ديناميكيات الصراع وتمثُّلاتها السردية

مقاربة نقدية في روايات وجدي الأهدل

د. عبده منصور المحمودي


منذ عقود خلت، ظهر على بُنية الصراع في الحياة اليمنية -السياسية والاجتماعية- منحىً من الحيوية والتنامي المتسارع، الذي مثَّل ديناميكياتٍ متداخلة، انعكست على صور مختلفة، في الكتابات السردية، وفي صدارتها تأتي روايات الكاتب وجدي الأهدل.

اشتغل الأهدل في مُنجَزه الروائي ــ الذي وصل إلى ست روايات بدءًا بروايته "قوارب جبلية"1، وانتهاءً بآخر إصداراته، رواية "السماء تدخن السجائر"2 ــ على بُنية الصراع، وفقًا لنسقٍ فني تدرج في استيعابها؛ تجانسًا واتساقًا مع صيغ التدرج والتصاعد في تعاقبها، الذي أفضى إلى أحدث مرحلة من مراحلها، وهي المرحلة المتمثِّلة في الحرب اليمنية المعاصرة، التي قضت على كل شيء، بما في ذلك تدميرها المشهد الثقافي.
 

ديناميكيات الصراع السياسي

تتخذ بُنية الصراع -في مستواها السياسي في اليمن- طابعًا تتداخل فيه عدد من أشكال الصراع وأبعاده ومظاهره المختلفة، والمتنوعة بين السياسي والأيديولوجي والاجتماعي، على ما في طبيعته السياسية، من سياقات متجانسة مع مختلف أشكاله، حدّ احتوائه لمنظومة هذه الأشكال الأيديولوجية والقيمية والاجتماعية.

وقد تعاطت هذه التجربة الروائية مع تجانس هذه السياقات، فتضمّنت رواية "قوارب جبلية" عددًا من الإسقاطات السياسية، التي هدفت من خلالها إلى مكاشفة السلطة القائمة في الحيز الزمني للرواية، بحقيقة الواقع ومظاهر الصراع فيه، فعملت على تسريده في سلوكياتٍ وأحوالٍ متنوعة المضامين، من مثل: الجوع والتسول والشحاذة والتعذيب، والصراع الأيديولوجي والسياسي، والصراع المتخلِّق من الاعتقادات الشعبية في قدرات الكائنات الخرافية والأسطورية.

من أبرز تجليات ديناميكيات الصراع في هذه الرواية، ما يتعلق بالصراع الفكري، بين العلمانيين ومناهضيهم من الجماعات الإسلامية؛ إذ تبدأ شرارة الصراع بينهما من طرفٍ واحد: "الشباب الملتحون يصعدون السلالم، وينزعون الشعارات العلمانية الملصقة بأحجار باب اليمن"3.

ثم تأتي ردة فعل الطرف الآخر (العلمانيين): "الشباب المحلوقة شواربهم وذقونهم ينزلون بالحبال من أعلى باب اليمن، واضعين الشعارات العلمانية فوق الشعارات الإسلامية"4.

بعدها يحتدم الصراع بينهما، وصولًا إلى النهاية غير المتوقعة: "الشباب يختبرون مهاراتهم القتالية في البداية على نحو مضحك، ما بين رفس السلالم وقطع الحبال، ثم يختمونها على نحو مفجع، ما بين قتلى وجرحى، لينتصر الشعار المغاير لشعارات كلا الفريقين، شعار مبقع بالدم لا يُفهم مغزاه"5.

من خلال هذه المشاهد، تعاطت سردية الرواية مع الصراع في أولى مراحله، التي قام فيها على الصدام بين نسقين فكريين، أحالت عليهما الصفتان المتعلقتان برمزية شعر الوجه وغيابه في أفراد كلا النسقين: (أصحاب اللحى/ وذو اللحى الحليقة).

كما أحال سياق الصراع على تطرفهما؛ في سعي كل منهما إلى إلغاء الآخر، والحرص على أن تكون ملصقاته هي المستحوذة على مكان الصراع (أحجار باب اليمن).

وإلى هذا الموقف من بُنية الصراع، قدّمت الرواية صورًا مختلفة منه، في سياقاتٍ من المكاشفة والمشاكسة للمرجعيات الفاعلة في احتدامه: دينية، وعُرْفيّة، وسياسية. فأفضى هذا التسريد المشاكس إلى تداعياتٍ تفاقمت، فوصلت إلى اتهام الكاتب بالإساءة إلى المقدسات الدينية والعادات والتقاليد اليمنية. ومن ثم تهديد الجماعات المتطرفة باستباحة دمه، فكان المنفى ملاذه المؤقت، الذي لم يطل فيه بقاؤه؛ إذ عاد إلى البلد، بعدما تدخل الروائي الألماني (جونتر جراس)، الذي كان حينها في زيارة إلى اليمن، وعلم بالأمر، فاشترط لقبول وسام الجمهورية عودة الأهدل من منفاه، فرضخت السلطة السياسية لاشتراطه.

سردية التنوير

تداعيًا مع التصاعد في أنساق الصراع، وتجانُسًا مع مكاشفة "قوارب جبلية" في تيمة "التنوير"، تشكّلت البُنية السردية في رواية "فيلسوف الكرنتينة"6، التي حصلت فيها شخصيتها الرئيسة الفيلسوف اليمني "مشعل الحجازي"، على درجة الدكتوراه في الفلسفة الإنسانية، من جامعة لندن.

وتظهر في بُنية الشخصية -هذه- نسبتُها الحجازية وهويتها اليمنية، لتحيل على قصدية البناء السردي وغايته في توسيع تسريد الأحداث؛ لتشمل شبه الجزيرة العربية كلها؛ إذ أشار السياق إليها، بوصفها حيِّزًا لعودة مشعل إلى بلده المتجانس مع بُنيتها الديمغرافية.

 تضمن السياق السردي ما فوجئت به شخصية العمل لدى عودتها، من حالٍ مجتمعية مزرية، بعيدة كل البعد عن معنى الحياة الإنسانية، وأكثر قربًا من الحياة الحيوانية الخانعة، التي يعيشها أفراد المجتمع، وكأنهم في مقبرةٍ، وضَعَتْهم فيها سلطة حاكمهم الطاغية "القحطاني الكبير".

واجهت الشخصية أبعاد الصراع في مجتمعها البدوي وتناقضاته، بما فيه من جهل وتخلف وتشوه، حد التماهي فيه بين الإنسان والحيوان، وهو ما كان فاعلًا في تحفيز "مشعل"، وانخراطه في النضال الهادف إلى تحرير المجتمع، من التباس ماهيته (الإنسانية/ الحيوانية)، والانتصار للأولى منهما.

تحالف الجريمة والتعمية

تتوازى مع التنامي المتصاعد في بُنية الصراع في اليمن، آلية الاشتغال السردي عليها في روايات وجدي الأهدل؛ إذ يسعى هذا الاشتغال إلى استيعاب خصوصية هذا التنامي في وصوله إلى سياقه المرعب، الذي يحتد فيه الصراع بين طرفين متباعدين في مستوى قوة كل منهما ونفوذ، فيجد الأقوى فرصته في التنكيل بخصمه أو القضاء عليه، ومن ثم التعمية على حقيقة اقترافه الجريمة، والتمكن من تقديم ضحية بريئة، تحل محله، فيقع عليها العقاب.

وعلى تسريد هذه الحال المختلة، قامت سياقات رواية "حمار بين الأغاني"7، التي تعاطت مع إشكالية الجريمة والتعمية، فالشخصية الرئيسة فيها ــ"ثائرة"ــ فتاة بريئة، ومثلها عدد من الفتيات البريئات، اللواتي يعشن صراعًا مع مجرمٍ، يسرف في إزهاق أرواح الفتيات في ظروف غامضة. ومع كل جريمة ينجو من العقاب؛ إذ يتمكن من خداع المحيط، وإلصاق التُّهَم بأشخاص أبرياء، يتم إعدامهم.

وتكتنز هذه المفارقة الصادمة ــ في إشكالية الجريمة والتعمية ــ إحالةً على اهتراءٍ في نسق السلطة السياسية والقضائية، التي تقف في صف الجاني. وهي الإحالة التي تقوم عليها مفارقةُ هذه الإشكالية المجتمعية، في السَّبْرِ السردي لديناميكيات الصراع، وتصاعده المتقد، في رواية "بلاد بلا سماء"8.

تسرد الرواية حكاية شخصيتها الرئيسة، الطالبة الجامعية العشرينية "سماء"، وهي تخوض صراعًا مع محيطها الاجتماعي الذكوري، الذي يتعاطى معها بنزقٍ عدواني واضطهادي، بوصفها جسدًا لإشباع رغباته وغرائزه، مع ادعائه الفضيلة.

انتهى الصراع بهذه الفتاة إلى اختفائها الغامض، فتوالد منه صراعٌ بين السياق الاجتماعي الباحث عنها، وبين مَنْ دارت حولهم الشكوكُ في اقتراف هذه الجريمة، لينتهي الصراع الجديد إلى إلصاق التهمة بجار "سماء" الشاب "علي نشوان"، الذي كانت تجمعه بها علاقة محبةٍ، فَلَقِيَ حتفه على جُرْمٍ لم يقترفْه.

في سياق تسريد هذه الحكاية وتفاصيلها، اتسعت الفضاءات الدلالية في العمل، فأثرى بها مضامينه؛ إذ انطلق منها في تعاطيه مع إشكالات متعددة، حادة التنامي والتصاعد الحيوي المطرد، في ديناميكيات الصراع وتقاطعات مظاهره وأبعاده وسياقاته، ومشكلاته المختلفة، منها: البطالة، واضطهاد المرأة، وهشاشة التعليم العالي وفساد القائمين عليه، والنفوذ الذي تتمتع به البُنية القبلية والعشائرية، في صراعها الضمني مع المؤسسات الرسمية، التي لا تقوى على تنفيذ التشريعات القانونية، فترضخ لهذه السلطة الاجتماعية، وتتواطأ مع هيمنتها على مختلف جوانب الحياة.

الصراع الداخلي والخارجي

التصاعد في بُنية الصراع المستشري في الحياة اليمنية السياسية والاجتماعية، أمرٌ تُحَتِّمُه تفاصيلُ الحياة، وعلاقاتها الملتبسة بين أقطاب الهيمنة الفاعلة في النيل من كل ما يقف في طريقها. وعلى ذلك تترتب الحتمية في استمرارية بُنية الصراع ضِمْنَ أنساقٍ متنامية، يتظافر فيها الصراع الداخلي والخارجي، في إنضاج مصيرها المتجانس مع ماهيتها وجوهرها وامتدادها التاريخي.

تتشكل السياقات السردية في روايات وجدي الأهدل، في نسْجِ غايةٍ رئيسة، تتمثّل في استيعاب تنامي الفساد والصراع السياسي، بما في ذلك إشكالية السلطة القبلية وهيمنتها على السلطة الرسمية.

وإلى هذه الغاية -وجوهرها الكامن في قصدية التعاطي مع إشكالية سلطة القبيلة المتجاوزة كل سلطة سواها- كان سعي التسريد في روايته "أرض المؤامرات السعيدة"9، إذ تتنامى في تلك الإشكالية سطوة الواقع، وتناقضاته، وانعكاساته في العلاقات الاجتماعية، والغايات، والمسارات الفكرية، والقناعات المضطربة.

 ولا شك في أن أيّة ذاتٍ تعيش في خضم تقاطعاتِ صراعٍ إشكالي، ستتمزق بين جوهر القيم الإنسانية، والواقع الجاثم بأعبائه واشتراطاته، وفيها يجد الفرد نفسه راضخًا لاشتراطاتها الواقعية، التي انهزمت أمامها الشخصية الرئيسة "مطهر فضل"، الشاب الصحافي، الذي مزقه الصراع الذاتي بين سياقين: الواقع المحافظ، والفكر اليساري.

لقد تعايش مطهر مع سياق الواقع المحافظ المُتَشَكِّلِ من منظومةٍ متكاملة: قبلية ودينية وسياسية واجتماعية. فنشأ صراعه الداخلي بين هذا السياق الواقعي، وبين السياق اليساري بصيغتيه الماركسية والقومية، الذي ينتمي إليه أبوه، ومنه انتقل إليه، قبل أن يتمرد عليه، مشيرًا إلى أن لا مناص لديه من الانسياق إلى الطرف الآخر: "في هذه البلاد، إمّا أن تنحني للظلم فتأكل ملء الفم، وإما أن تحمل القلم وتحمّل الألم، دربان متناقضان، وأنا اخترت الدرب الأول، الدرب الأسهل"، (ص: 253).

مثّلت بُنية الصراع الداخلي في ذات مطهر، منطلقًا لما تصاعد من بُنى الصراع الخارجي، الذي بدأه تداعيًا مع ما كلّفه به رئيس تحرير الصحيفة التي يعمل فيها، حينما طلب منه التوجه إلى محافظة الحديدة، بعد أن نشرت صحيفة الأيام العدنية تغطيةً لتداعيات قضية اغتصاب حدثت فيها، اقترفها شيخ قبلي متسلط، في حق طفلة لم تبلغ العاشرة من عمرها.

 كانت مهمة مطهر العمل على تزييف القضية وتفاصيلها، وتقديم روايات كاذبة، ومفبركة، انتهت بتبرئة الشيخ من جُرمه، وتلبيس التهمة شابًا بريئًا، وهنا يتجلى التظفير... الفني في تشبيكِ خيوطِ تيمةٍ واحدة، تتجانس فيها عددٌ من روايات الكاتب، هي تيمة (الجريمة والتعمية)، أو قل تخادم السلطة والقبلية في تبرئة المجرم الحقيقي وتحميل غيره جريرته، ففي رواية "حمار بين الأغاني"، لم يعاقب المجرم الحقيقي وإنما عوقب غيره. ومثلها رواية "بلاد بلا سماء"، والأمر ذاته في رواية "أرض المؤامرات السعيدة"، التي آلت قضية الاغتصاب فيها إلى مشهدٍ مماثلٍ، نجى فيه المجرم، وعوقب شخصٌ غيره، بريءٌ مما نُسب إليه.

إن مجمل التعاطي السردي -الذي اتسمت به رواية "أرض المؤامرات السعيدة- هو التعاطي الاستيعابي، لتفاصيل واقعٍ تتداخل فيه معطيات الحياة وأبعادها: الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والفكرية، والإعلامية. بما في ذلك، العلاقة بين هذه المعطيات والأبعاد، وما تستند إليه من الفساد وانتهاك لحقوق الإنسان، وتحالُف القوى القبلية مع السلطة السياسية في تكريس هذا الواقع المتخلف، والنيل من كل نزعةٍ تحررية أو مناوئة، والقضاء عليها بتهمٍ الخيانة الوطنية.

ديناميكات الصراع والذروة المأساوية

مثلما كان الصراع الداخلي بُنيةَ انطلاقٍ لبؤر الصراع الخارجي، في رواية "أرض المؤامرات السعيدة"، فإن ماهية النسق ذاته، هي ما تجلّت في رواية الكاتب الأخيرة "السماء تدخن السجائر"، التي انطلقت في سياقاتها السردية من هذه البُنية نفسها (الصراع الداخلي)؛ الذي احتدم في ذات شخصيتها الرئيسة "ظافر"، وهو يسرد حاله: "عندما يأتي الضباب أكره نفسي، وأشعر بكراهية تجاه كلّ أحد، وأرغبُ في الاختفاء. حينها تسيطر عليَّ الذكريات السلبيّة فقط؛ إذا وجَّه إليّ أحدهم إساءةً قبل أعوام فإنها تعود إلى وعيي فجأةً وأستعرضها كفيلمٍ سينمائيٍّ، برفقة كل المشاعر التي انتابتني وقتها بكامل شدّتها. مثل الجائع الذي يتضوّر جوعًا فيتخيَّل الأطعمة الشهيّة، أتضوّر أنا من الحاجة إلى الألم النفسيّ، فأتذكّر المواقف والكلمات التي سبّبت لي الأذى على مدار سنوات عمري".

وسرعان ما تطغى على بُنية الصراع الداخلي ــ هذه ــ بُنية الصراع الخارجي بتفاصيلها، التي خاضها ظافر، بعد أن كتب مسرحيته "فتنة"، وقدمها إلى المؤسسة العامة للمسرح؛ ففوجئ بموقف رئيس المؤسسة من مسرحيته، واتهامه له بسرقتها من مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"، التي لم يسبق له أن قرأها من قبل: "وقعتُ في حيرة من التهمة، إذ لم يخطر ببالي قطّ ردّ كهذا. توقّعت أن يُخيّب أملي بقوله إنّ مسرحيتي خرقةٌ باليةٌ لا تصلح للعرض، لكنّ فاجأني تمامًا".

لم يستسلم ظافر في جولة الصراع هذه، وإنما قرر الانتقام بطريقته الخاصة، فشكّل فرقةً مسرحيّة، ومَوَّلَ عرض مسرحيته على حسابه الخاص. لكن ذلك لم يَحُلْ دون كارثة الصراع الخارجي، غير المقصور على هذا المستوى من المواجهة التي يخوضها المبدعون، وإنما يمتد ليشمل علاقات الحياة المختلفة كلها، بما فيها تداعيات الموروث المتراكم من الإشكاليات والمعضلات المتنامية، التي تحول بين البسطاء وبين أحلامهم المتواضعة، فيصطدمون بنفوذ الأقوياء المسنودين بقوىً سلطويةٍ، فاعلة في إلحاق الهزيمة بالطرف الأضعف، في سياق هذه المعادلة غير المستقيمة.

وتُفضي بُنية الصراع المتصاعدة في حدّتها، إلى ذروته المأساوية المتمثلة في حرب طاحنة، فاتكة بكل شيء. وقد تداعت سردية العمل مع هذه الذروة، فقدمتْها من خلال شخصية ظافر، الذي يمثل نموذجًا للإنسان اليمني المنتمي إلى البسطاء، أولئك الذين ينالهم الضرر الأكبر من الصراع الدموي (الحرب)، إذ تدمر منازلهم، وتجبرهم على النزوح، وتذيقهم معاناة الحياة واشتراطات البقاء على قيدها، بعد أن تصادر منهم ما اعتادوا عليه من مقومات الحياة في حدودها المتواضعة.

وضمن سياقٍ من الأمل الذي عملت الرؤية السردية على تسريده، يأتي الانفتاح على عاطفة الحب؛ بوصفها ملاذًا من سعير الحرب، لكنها انصهرت بالسعير نفسه؛ إذ نالت الحرب من عاطفة ظافر، مثلما نالت من مصدر رزقه، حينما قُصِفَ مصنع "البطاطس"، الذي آلت إليه حياته، بعد مغادرته العملَ المسرحي وانكساره في الصراع مع المؤسسة الرسمية الثقافية، حتى بعد محاولته الصمود بطريقته الخاصة.

وفي السياق نفسه، ألْقَتْ الرواية الضوء ــ من خلال حياة ظافر التي تجسّدت فيها الحياة اليمنية المعاصرة ــ على كارثية الحرب ومظاهر القصف والدمار، وما تركه الصراع من آثارٍ مأساوية في النسيج الاجتماعي والعلاقات بين أفراده، وما ترتب على ذلك كله من صياغةِ ذاكرةٍ جماعية، مثخنةٍ بيوميات الحرب وجراحاتها، التي لا تبرأ حتى وإن انتهت الحرب، وإنما تستقر في أغوار اللاوعي من الذهنية الجمعية واستشرافها المستقبلي المضطرب.

ديناميكيات التداعي

من أبرز سمات تجربة الأهدل الروائية، تداعيها مع واقعية الصراع وصيرورته ومساراته المتصاعدة في اليمن، إذ تراتبت أولى تجليات هذا الصراع، في بعضٍ من السياقات، التي قامت عليها السرديةُ في رواياته الثلاث الأولى: "قوارب جبلية"، و"حمار بين الأغاني"، و"فيلسوف الكرنتينة".

وحينما بلغ الصراع في ديناميكيته الواقعية مستوىً متقدمًا من الحدة والحيوية، استوعبت روايته "بلاد بلا سماء"، ماهية الصراع وجوهره، الذي تداخلت في تشكيله عوامل اجتماعية وقبلية وسياسية ودينية، بما في هذا الاستيعاب من استشرافِ مستقبلٍ مرعب، أحال عليه اختفاءُ شخصية الرواية، كما أحال مصيرها هذا على ما ينتظر البلد كله من مصيرٍ مشابه بشكل أو بآخر.

بدأ يتشكل هذا المصير المشابه، فيما تتابع من مراحل الصراع المتعاقبة، وصولًا إلى مرحلة مفصلية، سادت فيها الهشاشة المؤسسية في بُنى الدولة المنخورة بالفساد وهيمنة القوى القبلية، والتكالب المسعور على السلطة بين أقطابها المتحالفة طيلة عقود.

وقد ترتب على ذلك كله بلوغ الصراع مستواه المنذر بكارثة قادمة، وهو المستوى الذي اضطلعت رواية "أرض المؤامرات السعيدة"، بالتعاطي معه، حيث لم يكن هناك مناص من أن تكون نتيجة كل تلك المؤشرات حربًا ضروسًا، أجهزت على ما تبقى من أحلامٍ بوطنٍ آمن ومستقر، فكانت سردية الرواية توصيفًا لعوامل اندلاعها.

 ومن ثم، كانت روايته "السماء تدخن السجائر"، استمرارًا لسرديته المتداعية مع بنية التصاعد في الصراع المحتدم، وتتويجًا لرؤيته الاستشرافية فيما سبق من منجزه السردي، وتسريدًا لذروة الصراع (الحرب)، التي اضطلعت الرواية باستيعاب أحداثٍ حيَّةٍ من يومياتها الدامية.

تسريد الصراع: التوازي والمغايرة

 لقد مثّلت روايات الأهدل ــ بدءًا من "قوارب جبلية"، حتى آخر إصداراته روايته "السماء تدخن السجائر" ــ نسقًا من التداعي السردي السابر لبذور الصراع، وسيرورة النمو في مساراته ذات التصاعد والاحتدام المطرد، وصولًا إلى أقصى مستواه الكارثي بصورته المأساوية التي تعيشها اللحظة المعاصرة.

ومن خلال التأمل في هذا النسق ــ من التداعي السردي الذي تفردت به الكتابة الروائية في تجربة الأهدل السردية ــ يتضح أنه نسقٌ قائمٌ ــ في جوهره ــ على منحىً مغايرٍ لطبيعة التصعيد التي اتّسم بها الصراع، إذ بدأ الأهدل في تسريد الصراع بدايةً صادمة: مكاشَفةً، ومواجَهةً، وتعْرِية. ثم بدأ في استيعاب ردة الفعل الاجتماعي العدائي، من خلال العمل على آلياتٍ فنيةٍ أكثر عمقًا وسبرًا لماهية الصراع وتفاصيله، ومن ثم تسريدها في سياقاتٍ مُؤثَّثة بتقنيات فنية، فتوازى التنامي في آليات الكتابة ــ وتوظيفها في كل رواية جديدة ــ مع التنامي في احتدام الصراع، وصولًا إلى ذروته التي استوعبتْها روايته "السماء تدخن السجائر".

وبذلك تبلورت المغايرة بين نسقي الصراع: (الواقعي، والسردي)، فبينما تنامى النسق الواقعي وتصاعد حتى الحرب، كانت بداية النسق السردي صدامية، ثم تسلّح بآلياتٍ فنية، فاعلةٍ في استيعاب جوهر الصراع وأبعاده المختلفة.

وقد اتّسمت تجربة الكاتب السردية ــ من خلال هذه المغايرة ــ بحيويةٍ واستمراريةٍ متناميةِ الآليات والتقنيات. كما اتّسم ــ في الوقت نفسه ــ منجزُه الروائي بفرادةٍ، أضفت على بُنيته السردية (الروائية) تماسُكًا نسيجيًّا، بين سياقات موضوعاته وخيوطها السردية ذات المسارات المتقاطعة، والحيثيات المتشابكة، التي تتناسل في حتمية الحياة واستمراريتها الوجودية.

 


الهوامش: 1. وجدي الأهدل، "قوارب جبلية". ط2، رياض الريس، بيروت، 2002.┇2. وجدي الأهدل، "السماء تدخن السجائر". ط1، دار هاشيت أنطوان، بيروت، 2023.┇3. وجدي الأهدل، "قوارب جبلية". مرجع سابق، ص: 11.┇4. نفسه.┇5. نفسه.┇6. وجدي الأهدل، "فيلسوف الكرنتينة"، ط1، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2007.┇7. وجدي الأهدل، "حمار بين الأغاني"، ط2، سلسلة آفاق عربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011.┇8. وجدي الأهدل، "بلاد بلا سماء". ط2، دار التنوير، بيروت، 2012.┇9. وجدي الأهدل، "أرض المؤامرات السعيدة"، دار هاشيت أنطوان ــ نوفل، بيروت، 2018.

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها