السرّ وراء لوحةِ الأمير الإفريقي الغامض!

رشا عدلي


لم يكن أحد يتوقّع أن تعود إلى الظهور، بعد أن اختفت لما يقارب قرنًا من الزمان. لوحة لوجهٍ أفريقي يفيض ملامح كرامةٍ وعذوبة. رُسمت عام 1897 على يد غوستاف كليمت Gustav Klimt، أحد أعلام الفن النمساوي الحديث. هذه اللوحة، التي تحمل اسم "الأمير ويليام ني نورتي دوونا"، ظهرت فجأة بعد غياب دام منذ عام 1938، لتثير جلبة كبيرة في عالم الفن، وتُعرض في معرض TEFAF في مدينة ماستريخت الهولندية، مقابل مبلغ ضخم قدره 15 مليون يورو. لكن، من هو هذا الأمير؟ ولماذا رسمه كليمت؟ ولماذا اختفت اللوحة؟ أسئلة تُشبه خيوط متاهة تنفتح على صفحات من التاريخ، حيث يتقاطع الفن بالاستعمار، ويغدو الجمال شاهداً على وقائع مؤلمة.

 

من البداية:

القصة بدأت على نحوٍ عابر. زوجان من هواة جمع الأعمال الفنية، يعثران على لوحة متّسخة، شبه تالفة، ويحضرانها إلى معرض Wienerroither & Kohlbacher المتخصص في أعمال كليمت. يقول المدير الإداري ألويس فينيررويثر: "لقد كانت مفاجأة كبرى". رغم خبرتهم الطويلة في التعامل مع أعمال كليمت – والتي تعود لأكثر من 25 عاماً – إلا أنهم لم يتعرفوا فورًا على الكنز المدفون تحت طبقات من الغبار والزمن. كانت اللوحة في حالة مزرية، يصعب معها حتى التأكد من نسبتها إلى كليمت.

لكن، بعد ترميم طويل ومعاينة دقيقة، تبيّن أنها اللوحة المفقودة. لوحة ترصد وجه أمير إفريقي من غانا، تقف خلفها قصة معقدة تعكس التقاء الفن الأوروبي بالفضول الاستعماري. قبل الغوص في حكاية الأمير، لا بد من التعرف على غوستاف كليمت (1862–1918)، أحد أبرز وجوه الفن النمساوي الحديث، ومؤسس حركة "انفصال فيينا" التي جمعت خمسين فنانًا أرادوا التمرد على النمط التاريخي الواقعي، وفتح باب الحداثة والتجريب.

عام 1897، في لحظة انتقال فني حاسمة، رسم كليمت لوحة الأمير الغاني، بأسلوب مغاير لما عُرف عنه من تجريد ذهبوي يغمر النساء في نماذجه الفنية الأبرز مثل "القبلة"، و"المرأة الذهبية". لم تكن هذه اللوحة ضمن الشائع من أعماله، لكنّها كشفت عن توجهه نحو الإنسانية الكامنة في الوجه، بعيداً عن التشييء أو التنميط. رسم الأمير من جانب وجهه، في خلفية زهرية تشي بما سيصبح لاحقًا أحد عناصر توقيعه الفني.

لكن؛ كيف التقى كليمت بالأمير؟

تشير الأبحاث إلى أن اللقاء جرى في أحد المعارض الإثنوغرافية في فيينا، والتي كانت امتدادًا لصناعة استعراضية عنصرية نمت في رحم الاستعمار الأوروبي. هذه المعارض – التي دشّنها كارل هاغنبيك، مستورد الحيوانات البرية الألماني المعروف بلقب "ملك حدائق الحيوان" – لم تكن تعرض فقط الأسود والفيلة، بل أيضًا البشر. كان يتم جلب أشخاص من المستعمرات الإفريقية والآسيوية ليعرضوا في أقفاص حديدية، يؤدون رقصات وأدواراً وحشية، تُقدَّم للجمهور على أنها "استعراضات ثقافية"، بينما هي في جوهرها صناعة مهينة لبشر تم اختزالهم إلى "غرائب" تمثل الغريب، البدائي، غير المتحضر.
 

في تلك الحدائق، كانت تُقدّم عروض "عرقية" لقبائل مثل الإنويت والداهوميين والنوبيين، حيث يُحتجز البشر مثل الحيوانات، يُجبرون على ارتداء أزياء ملفتة، ويُطلب منهم أداء طقوسهم، في إطار من الاستهزاء والسخرية. أحد أشدّ الأمثلة المروعة في هذا السياق كانت سارة بارتمان، المرأة الجنوب أفريقية التي أُجبرت على أداء العروض في سيرك بيكاديللي بلندن، بعد أن استُدرجت من كيب تاون للعمل كخادمة في هولندا. تم استغلال جسدها في عروض "غريبة"، حيث كان يُسمح للجمهور بلمس جسدها لقاء مبلغ إضافي، فيما تُعرض بوصفها "أنثى حيوان مفترس" ضمن برنامج ساخر، لا يمت للإنسانية بصلة.

في عام 1897، العام نفسه الذي رسم فيه كليمت لوحته، جرى استقدام مجموعة من قبيلة أوسو الغانية إلى فيينا، على متن سفينة بخارية استغرقت رحلتها 53 يوماً. كان على رأس الوفد الأمير ويليام ني نورتي دوونا، شقيق ملك أوسو، ومعه حوالي 70 رجلاً و50 امرأة وطفلاً، قدموا عروضًا يومية أمام جمهور تعداده 10,000 شخص في حديقة حيوان فيينا.

حازت هذه العروض شهرة واسعة، لدرجة أن الصحافة الأوروبية غطتها بكثافة، مستخدمة عناوين مثل: "سكان ساحل الذهب يقدمون عروضهم". كانت أجساد الأفارقة، وصرخاتهم التي تهز المكان بلغتهم غير المفهومة، مادة دسمة للمتفرجين. الأمير، تحديدًا، برز بجاذبيته الجسدية ووسامته، فلفت أنظار الجميع، ومن بينهم الفنان كليمت وزميله فرانز ماتش، اللذان حضرا أحد العروض، وتم تكليفهما لاحقًا من قبل تاجر فني برسم بورتريه للأمير.

وبينما اختار ماتش أن يرسمه وجهاً لوجه على خلفية صلبة، مستعرضاً جسده القوي وبنيته المحاربة، رسمه كليمت من الجانب، على خلفية زهرية، موحياً بشيء من الرحمة والسكينة. 

لوحة كليمت، بخلفيتها الزهرية وملامح الأمير الهادئة، تخالف الصورة النمطية للأفارقة في الفن الأوروبي في ذلك الزمن، والتي كانت غالبًا ما تصورهم كخدم أو محاربين متوحشين. في المقابل، رسم ماتش الأمير في هيئة مهيبة، مرتديًا عباءة أشبه بالتوجا الرومانية، مع نظرة حادة تعكس التحدي.

كلتا اللوحتين كانتا ثوريتين في وقتهما، متحديتين للنهج الأكاديمي السائد، ومكرستين لفكرة أن الإنسان، مهما كان لونه أو ثقافته، يمكن أن يكون موضوعًا فنيًا راقيًا يستحق التقدير.
 

كلا العملين شكّلا معاً تحديًا للفن الأكاديمي النمساوي التقليدي، في وقت كانت فيه صورة "الأسود" في الفن الأوروبي محصورة غالباً في دور الخادم أو "الشرقي" الغريب. لكن في هاتين اللوحتين، بدا الرجل الأفريقي مهيباً، مكرّماً، ذا حضور إنساني خالص.

ظلت لوحة ماتش محفوظة في المتحف الوطني بالنمسا، بينما اختفت لوحة كليمت، التي لم يوقّع عليها، وظل مصيرها غامضاً. بعد وفاة كليمت عام 1918، بيعت ممتلكاته لسيدة تدعى إرنستين كلاين. لاحقاً، ظهرت اللوحة في معرض استرجاعي عام 1928، ثم اختفت مجددًا عندما اجتاحت النازية النمسا عام 1938، حيث فرت السيدة اليهودية من البلاد تاركة ممتلكاتها، ومنها لوحة الأمير. يُعتقد أن اللوحة بيعت في مزاد أو تم تداولها عبر تجار الفن حتى ظهرت أخيراً بعد أكثر من ثمانية عقود. ويُعتقد أن اللوحة تم تداولها سرًا بين هواة الفن، دون أن يتم التعرف على قيمتها الحقيقية حتى وقت قريب. اليوم، وبعد تأكيد نسبها إلى كليمت، عادت اللوحة إلى الواجهة، مصحوبة بسلسلة طويلة من الأسئلة الفنية والأخلاقية.

ولكن لم تنتهِ القصة هنا. شكّك البعض في هُوية الأمير، حتى بدأ المؤرخ ألفريد فايدنغر – المختص في أرشفة صور الملوك الأفارقة – في البحث، فوجد صورة للأمير في أحد الكتالوجات القديمة. تم تعقب نسله، وتواصل المؤرخ مع العائلة التي احتفظت ببعض المتعلقات التي جلبها أجدادهم من فيينا، وتم الاتفاق على تصوير فيلم وثائقي بعنوان كليمت وأمير غرب أفريقيا، يستعيد القصة ويعيد للأمير الغائب اسمه وصورته.

ورغم كل هذا، يبقى السؤال معلقاً: هل يحق لأحفاد الأمير الحصول على حصة من ثمن بيع اللوحة؟ خاصة وأن كليمت، في السنوات الأخيرة، صار اسمه يتصدر مزادات عالمية بمبالغ فلكية: لوحة "الآنسة ليسر" بيعت بـ32 مليون دولار في 2024، و"السيدة ذات المروحة" بأكثر من 108 ملايين دولار في 2023. ويُقدَّر ثمن لوحة الأمير بنحو 16 مليون دولار.

لكن، ماذا عن الأمير؟ لم يتقاضَ شيئًا، لا مقابل اللوحة ولا العروض. لقد تم استغلال صورته، مثلما استُغلت أجساد أناسٍ آخرين من أفريقيا وآسيا، تحت مسمى "الفرجة". وحده الفن احتفظ به، ومنحه كرامة لم يعرفها في زمن عروض مذلة تُصنّف اليوم كاستغلال عنصري تحت مظلة الاستعمار الثقافي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها