأ حميد يشعر أنه شخص آخر، يشرب كل مساء، وينتظر غنو في نهاية الصباح لتوقظه عندما لا تغيب" [ص: 87]. كما تغيرت أحوال فيطونة خطيبته: "بعد ذلك كفت فيطونة عن الإكثار من الخروج" [ص: 75]. والأمر نفسه مع غنو، وإن كان الراوي لم يشر إلى ماضيها قبل تعاطيها الخمر والبغاء يقول: "لا شك أن وراء كل فتاة من هذا النوع حادثة قال حميد:
- أية حادثة؟
- لا يهم فعلها ولد الرايس، فهربت بنفسي" [ص: 80].
الرؤية السردية
يقوم الحكي في العمل السردي على دعامتين أساسيتين: أولهما القصة، وثانيهما الطريقة التي تحكى بها القصة. وقد خلص الناقد والمنظر الفرنسي "جان بوييون" jean Bouillon في كتابه "الزمن في الرواية" 1946 واهتدى إلى ثلاث وضعيات للراوي، وهو الأمر الذي اعتمده "تودوروف" Todorov بعدما أدخل تعديلات على ما جاء به جان بوييون وجعلها:
◂ الرؤية مع: (الراوي= الشخصية) حيث الراوي يعرف ما تعرفه الشخصية.
◂ الرؤية من الخارج: (الراوي= الشخصية) حيث الراوي يعلم أقل ما تعلمه الشخصيات.
◂ الرؤية من الخلف: (الراوي= الشخصية) حيث معرفة الراوي تكون أكثر من معرفة الشخصيات.
بقراءتنا للرواية وتتبع تفاصيل راويها الذي تنقل بيسر بين التذكر والتداعي، وكان فوق الشخصيات كإله دائم الحضور بلغة جان بوييون، وباستعمال ضمير الغائب خلصنا للرؤية المعتمدة في الرواية وهي الرؤية من خلف. ذلك أن الراوي يعرف عدة تفاصيل عن أبطال الرواية، فعندما تحدث عن ماضي حميد تطرق للعديد من الجزئيات يقول: "أحياناً عندما كان حميد يسمع مثل هذا الكلام يفضل ألا يأكل بتاتاً. يخرج إلى بائع التين الشوكي أو بائع البرتقال أو بائع البطيخ الأصفر والأحمر، ثم ينظم غارة هو وبعض أصدقائه فيختطفون أو يسرقون ما يقتاتون به. وربما كانت الغارة فاشلة، فينتهي أحدهم إلى مركز المقاطعة، حيث يشبعهم ضابط القوات المساعدة أو الاحتياطية ركلاً وصفعاً" [ص: 26 – 27]. وأحياناً يتعمق في النبش في نفسه يقول: "رغم الجوع، اضطر التعب حميداً أن ينام. كان الظل مغرياً، وكانت محركات السيارات وزعيق الأبواق يأتيه في النوم مثل حلم" [ص: 41]. وتتعزز الرؤية من الخلف بالانتقال السلس بين ماضي الشخصيات وحاضرها، وبين الأمكنة المختلفة. إن الراوي على دراية ومعرفة بالشخصيات، حيث عبر عنها بدقة متناهية سارداً أفكارها ومواقفها، مدركاً ماضيها وحاضرها، عارفاً بأسماء الأمكنة والشوارع والأزقة يقول: "المصابيح ما تزال تضيء الطريق. ساراً بخطوات سريعة إلى زنقة (فرانسوا دي فيون)، دخلا إلى ساحة واسعة تحيطها من أربعة جوانب غرف لصيقة ببعضها، فوق الطابق الأرضي طابق آخر، كل الأبواب مغلقة، إلا باباً واحداً من فوق مفتوحاً" [ص: 79].
إن الرؤية المعتمدة تبرز براعة ومهارة السرد عند محمد زفزاف كما يرى أحمد زيادي، فزفزاف يتقن إخفاء صوت الراوي وهو بذلك يقدم للقارئ واقعاً معيشاً، دون الاعتماد على الواقعية المبتذلة والبسيطة، إنه الواقع الذي يتأرجح بين اليومي والخيالي.. وهي ميزة رواية "محاولة عيش" التي أبرزت الصراع بين الشخصيات، وساءلت الواقع المليء بالمآسي بلغة وفنية العمل الروائي على حد تعبير الناقد أحمد المودن.
خاتمة:
لقد تفوّق ووُفِّق الكاتب محمد زفزاف في نقل الواقع المعاش في رواية "محاولة عيش"، وبلغة سردية لا تخلو من شعرية استطاع أن يمزج بين الواقعي والتخيلي/ الأدبي، ليصبح في نهاية المطاف رائد الأدب الواقعي والاجتماعي المغربي، وتلك ميزة طبعت جل أعماله الأدبية، ولعل المتتبع لكتاباته يستخلص صعوبة الفصل بين الطرفين. ويسلم بريادة محمد زفزاف للرواية المغربية المعاصرة.