ليس غريباً على الإمارات العربية المتحدة أن تحتضن الكثير من الآثار، والعديد من الحضارات، وأن تسعى إلى تسجيل المزيد من تراثها المادي واللا مادي كتراث إنساني عالمي، وهذا ما حدث بعد تسجيل الدولة عناصر متنوعة ليس آخرها موقع "الفاية ـ FAY-NE1" في الشارقة التي يثق حاكمها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حفظه الله، بأن التاريخ لا يُروى فقط، بل يصان، ويعلّم، ويُفخر به، وكان سموّهُ قد أصدر بتأريخ (1/7/2025) قراراً إدارياً بشأن اعتماد حدود الفاية ومساحتها كموقع تراثي ثقافي.
الترشيح العربي الوحيد:
لقد تمّ إدراج الفاية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي بتاريخ (11/7/2025) بعدما اعتمدته -وبقرار جماعي- لجنة التراث العالمي في دورتها (47) المنعقدة في باريس، ضمن فئة "مواقع التراث الثقافي"، والذي قُدم ضمن ملف ترشيح دولي بعنوان "المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية"، وكانت سفيرته الرسمية سعادة الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، واستغرق (12) عاماً من التحضير المستمر، و(30) عاماً من التنقيب والأعمال الأثرية والدراسات البيئية والأبحاث، وخطط الحفظ المتكاملة التي قادتها هيئة الشارقة للآثار بالتعاون مع فرق دولية.
علماً أنه الترشيح العربي الوحيد الذي نظرت فيه اللجنة للعام الجاري، وبذلك يكون "موقع الفاية" ثاني موقع في دولة الإمارات ينال هذا الاعتراف العالمي بعد إدراج "مواقع العين الثقافية" عام (2011).
دموع الفرح تعبر الأزمنة:
لحظة التسجيل كانت تأريخية بامتياز، وقد عكست بجلاء فرح الشيخة بدور القاسمي التي صرّحتْ بهذه المناسبة قائلة: "إدراج "الفاية" يرسّخ إسهام الشارقة في كونها مهداً للتاريخ البشري المبكر، ويبرز الدور المحوري لشبه الجزيرة العربية في رحلة الإنسان للخروج من إفريقيا. وأكّدت: "نحن ملتزمون التزامًا راسخًا بحماية هذا الموقع، وتكريم إرث من سبقونا ليظل مصدر إلهام للأجيال في مختلف أنحاء العالم".

"الفاية" جذور لذاكرة الشارقة:
فماذا عن هذا الأثر المكاني الثقافي الذي صار تراثاً إنسانياً؟
تخبرنا تضاريس المكان بأنّ ذاكرة بشرية قديمة تركت ملامح حياتها في موقع (الفاية ـ الشارقة)، بين الجبل وطبيعته البيئية وتموجاته الزمنية ومأواهُ الصخري، وكهفه وأدواته الحجرية، مثل أدوات النقش والكاشطات الجانبية والفؤوس اليدوية الصغيرة، وتعكس لنا ما ترسّب في هذا الموقع من يوميات منسية بين الصخور والماء والكلس والأحجار الصوانية التي كست المنحدر الشمالي الشرقي لجبل الفاية.

وهذا ما أكدته التنقيبات الأركيولوجيّة التي كشفت عن هجرة بشرية قديمة إلى "الفاية" المأهولة بالسكان منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، وكانت معبراً للناس القدامى من كافة القارات، ليستمتعوا بمناخها بين ماء وهواء وربيع ورمال، مع ضرورة الإشارة إلى المتغيرات المناخية ـ وذلك كل (20000) عام ـ التي كانت تتأرجح بين بيئة صحراوية وأخرى غزيرة المياه، وهذا مما ساهم بتجمّع المياه في البحيرات وتدفقها على طول قنوات الوادي الممتد من جبال الحجر وحتى الفاية.
وعبْر التاريخ، كان لمدينة "مليحة" تأثيرها الثقافي واتصالاتها الخارجية ودورها الحيوي في تجارة القوافل، كما للشارقة دورها البارز في فن النقوش الصخرية وآثارها الباقية في منطقة جبال الحجر، والممتدة إلى خطم الملاحة بكلباء ومواقع المديفي واللؤلؤية ووادي شي بخورفكان، ولا ننسى وادي الحلو ومروره بفترة التعدين لاسيما النحاس.

مفتاح السر الأركيولوجي:
تخفي "الفاية"، هذه المنطقة الجبلية المتموضعة في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة الكثير من أسرار البشر والطبيعة والجيولوجيا، ومن أدلتها الأثرية الأدوات الحجرية، وأحافير النخيل المحفوظة كشوائب معدنية في أوراق بعض النباتات المحفوظة في التربة، ووجود مقبرة ومنطقة سكنية وعظام حيوانات مثل الأبقار والخراف والكلاب، وهذا يعني أن السكان القدامى عرفوا الشعائر الجنائزية، واعتمدوا على تربية الحيوانات، إضافةً لاعتمادهم على شواء طعامهم، إلى جانب الصيد والرعي وجمع الثمار والنباتات.
ومن زاوية أخرى لهذه الذاكرة التراثية، أشارت نتائج المكتشفات الأثرية إلى وجود الاستيطان البشري المتكرر في موقع المأوى الصخري في جبل الفاية؛ لما يعود لأكثر من (200) ألف سنة من زمننا الحالي، مما يؤكد أنه أقدم موقع بشري معروف حتى الآن في شبه الجزيرة العربية، ويجعله كلمة السر في دراسة العصر الحجري القديم.
وإضافة لذلك؛ يعكس موقع (الفاية) قدرة الإنسان على التأقلم مع البيئات المختلفة ومنها البيئة الصحراوية، وكيف وظّف ذكاءه في التعامل مع المكان الذي يعتبر أحد أقدم وأطول السجلات المتواصلة الدالّة على وجود الإنسان في البيئات الصحراوية، واستيطانه فيها، وكيف عاش حياته بيومياتها المتنوعة ضمن هذا الموقع المعتبَر مصدراً أساسياً للبحث العلمي، واعتزازاً وطنياً للإمارات، ومعلماً أثرياً عربياً وعالمياً.