رسالة الفن.. وقصة لا تنتهي!

أحمد الغانم


يتمحور هذا المقال حول أغنية «زنابق لمزهرية فيروز» للفنان البحريني خالد الشيخ. تقاطعت في هذه الأغنية أركان عدة تجعلها جديرة بلقب «الأغنية العربية بامتياز»، بكل ما تحمله من دلالات عميقة، حيث تلاقت المعاني والهموم المشتركة عبر الفن، ليكون رسالة إنسانية لا تُختزل في الترفيه فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى بعد وجداني وإنساني.


كلمات الأغنية للشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، وهنا يظهر القاسم المشترك في أصل هذه الأغنية: فلسطين، وموضوعها مدينة القدس بما تمثّله من أهمية كبيرة لدى الأديان السماوية الثلاثة على حدّ سواء.

وقبل التعمق في الجوانب الفنية لهذه الأغنية الرائعة، لنعد قليلاً إلى الوراء لنتأمل جذورها. فقد كتب الشاعر الفلسطيني سميح القاسم قصيدته ونشرها في ديوانه عام 1968 «دخان البراكين»، متأثراً بأغنية فيروز والرحابنة «زهرة المدائن»، التي غنّتها فيروز وصُوّرت عام 1966، إثر زيارتها لمدينة القدس سنة 1964. وفي جولة لها بين شوارع القدس آنذاك، أهدتها سيدة مقدسية مزهرية، في محاولة لتخفيف وطأة الحزن الذي خيّم عليها من هول ما رأته هناك، فلم تتمالك نفسها من البكاء.

جاءت كلمات قصيدة القاسم لتشكل لوحة رائعة تجسّد التنوع والتسامح الديني الذي امتازت به القدس؛ حيث ذُكرت المعابد والكنائس ثم المساجد بشكل متتالٍ، كنموذج واضح لهذا التعايش.

وقد أتت قصيدة سميح القاسم لتُكمل هدية السيدة المقدسية، كما صرّح في خاتمتها:
"وردٌ... ومزهرية من القدس العتيقة"!

الفنان خالد الشيخ، وبعد مرور عقدين من الزمن، قام بإطلاق أغنيته «زنابق لمزهرية فيروز» عام 1989 ضمن ألبومه «ضيعوك». لكنه أضفى عليها بُعداً فنياً استثنائياً من خلال تعاونه مع أسماء لامعة في العالم العربي، أبرزهم المايسترو المصري العالمي مصطفى ناجي، الذي قام بتوزيع الأغنية بأسلوب أوركسترالي مميز، ولمسات جعلت منها عملاً خالداً يمكن للمستمع العربي وغير العربي تذوّقه. ويتجلّى ذلك من خلال التلوين الآلي وتباين الموازين، ما يضفي عنصر تشويق متفرّد.

في المقدمة الأوركسترالية التراجيدية، تظهر آلة العود بريشة خالد الشيخ، لتفصح عن هُوية الأغنية في حوار مع آلة النفخ الخشبية (الكلارنيت)، في لحظة تباين مؤثرة ذات وقع قوي على أذن المستمع. وعند سطوة دخول الآلات النحاسية التي توحي بالقوة والبطش، تنهار هذه السطوة لصالح المقام العربي مع نهاية المقدمة، التي تمهّد لأول كلمات الأغنية، على إيقاع الوحدة الصغيرة بطَرقات الرق، لتأخذك إلى أحضان الروح الشرقية.

يستهل خالد الشيخ بكلمات:
"من أين يا صبيّة..." ليأتي بعده صوت الفنانة الراحلة رجاء بلميح من المغرب، فتُكمل هذا الحوار الفني الشجي.

كلمات سميح القاسم تُجسّد لحظات تخيلية بينه وبين فيروز، يستعيد فيها مشهد تلقّيها المزهرية من السيدة المقدسية. وقد نجح خالد الشيخ في تجسيد هذا المشهد ببراعة عبر كامل الأغنية.

الشيخ لم يدخر جهداً في التفاعل اللحني مع النص؛ إذْ أبرز العديد من اللمسات الفنية، من بينها التحويل المقامي في أكثر من موضع، ثم التصاعد اللحني بصوت بلميح القوي، لإبراز صورة المنارة وشموخها، وصولاً إلى كلمة «المآذن»، وهي مفردة تتقاطع مع أغنية «زهرة المدائن». وعند هذه الكلمة، تصدح بلميح بلحن الأذان في قفلة موسيقية استثنائية.

يواصل خالد الشيخ تحويلاته المقامية ليصل بصوته مع بلميح إلى نهاية تتوّج بروح الانتصار مع عبارة: "من القدس العتيقة...".
 

لقد استطاع خالد الشيخ، برؤيته الفنية المتفردة، أن يقدم عملاً موسيقياً جمع فيه نخبة من الفنانين العرب، لتنتقل الرسالة من فلسطين إلى لبنان، ثم تعود إلى فلسطين، ومن هناك إلى البحرين ومصر والمغرب، حاملة معها رسالة واضحة مفادها أن جذوة الفن الأصيل لا تنطفئ؛ لأنها تحمل رسالة إنسانية سامية تتجاوز حدود الزمن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها